بدأت القصة بعجوز ثمانيني، قرر السفر جوا مسافة 10 آلاف كيلو مترات من هوليوود إلى القاهرة، لمقابلة اللواء محمد نجيب باعتباره حاكم مصر في ذلك الوقت، طالبا السماح له بتصوير آخر وأهم أفلامه الملحمية بالقرب من أهرامات الجيزة، عن النبي موسى وقومه وخروجهم من مصر، ولكن بدلا من مقابلة نجيب، فوجئ الرجل بنفسه داخل سيارة انطلقت به سريعا صوب خيمة نصبت في الصحراء على أطراف المدينة، ليجد في انتظاره شاب في زي عسكري، طويل القامة، ذو كاريزما طاغية، ويتحدث الإنجليزية كأهلها، إنه البكباشي جمال عبدالناصر!

مليئة مصر بالكنوز المنسية التي أُهيل عليها التراب.. نجوم توارت واختفت، وفقَد الكثيرون شغف البحث عنها.. أحداث صارت من الماضي، ولم تجد من يُنقِّب ويفتش في خباياها، إلا أن نسيانها لم يَعْنِ أبدًا أنها فقدت أَلَقها، بل ربما كان النسيان المؤقت هو ما زاد تلك الكنوز قيمةً وإثارةً.

فقدان شغف البحث والتقصي، خصوصًا فيما يتعلق بالتاريخ الكبير للفن والثقافة في مصر، آفة كبرى، قد تدفع ثمنها الأجيال الشابة؛ لذا، رأينا أن يكون مشروعنا الصحفي المشترك هو التنقيب في بطن التاريخ القريب لا البعيد، والبحث فيه عن الحقائق المثيرة والمنسية؛ لعلنا نقدم للقارئ متعة ونساعد في إعادة كتابة ذلك التاريخ المجهول.

ولن نكون مبالغين إذا قلنا إن ذلك التاريخ لايزال بمنزلة خبيئة ممتلئة عن آخرها لم يؤخذ منها سوى القليل. والقصة التي نحن بصدد روايتها في السطور التالية، هي إحدى الجواهر النادرة القابعة في قلب تلك الخبيئة؛ لما تحمله من إثارة ودهشة.

وقعت أحداث تلك القصة على مدار ما يقرب من قرن من الزمان، ومرشحة لأن تستمر لسنوات أخرى، إذا ما وجدت كلماتنا صدى وإنصاتًا؛ فقصتنا عن مدينة فرعونية بُنيت في القرن العشرين!. بناها شيخ مخرجي أمريكا وملك هوليوود المتوج «سيسيل بي دي ميل» في موضع ما بصحراء مصر الغربية، بعدما أنفق عليها ملايين الدولارات، ثم تركها ورحل، لتذهب طي النسيان.

هذا ما عشنا معه خلال أشهر من البحث والتقصي والقراءة والترجمة والذهاب والجيئة بين عدد من الأماكن في مصر، يحدونا أمل الوصول إلى تلك المدينة، ثم يضربنا اليأس والإحباط، ثم يقودنا خيط إلى أمل آخر.. وهكذا طوال رحلة لم تتوقف من المتعة، اكتشفنا خلالها تفاصيل مدهشة، وسعينا إلى ما هو أبعد من مجرد موضوع صحفي استقصائي طويل حاولنا أن نصل إلى نهايته.

قصة المدينة المفقودة، كانت أكبر مما كنا نتخيل، وكانت وراءها أحداث بدأت في أمريكا وانتهت في مصر، حاولنا جمع كل تفاصيلها المتاحة على أمل العثور عليها، وهو ما نزعم أننا توصلنا إليه، إلا أن الوصول لا يعني أبدًا نهاية الرحلة.

في السطور التالية، نسرد قصتنا بالتفصيل، والتي تستوجب أن نتعرف أولا على واقعة حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية كانت هي الملهم لنا للانطلاق في رحلتنا بمصر بحثًا عن أهم كنوز السينما العالمية القابعة تحت رمال الجيزة.

مدينة «دي ميل» المفقودة في صحراء الجيزة
مدينة «دي ميل» المفقودة في صحراء الجيزة

***********

«أبو الهول الأمريكي».. التنقيب عن حارس الأهرامات في كاليفورنيا!

