أفيش ملون لفيلم قديم، تتصدره عيون محدقة لشخص ملثم، ومجموعة محاربين يرتدون ملابس عربية ويمتطون الخيول والجمال، وتحت كل ذلك عنوان بخط أسود عريض يحمل اسم الفيلم “مجد الإسلام في جزيرة العرب”، مصحوبا بتعليق مثير للاهتمام “أول فيلم أمريكي بموسيقى محمد عبدالوهاب”! وفي نهاية الأفيش قائمة بالأبطال الذين لا نكاد نعرف أحدا فيهم، وعلى أقصى اليسار توقيع مخرج الفيلم، الأمريكي “ريتشارد ليفورد”.

على الشبكات الاجتماعية انتشرت مؤخرا صور أفيش فيلم “مجد الإسلام في جزيرة العرب”، حيث يؤكد من يتدولون هذه الصور أنها ترجع لأول فيلم عن الإسلام تنتجه الولايات المتحدة في خمسينات القرن الماضي، وأنه يتناول قصة ظهور الإسلام وبداية بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم!

المعلومة السابقة مثيرة بالقدر الكافي لتدفع أي شخص يصادفها للتساؤل: كيف أنتجت أمريكا فيلما عن الإسلام في الخمسينات بينما لا نعرف عنه أي شيء ولم يشاهده أحد؟ حيث كانت أغلب التعليقات على الأفيش تسأل عن الفيلم وعن كيفية مشاهدته مؤكدين جميعا أنهم لم يشاهدوه من قبل ولم يسمعنوا عنه!

في السطور التالية، نقوم بجولة سريعة للبحث عن هذا الفيلم ومعرفة قصته الحقيقية، ومن يقف وراء إنتاجه والسبب وراء نسيانه واختفائه بهذا الشكل حتى أن البعض اعتبره فيلما “مفقودا”، والأهم معرفة ما إذا كان الفيلم يتناول قصة الإسلام فعلا أم أن له قصة مغايرة تماما؟

النفط وقصة التأسيس

البحث عن معلومات حول الفيلم باسمه العربي “مجد الإسلام في الجزيرة العربية” لا يقود إلا إلى معلومات محدودة تبدو غير مقنعة لا تختلف عما نشر بالشبكات الاجتماعية، كما لا توجد صفحة بالاسم ذاته على موسوعة السينما العالمية IMDB، لذا لم يكن هناك وسيلة للعثور على تفاصيل الفيلم سوى بالبحث المشاركين فيه، وكان أبرزهم مخرج الفيلم، الأمريكي ريتشارد ليفورد.

على صفحة ليفورد بموقع IMDB يمكن أن تعثر من بين الأعمال التي قام بإخراجها على فيلم يحمل اسم “Island of Alla” من إنتاج عام 1956، بينما لا تتضمن صفحة الفيلم سوى أفيش النسخة العربية التي ظهر الفيلم عليها باسم “مجد الإسلام في جزيرة العرب”، ما يعني أن Island of Alla كان في الغالب الاسم الأمريكي للنسخة الأصلية.

أهم ما تكشفه صفحة الفيلم على IMDB هو أن الفيلم لا يتناول قصة ظهور الإسلام كما كتب على الشبكات الاجتماعية، ولا يتناول حياة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأساس، وإنما تدور أحداثه حول قصة التنقيب عن النفط في المملكة العربية السعودية خلال ثلاثينات القرن الماضي، وتأسيس السعودية على يد الملك عبدالعزيز آل سعود في مطلع القرن ذاته!

عند بدء البحث بالاسم الأمريكي للفيلم Island of Alla بدأت تظهر معلومات مقتضبة تشير إلى أن الفيلم كان من إنتاج شركة أرامكو السعودية! وعند الذهاب إلى موقع Aramco Expats التابع لشركة أرامكو والمتخصص في نشر أخبارها وبالأخص أخبار العاملين الأجانب بها، ظهرت التفاصيل والقصة الحقيقية وراء هذا الفيلم المنسي.

فيلم لمحاربة البعوض!