في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، كان بيتر بروسنان شابًّا في مقتبل العمر يدرس السينما بجامعة نيويورك، عندما سمع لأول مرة من صديق له، عن قصة بدت مجنونة لدرجة يصعب تصديقها.. قصة ستحتل حيزًا كبيرًا من حياته يمتد لأكثر من 30 عامًا!

فقد أخبره صديقه أنه في مكان ما على طول الساحل الأوسط الوعر لولاية كاليفورنيا الأمريكية، وتحت أفدنة من الكثبان الرملية؛ تقبع بقايا مدينة مفقودة لم يعد أحد يتذكرها.

ظن بروسنان في البداية أنه لو صحت تلك المعلومات، فقد تكون تلك مدينة أثرية ترجع إلى أحد الشعوب التي عاشت قبل آلاف السنين في الأمريكتين، إلا أن صديقه أربكه عندما قال إن تلك البقايا تتضمن معبدًا مصريًّا ضخمًا، والعشرات من تماثيل «أبو الهول»، وثمانية أسود عملاقة، بخلاف أربعة تماثيل للملك المصري «رمسيس الثاني» يبلغ وزنها 40 طنًّا! مؤكدًا أنها دفنت جميعها في الرمال على بعد 15 ميلًا تقريبًا شمال لوس أنجلوس!

يقول بروسنان: «لقد كانت قصة لا تُصدق.. اعتقدت أن صديقي مجنـ.ـون».

ولكن كيف عبرت تلك الآثار المصرية قارة أفريقيا بأكملها وطارت فوق المحيط الأطلسي وقطعت أمريكا من شرقها إلى غربها حتى استقرت في صحراء كاليفورنيا؟ إنها قصة تعود إلى عام 1923.

بيتر بروسنان وصديقه بروس كاردوزو الذي كان أول من أخبره بقصة المدينة المفقودة
بيتر بروسنان وصديقه بروس كاردوزو الذي كان أول من أخبره بقصة المدينة المفقودة

********

أولى ملاحم هوليوود

في عام 1922، كان المخرج الأمريكي «سيسيل دي ميل» واحدًا من نجوم هوليوود الذين يُشار إليهم بالبنان؛ فقد كانت نشاطاته السينمائية الأولى هي البذرة التي وضعت أسس مدينة السينما في العالم.

بحلول ذلك العام، كان «دي ميل» رغم شهرته يعاني من سلسلة إخفا قات سينمائية محرجة، وكان يبحث عن تجربة جديدة ترد إليه اعتباره في عالم السينما الصامتة، حتى وجد ضالته في قصة «الوصايا العشر» التي تتناول فترة إقامة بني إسرائيل في مصر وخروجهم منها مع نبي الله موسى –عليه السلام– ومطا.ردة فرعون لهم، ولكن من المنظور التوراتي.

بالفعل اتفق «دي ميل» مع شركة «بارامونت» على إنتاج الفيلم، وتم رصد ميزانية ضخمة له؛ حيث رأى «دي ميل» أن الفيلم يحتاج إلى مجموعة كبيرة من المؤثرات الخاصة، ووجد أن تصميم مدينة مصرية كاملة هو الطريقة الوحيدة لنقل المُشاهد بصريًّا إلى سيناء في زمن النبي موسى. وبعد دراسة وبحث، استقر «دي ميل» على إقامة تلك المدينة في كاليفورنيا؛ حيث كان التصوير بها أكثر ملاءمةً من مصر التي كان التصوير بها بمنزلة مغامرة لوجستية غير محسوبة، حسب قول «دي ميل» في مذكراته.

كانت الصحراء التي اختارها ديميل للتصوير، تقع في منطقة شبه منعزلة، ولم تكن هناك قرى قريبة منها، ولا طرق ممهدة تقود إليها، ولا مكان لإقامة الآلاف من الممثلين والعاملين الذين يستعد «دي ميل» لنقلهم إلى موقع التصوير؛ فقد كانت الكثبان الرملية التي تبلغ مساحتها 22 ألف فدان، قد فصلت بلدة جوادالوبي الزراعية الصغيرة عن المحيط الهادئ، عبر تلال من الرمال القاسية والمقفرة. ورغم ذلك، كانت الصحراء الملاصقة لجوادالوبي مكانًا مثاليًّا بالنسبة إلى «دي ميل».