في مقال بعنوان Island of the Arabs منشور على موقع أرامكو إكسباتس في أغسطس 2012، يقول الكاتب Tim Barger، إنه في أوائل خمسينات القرن الماضي، كانت لشركة أرامكو نشاطات خدمية واجتماعية واسعة في المنطقة الشرقية بالسعودية، كونها تضم المقر الرئيسي للشركة بمدينة الظهران، وكان من بين هذه الجهود، محاربة الذباب والبعوض.

ويوضح بارجر أن البعوض كان بمثابة العدو الأول لسكان المنطقة، حيث كان ينتشر بكثافة وكان سببا رئيسيا في انتقال الأمراض خاصة الملاريا، ولم تكن جهود مكافحته بالمبيدات الحشرية وحدها كافية، بل كان من الضروري تغيير السلوك العام للمواطنين للقضاء عليه، وهي المشكلة الرئيسية التي واجهت وزارة الصحة السعودية حينها، حيث لم يكن هناك سوى عدد قليل من السعوديين يقدر خطورة الأمر.

ورغبة من شركة أرامكو في المشاركة بجهود تثقيف الجمهور وإثارة حماسته بما يكفي لاتخاذ الإجراءات الاحترازية اللازمة للتصدي للبعوض، قررت إنتاج فيلم توعوي مدته عشر دقائق باللغة العربية بعنوان The Fly.

وعلى الفور بدأ مكتب الشركة في نيويورك بالبحث عن مخرج له خبرات جيدة يستطيع إنتاج هذا الفيلم الذي سيعد بمثابة باكورة إنتاجات الشركة، حيث استقروا في النهاية على المخرج ريتشارد ليفورد، الذي كان قد فاز حينها بجائزة الأوسكار عن الفيلم الوثائقي Titan عام 1951، والذي يتناول فيه سيرة حياة مايكل أنجلو.

بمجرد الانتهاء من فيلم The Fly، أرسلت الشركة وحدات لعرضه على نطاق واسع بمختلف محافظات المنطقة الشرقية، وبالأخص في الأسواق، وحتى داخل القرى الصغيرة على أطراف مدينة الهفوف.

اللافت أن الفيلم كان مثيرا لحماسة السعوديين، حيث كان بالنسبة للكثيرين أول فيلم يشاهدونه على الإطلاق، وبالرغم من أن أماكن العرض التي خصصتها أرامكو لم تكن تعرض سوى هذا الفيلم، إلا أن الجمهور تكالب على مشاهدته وكان يطالب بعرضه مرارا وتكرارا.

الفيلم كان مؤثرا وفعالا، حيث فهم الناس خطورة البعوض والذباب، وتعلموا كيفية الحد من أضراره من خلال ما شاهدوه، وهو ما دفع شركة أرامكو للتعاقد مع ليفورد مجددا لإنتاج فيلم عن المياه وأهمية المحافظة عليها حمل اسم Miyya، والذي كان ناجحا بنفس القدر تقريبا.

فيلم “جزيرة العرب”

نتيجة لهذه النجاحات، بدأت شركة أرامكو تتحمس للتوسع في إنتاج الأفلام، وقرر مكتب الشركة في نيويورك إنتاج فيلم روائي طويل عن السعودية ودور أرامكو فيها عام 1954، بعد أقل من عام على رحيل الملك عبدالعزيز آل سعود، وكان من الطبيعي اختيار ريتشارد ليفورد، بعد النجاح الذي أثبته معهم خلال الفيلمين السابقين.

يقول المؤلف روبرت فيتاليس في كتاب له بعنوان “America’s Kingdom” أن الفيلم الجديد حمل في البداية اسم The Island of the Arabs أو “جزيرة العرب”، وكان يتناول قصة ظهور النفط في السعودية بعد وصول الجيولوجيين الأمريكيين الأوائل إلى مدينة الجبيل لاستكشاف الصحراء في ثلاثينات القرن الماضي.

كما يروي الفيلم بالتزامن مع ذلك قصة “معركة الرياض” التي وقعت عام 1902 بين الملك عبدالعزيز آل سعود وبين آل رشيد، والتي انتهت بانتصار آل سعود ودخولهم إلى الرياض “الدرعية”، وهو الانتصار الذي كان حاسما وسببا رئيسيا في إعلان تأسيس المملكة العربية السعودية الحالية.

ويضيف فيتاليس بقوله إن الفيلم يبدأ بظهور الملك الراحل سعود بن عبدالعزيز، الابن الأكبر للملك عبدالعزيز، ساردا قصة تأسيس المملكة، ثم تبدأ الأحداث الدرامية في الفيلم بوصول ثلاثة من علماء الجيولوجيا الأمريكيين إلى السعودية، ثم يأخذ دليلهم المسن، في سرد تاريخ شبه الجزيرة العربية وقصة معركة الرياض، لتبدأ مشاهد المعارك التي تعد أكثر شيء مثير في الفيلم الذي وصفه بـ”الفاتر”.

طاقم تمثيل من الموظفين!

يقول بارجر إنه لسبب ما، يعتقد أنه اقتصادي، تم الاتفاق على أن يقوم موظفي شركة أرامكو بأداء بطولة الفيلم بدلا من التعاقد مع ممثلين محترفين، حيث قام جون آر جونز، الموظف بإدارة العلاقات الحكومية في الشركة، بأداء دور الملك عبدالعزيز آل سعود في شبابه، كما قام موظف يدعى سعيد الشوا من قسم شؤون العاملين بأداء دور الأمير عبدالله بن جلوي ابن عم الملك سعود، وتم الاستعانة بسيدة تدعى فاطمة بنت علي، يعتقد أنها من العاملين بالشركة أيضا، لأداء أحد الأدوار النسائية.

وكان الممثل الشهير الوحيد تقريبا الذي شارك في الفيلم هو الممثل الأمريكي فردريك مارش، الحاصل على جائزة الأوسكار مرتين، والذي قام بالتعليق الصوتي في النسخة الإنجليزية، بينما قام بالتعليق في النسخة العربية الممثل الأمريكي ذي الأصل الفلسطيني عيسى الصباغ.

أما موقع التصوير، فقد قام المخرج بتصوير الفيلم في حصن قديم بمدينة الهفوف، بعد تدخل من الأمير سعود بن جلوي أمير الأحساء حينها، والذي قدم كذلك العديد من الجنود والحراس الشخصيين له للمشاركة في الفيلم، إضافة إلى الخيول التي حصل عليها الفيلم من اسطبلات الأمير الشخصية.

فيما يكشف أفيش النسخة العربية للفيلم، أن الموسيقى وضعها الموسيقار المصري محمد عبدالوهاب، حيث أرجع البعض السبب وراء اختيار عبدالوهاب لوضع الموسيقى التصويرية للفيلم، بناء على تطويره للموسيقى العربية ومزجها بالموسيقى الغربية، وهو ما رآه المخرج قادرا على عرض سحر الشرق أمام المتفرج الغربي.

العرض الأول.. في القاهرة!

كان من اللافت أن العرض الأول للفيلم لم يكن في السعودية، حيث لم تكن دور السينما قد افتتحت في السعودية بعد، بالرغم من وجود دور محدودة وصغيرة تخص الموظفين الأمريكيين بشركة أرامكو، ولم يكن العرض الأول كذلك في أمريكا، بل كان في القاهرة.

حيث يقول فيتاليس في كتابه، إنه ذات ليلة في يونيو 1955، قام مسؤولو شركة أرامكو باصطحاب عدد كبير من الضيوف إلى سينما “كايرو بالاس” بالقاهرة لمشاهدة العرض الأول من الفيلم، بعدما تم تغيير اسم النسخة العربية منه إلى “مجد الإسلام في جزيرة العرب”.

ويتابع بقوله أن الضيوف كانوا عبارة عن مجموعة من كبار الرجال العاملين بمجال النفط في العالم، بالإضافة إلى السفير الأمريكي بالقاهرة هنري بيرواد، وبعض أفراد العائلة المالكة السعودية، وصفوة المجتمع في القاهرة من محامين ورجال أعمال ورجال جيش وعاملين بالإعلام والفن، ورجال أعمال أوروبيين، ومعهم النجم الهوليوودي الوحيد الذي حضر هذه الأمسية، دون آدامز.