عمليات التحضير لبناء مدينة مصرية كاملة في كاليفورنيا
عمليات التحضير لبناء مدينة مصرية كاملة في كاليفورنيا

عندما بدأ المخرج الاستعداد للتصوير، وجد أن تكاليف الإنتاج تزداد بوتيرة مقلـ.ـقة، وعندما وصل إلى جوادالوبي لبدء التصوير، كانت نفقات ما قبل التصوير تقترب بالفعل من 700 ألف دولار، وهو رقم فلكي في تلك الفترة.

أغلب هذه التكاليف أُنفقت بالفعل على ديكورات المدينة المصرية التي سعى «دي ميل» إلى بنائها؛ حيث استخدم مئات الأطنان من التماثيل والخرسانة والجص لبناء المعبد الذي بلغ ارتفاعه 120 قدمًا، بالإضافة إلى بوابة عملاقة بلغ ارتفاعها 109 أقدام مدعومة بأربعة تماثيل من الطين والجص طول كل منها 35 قدمًا، بخلاف سور لإحاطة تلك المدينة بطول 750 قدمًا، وغيرها من المجسمات العملاقة التي شكَّلت معًا أكبر وأغلى مجموعة ديكورات تم بناؤها في تاريخ هوليوود حتى ذلك الوقت.

أما حجم المشاركين في الفيلم، فقد كان خياليًّا أيضًا؛ حيث احتاج «دي ميل» إلى أكثر من 1500 نجَّار لبناء الديكورات وحدها، بخلاف 3500 آخرين بين عمال وممثلين، أقاموا جميعًا في مجموعة من الخيام غطت مساحة 24 ميلًا مربعًا وسط الكثبان الرملية، حتى إن البعض أطلق على موقع تلك الخيام اسم «مدينة دي ميل»!

وبسبب هذه التكاليف التي لم تكن تتوقف أثناء التصوير، أرسل أدولف زكور مؤسس شركة «بارامونت» المنتجة للفيلم، خطابًا إلى «دي ميل» يقول له نصًّا: «لقد فقدت عقلك. أوقف التصوير وعد إلى لوس أنجلوس في الحال»، ولكن «دي ميل» رفض إيقاف التصوير، وقرر الحصول على قرض شخصي لتوفير الأموال اللازمة لاستكمال الفيلم، كما تنازل عن نسبته من أرباح الفيلم حتى يضمن استمرار الإنتاج.

بوابات مدينة سيتي الأول كما ظهرت في فيلم (الوصايا العشر) 1923
بوابات مدينة سيتي الأول كما ظهرت في فيلم (الوصايا العشر) 1923

نتيجة تلك الضغوط، أجرى «دي ميل» التصوير بوتيرة متسارعة جدًّا، وأنجزه خلال 3 أسابيع فقط، ولكن مع انتهاء التصوير، لاحت في الأفق مشكلة جديدة؛ فوفقًا لاتفاق مسبق مع مالكي الأرض التي جرى عليها التصوير، كان لا بد من تفكيك ديكورات الفيلم الضخمة قبل المغادرة، وهو ما كان يعني تكاليف إضافية على التكاليف الأساسية التي كانت قد تضخَّمت بالفعل ووصلت إلى 1.4 مليون دولار، وهو ما يفوق تكاليف أي فيلم آخر تم إنتاجه في هوليوود حتى ذلك التاريخ.

تقول بعض المصادر إن «دي ميل» فكر في التخلي عن الديكورات وعدم تفكيكها بحسب الاتفاق، ولو كلفه ذلك بعض الغرامات البسيطة، لكنه كان قلقًا بشأن أمر آخر، وهو أن يأتي مخرجون آخرون من استوديوهات منافسة ويقوموا بالتصوير في جوادالوبي مستخدمين ديكوراته لإنتاج أفلام تاريخية بتكلفة رخيصة، وهو ما لم يكن يقبله «دي ميل» أبدًا.