بعد هذا العرض، تم طرح الفيلم للعرض التجاري في القاهرة أمام الجمهور، حيث عرض مدبلجا إلى العربية، وهو ما يظهر من أفيش النسخة العربية، والتي تكشف أن الفيلم بدأ عرضه من يوم الاثنين 6 يونيو 1955 بسينما كايرو بالاس بالقاهرة وأمير بالإسكندرية، مع التأكيد على أن الفيلم “بالألوان الطبيعية”.

تتطلب عرض الشرائح هذه للجافا سكريبت.

فيلم “لا طعم له”

بعد ستة أشهر تقريبا من بدء عرض الفيلم بالقاهرة، قرر مكتب شركة أرامكو في نيويورك طرح الفيلم في السينمات الأمريكية، إلا أن الموزع رأى بأن الفيلم بشكله الذي كان عليه، لن يشجع المشاهد الأمريكي على التوجه إليه ودفع الأموال لدخوله، لذا رأى إجراء بعد التعديلات.

أول تعديل كان تغيير اسم الفيلم إلى Island of Alla أو “جزيرة الله”، حيث اعتقد الموزع أن عنوان “جزيرة العرب” غير جاذب بالقدر الكافي، بينما وضع لفظ الجلالة في العنوان سيكون له تأثير أكبر، أما ثاني تغيير فكان الاستغناء عن المشاهد الافتتاحية للملك سعود بن عبدالعزيز، بينما كان التغيير الثالث هو إضافة رقصة شرقية في نهاية الفيلم استغرقت ما يزيد على 7 دقائق، لم يكن لها أي علاقة تقريبا بالأحداث.

وبالرغم من كل هذه التعديلات، إلا أن الفيلم فشل في تحقيق أي انتشار، وبعد عرضه بأحد دور سينمات الدرجة الثانية في مانهاتن، في شهر يونيو عام 1956، سرعان ما رفع من دور العرض، ولم يتم عرضه بشكل تجاري ثانية في الولايات المتحدة حتى اليوم.

حيث نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، في اليوم التالي لبدء عرضه بمنهاتن، مقالة قصيرة انتقدت الفيلم ووصفته بأنه فيلم يتضمن مشاهد متقطعة “لا طعم لها”، وأن الرقصة الشرقية كانت مقحمة عليه، وأنه لا يمكن اعتباره فيلما وثائقيا ولا فيلما دراميا، ولا يوجد وصف محدد يمكن إطلاقه عليه.

ذاكرة التلفزيون السعودي

بعد فشل الفيلم في شباك التذاكر الأمريكي، تم نسياته لعدة أشهر، قبل أن تعود شركة أرامكو وتقرر الاستفادة منه، عندما بدأت الشركة البث التلفزيوني باللغة العربية عبر محطتها في الظهران عام 1957، والتي كانت بمثابة أول محطة تلفزيون يتم إنشائها بالمملكة العربية السعودية، حيث كان فيلم “مجد الإسلام في جزيرة العرب” هو أول فيلم تعرضه محطة أرامكو عبر شاشتها.

ولاحقا، عندما تم إطلاق البث التلفزيوني السعودي في منتصف ستينات القرن الماضي، بدأ التلفزيون يعرضه بانتظام في ذكرى اليوم الوطني السعودي الذي يوافق 23 سبتمبر من كل عام.

ويقول بارجر أنه شاهد الفيلم لآخر مرة في التلفزيون السعودي، وهو بمنزله في جدة عام 1979، حيث خطر لها حينها أن جيلا كاملا من الأطفال السعوديين نشأوا وهم يعتقدون أن الملك عبدالعزيز آل سعود يشبه موظف شركة أرامكو جون جونز الذي أدى دوره في الفيلم.

ويبدو أن الفيلم تم وقف عرضه لاحقا على التلفزيون السعودي، ومع مرور الوقت تم نسيانه تماما، حتى أنه لم يعد أحد يتذكره من السعوديين ولا تكاد تجد له أي حضور على حساباتهم بالشبكات الاجتماعية، كما لا توجد أي نسخة كاملة للفيلم متوفرة على أي منصة، ولم نعثر سوى على جزء صغير منه لا يتجاوز التسع دقائق على موقع يوتيوب، تتضمن مشاهد القتال في معركة الرياض وانتصار الملك عبدالعزيز آل سعود.