في النهاية، اتخذ «سيسيل دي ميل» قرارًا غير متوقع على الإطلاق؛ فبدلًا من أن يدفع للعمال حتى يقوموا بتفكيك الديكورات؛ لجأ إلى طريقة أسرع وأرخص، وهي أن يلف المدينة بالديـ.ـنامـ.ـيت ويفجـ.ـرها بالكامل! لتسقط في ثوانٍ، فيما تقول بعض الآراء إنه أمر الجرافات بعد ذلك بوضع الرمال فوق الأنقاض المتناثرة وغادر المدينة سريعًا.

استعان دي ميل بآلاف الممثلين والفنيين لتصوير فيلمه
استعان دي ميل بآلاف الممثلين والفنيين لتصوير فيلمه

**********

«كلمة سر» في مذكرات المخرج

لم يصدق بروسنان هذه القصة عندما سمعها من صديقه، لم يكن يؤمن أن الديكورات التي شكَّلت تلك المدينة المصرية الاستثنائية يمكن أن تكون قابعة بالفعل تحت رمال كاليفورنيا، حتى سعى صديقه إلى إثبات صدق ما يقول، مؤكدًا أنه يحمل دليلًا هو بمنزلة مفتاح لهذا السر خبأه «دي ميل» في مذكراته.

فقد أشار صديق بروسنان إلى سطر موجود في مذكرات «سيسيل دي ميل» التي نُشرت بعد وفاته في 1959 يقول فيه: «إذا حدث بعد 1000 عام من الآن، وحفر علماء الآثار تحت رمال جوادالوبي، آمل ألا يندفعوا ويظنوا أن الحضارة المصرية قد امتدت على طول ساحل المحيط الهادئ».

غيَّرت هذه الجملة البسيطة من قناعات بروسنان الذي أصبح مفتونًا بفكرة العثور على تلك المدينة التي شكَّلت جزءًا منسيًّا من تاريخ هوليوود، ثم إعادة إحيائها والحفاظ عليها.

في صيف عام 1982، تخرج بروسنان في مدرسة السينما، وكان حتى ذلك الوقت يكسب لقمة عيشه كصحفي مستقل، وكان أول عمل فني قرر البدء به بعد التخرج، هو إنتاج فيلم وثائقي يسجل عملية بحثه عن «مدينة دي ميل المفقودة».

بيتر بروسنان في شبابه أثناء دراسته للسينما
بيتر بروسنان في شبابه أثناء دراسته للسينما

بعدها بعام، سافر بروسنان وصديقه عبر الولايات المتحدة، من مدينة نيويورك إلى امتداد الساحل بالقرب من سانتا باربرا، ليَرَيَا الأنقاض بنفسَيْهما. يقول بروسنان: «كنا صغيرين.. صَانِعَي أفلام حالمَيْن، واعتقدت أن هذا كان أمرًا رائعًا […] ظننت أن من السهل أن نجد بعض علماء الآثار المتحمسين، ونحدد الموقع، ثم نبدأ في الحفر.. وتكتب القصة نفسها».

عندما وصل بروسنان إلى صحراء جوادالوبي صدمه الواقع.. لقد كانت الديكورات مدفـ.ـونة في مكان ما، لكن الكثبان الرملية امتدت لمسافة 30 ميلًا تقريبًا عبر مقاطعتين، فمن أين يبدأ البحث بالتحديد؟!

بحث عن أدلة تساعده في العثور على الديكورات.. اتصل بروسنان بقاعدة عسكرية جوية كانت تقيم على جزء كبير من الساحل، يستفسر عما إذا كانوا يعلمون شيئًا عن هذه المدينة، فجاءه الرد بالنفي، وأنه لا توجد مدينة مصرية مدفـ.ـونة في ذلك المكان. إلا أن ذلك لم يوقفه، فحاول التواصل مع كل الذين يحتمل امتلاكهم أي معلومة.. سأل السياسيين المحليين، والسلطات القريبة من الموقع، ولكن لم يقدم له أي شخص أي تلميحات حول الموقع الدقيق للديكورات.

وبعدما كاد اليأس يتملك منه، صادف بروسنان مزارعًا مسنًّا التقاه في حانة محلية، اعتاد أن يرعى ماشيته عبر الكثبان الرملية لعقود، حكى له قصته، ففاجأه المزارع بأنه يمر على هذا الموقع الذي يبحث عنه بروسنان منذ سنوات، بشكل روتيني هو وماشيته!

على الفور، وفي صباح بارد ومظلم، وبعد عاصفة رملية أعادت ترتيب تضاريس الكثبان الرملية، صعد بروسنان والمزارع على قمم ارتفاعها مائة قدم، ثم سارا مسافة ميل نحو الأمواج المتدفقة في المحيط الهادئ، وفي نهاية المطاف، عثرا على منطقة يُطلِق عليها السكان المحليون «الكثبان الرملية التي لا تتحرك»!، ليكتشف أنه يقف فوق القبـ.ـر الضخم الذي حوى ديكورات فيلم «الوصايا العشر» التي بناها «سيسيل دي ميل»، وكان الدليل على ذلك هو عثوره على قطعة من تمثال جصي.

أولى أعمال التنقيب التي قام بها بروسنان فور عثوره على موقع دفن الديكورات
أولى أعمال التنقيب التي قام بها بروسنان فور عثوره على موقع دفـ.ـن الديكورات

**********

تصوير فيلم في 33 عامًا!

احتل هذا الاكتشاف عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم، وتلقى بروسنان مكالمات من صحيفة «نيويورك تايمز»، وغيرها من الصحف؛ حيث بدت فكرة إنتاج الفيلم الوثائقي التي كانت مجرد حلم قبل بضعة أشهر، فكرة واعدة الآن أمام بروسنان، وبدا أنه قادر على إنجازها خلال أسابيع، لكنه لم يكن يعلم أن فيلمه سوف يستغرق قرابة 33 عامًا حتى يصبح جاهزًا للعرض!

قال بروسنان لوسائل الإعلام حينها، إن المدينة المفقودة هي أقدم مجموعات ديكورات هوليوودية موجودة حتى ذلك التاريخ، مشيرًا إلى أن تلك المجموعة وتصميمها كان، إلى حد ما، شكلًا من أشكال الفن الأمريكي، وأطلق بروسنان مؤقتًا على مشروعه الوثائقي اسم «المدينة المفقودة».

سريعًا، وجد بروسنان متطوعين من علماء آثار محليين، عرضوا جهودهم للمساعدة في أعمال التنقيب، فيما أعربت إحدى دور المزادات الشهيرة عن رغبتها في شراء بعض القطع بمجرد الانتهاء من أعمال الحفر، كما حصل على وعد من قبل شركة «بارامونت» و«بنك أوف أمريكا» بتمويل عمليات التنقيب، ولكن كان على بروسنان أن يبدأ أعمال الحفر أولًا.

وبالفعل، بدأ بروسنان أعمال التنقيب سريعًا، بالتزامن مع تصوير الفيلم الوثائقي، لكنه واجه دائمًا مشكلتين: التمويل والتصاريح.

فعندما صار لديه المال اللازم لبدء أعمال التنقيب، لم تسمح له المقاطعة بلمس المنطقة التي كانت تعتبر محمية بيئية. وبحلول الوقت الذي حصل فيه على تصريح بالتنقيب، بعد سبع سنوات كاملة كان التمويل قد نفد!

واجه بروسنان دائما مشكلة في الحصول على التمويل والتصاريح اللازمة للتنقيب
واجه بروسنان دائما مشكلة في الحصول على التمويل والتصاريح اللازمة للتنقيب

في عام 1990، وافقت بعض المنظمات، منها بعض دور المزادات، ومؤسسة DeMille Family Trust على تمويل المشروع جزئيًّا، فتمكن بروسنان، بمشاركة علماء الآثار، من استخدام رادار لاختراق الأرض وإظهار أن الكثير من قطع الديكورات لا تزال سليمة، لكنه أيضًا لم يستطع جمع المال الكافي للتنقيب واستخراج هذه القطع؛ فقد احتاج بروسنان إلى 175 ألف دولار للتنقيب عن الديكورات التي كان عمرها حينها قرابة 60 عامًا.

وبحلول منتصف التسعينيات من القرن الماضي، كان بروسنان يعمل في صناعة الأفلام لمدة عقد من الزمان، ويكتب سيناريوهات ويُخرِج مشاريع صغيرة. ونتيجة هذا الانشغال، وبسبب نقص المال، تخلى عن فكرة التنقيب.

لمدة 15 عامًا تالية، بقيت الأنقاض دون إزعاج.. كلَّ بضع سنوات كان يتصل به مراسل أو باحث، وكان بروسنان يروي تفاصيل رحلته في الكثبان الرملية، وكله أمل أن تساعد هذه الجولة الجديدة من الدعاية، في جمع الدعم المادي المطلوب لاستكمال البحث، لكن شيئًا من ذلك لم يحدث.

بعد عدة سنوات، وبالتحديد في عام 2014، استأجر بروسنان منتجًا ومحررًا، بمساعدة منحة من مقاطعة سانتا باربرا، وقام فريق من علماء الآثار بمعاونته للتنقيب عن معظم الأنقاض الباقية، وبالأخص تماثيل أبو الهول، وبعدما وجدوا بعض القطع غير المكتملة، اعتبروا أن الفيلم قد اكتمل أخيرًا، وبدأ بروسنان يستعد لإنهاء الفيلم فنيًّا والتفكير في عرضه بأحد المهرجانات.

أعمال التنقيب الحديثة التي ساعدت بروسنان على إنجاز فيلمه
أعمال التنقيب الحديثة التي ساعدت بروسنان على إنجاز فيلمه

القطع المحدودة التي نجح بروسنان وغيره من الباحثين في استخراجها طوال هذه الفترة، منذ بداية عمليات البحث في عام 1983 حتى عام 2016 –مع العلم بأن عمليات البحث مستمرة حتى الآن من قبل بعض الهواة– جُمعت لاحقًا، وأُنشئ متحف مُصغَّر لوضعها فيه بقرية جوادالوبي، وتحول هذا الموقع إلى مركز لتاريخ السينما في هوليوود، يزوره الآلاف سنويًّا لمشاهدة تلك الآثار الاستثنائية.

ويأمل مسئولو المركز أن تتواصل عملية البحث لاستخراج كل الأنقاض المتبقية، مشيرين إلى أن كل التماثيل التي عُثِر عليها كانت مصنوعة من الجبس، ورغم ذلك بقيت تحت الرمال لأكثر من 90 عامًا، متمنين أن ينجحوا في انتشال باقي التماثيل قبل أن تتلفها التغيرات المناخية والعواصف المستمرة في تلك المنطقة الوعرة.

أما بيتر بروسنان، فقد نجح في عام 2016 في إخراج فيلمه الوثائقي إلى النور أخيرًا، بعنوان “المدينة المفقودة لسيسيل دي ميل”، وحصل به على جائزتين في أحد المهرجانات الدولية المهتمة بالوثائقيات الأثرية؛ هما: جائزة أفضل فيلم، وجائزة أفضل تعليق صوتي.

تمثال معروض بمركز جوادالوبي من بين القطع التي عثر عليها في موقع الديكورات
تمثال معروض بمركز جوادالوبي من بين القطع التي عثر عليها في موقع الديكورات

كانت القصة السابقة هي الخيط الذي بدأنا منه هذا التحقيق، والمحرك الأساسي الذي دفعنا إلى إعادة تجربة بروسنان، لكن في مصر؛ حيث قام المخرج «سيسيل دي ميل» بإعادة إنتاج فيلمه «الوصايا العشر» عام 1956 بالألوان، وبأحدث المؤثرات البصرية المتاحة حينها، ولكن هذه المرة قرر أن يكون التصوير في الأرض الحقيقية التي شهدت أحداث قصة النبي موسى وخروجه من مصر قبل آلاف السنين، وقد استدعى ذلك بناء مدينة مصرية جديدة على الطراز الفرعوني، لكنها أكثر إتقانا وضخامة، ثم تركها ورحل بعد انتهاء التصوير، لينساها الجميع وتختفي المعلومات عن مصيرها.

**********

«دي ميل» في مصر.. التاريخ يعيد نفسه في صحراء «بني يوسف»!

كما شاهدنا من قصة بروسنان؛ فإن مسألة البحث عن مدينة من الديكورات مدفونة تحت الرمال أمر يحتاج إلى فريق كبير من الباحثين والمنقبين، لا إلى مجرد صحفيَّيْن اثنَيْن، إلا أننا قررنا خوض تلك المغامرة، بغرض الوصول إلى معلومتين أساسيتين: الأولى– تحديد المكان الذي أقيمت عليه الديكورات بدقة في مصر. والثانية– معرفة مصير تلك الديكورات وإذا ما كانت لا تزال تقبع تحت الرمال المصرية من عدمه في انتظار من يخرجها.

لذا كان البحث عما يخص الفيلم وتصويره في مصر سنة 1954 هو نقطة الانطلاق الأولى نحو هذا الاكتشاف الذي نراه مهمًّا، والذي لا يقل في أهميته عن مشروع «مدينة دي ميل المفقودة» في صحراء جوادالوبي، بل قد يكون أهم بكثير؛ لكون ما بناه «دي ميل» في مصر هو أكبر مجموعة ديكورات تم إنشاؤها في تاريخ السينما العالمية حتى خمسينيات القرن الماضي!

المصادر العربية التي تناولت الفيلم سارت في محورين: الأول– احتفائي بهذا الحدث الكبير والضخم؛ حيث كانت مجلة «المصور» تتابع بدقة، وفي أعداد متلاحقة بداية من شهر أكتوبر سنة 1954، تفاصيل بناء الديكورات، وكذلك أجرت حوارات مع مخرج الفيلم «سيسيل دي ميل» وأبطاله الذين أتوا لتصوير مشاهدهم في مصر.

أما المحور الآخر فأخذ طابع الهجوم، لا سيما أن الفيلم عُرض عالميًّا سنة 1956، لكن تم منعه من العرض في مصر –رغم الموافقة الرسمية المصرية على التصوير– لأسباب سنعرفها في سياق الأحداث.

ولكن قبل دخول مرحلة بناء الديكورات والتصوير في مصر، لجأنا إلى المصادر الأجنبية التي احتوت على معلومات أكثر بكثير، سواء منذ أتت الفكرة لـ«سيسيل دي ميل» حتى عرض الفيلم، أو حتى الصخب الذي أعقب عرضه.

حياة «دي ميل» الفنية وإنجازاته في عالم السينما كانت موضوع الكثير من المؤلفات في الولايات المتحدة، وهو ما استفدنا منه للغاية في بحثنا. وكان من أبرز هذه المؤلفات كتاب «Written in Stone» لكاثرين أوريسون، الذي وثَّق كل ما يخص فيلم «الوصايا العشر»، على شكل حوارات مع عدد كبير من صناعه، قابلتهم المؤلفة التي أشارت في مقدمة الكتاب إلى أنها قضت سنوات في العمل معهم، بالإضافة إلى مذكرات «دي ميل» التي أمدتنا بالكثير من التفاصيل المهمة.

ولعل أهم المعلومات التي وردت خلال كتاب أوريسون فيما يخص مرحلة التحضيرات للفيلم، كانت على لسان «هنري ويلكوكسون»، الذي ظهر في أحداث الفيلم وقام بدور «بناتور». وإضافة إلى ذلك كان «ويلكوكسون» منتجًا منفذًا مشاركًا خلف الكاميرا، وكان اليد اليمنى لـ«سيسيل دي ميل» مثلما ورد في كثير من الحوارات التي جاءت على لسانه، وحكى فيها حكايات عن الفيلم منذ أن كان فكرة حتى تم عرضه.

هنري ويلكوكسون (يسار) يؤدي دورا في أحد أفلام المخرج سيسيل دي ميل (يمين)
هنري ويلكوكسون (يسار) يؤدي دورا في أحد أفلام المخرج سيسيل دي ميل (يمين)

**********

«الوصايا العشر» بالألوان!

بدأ التفكير في تنفيذ النسخة الثانية من فيلم «الوصايا العشر»، بعد فوز «دي ميل» بجائزة الأوسكار عن فيلم «أعظم عرض في العالم» الذي كان «هنري ويلكوكسون» أحد أبطاله؛ حيث جلس المخرج الكبير مع منتجي شركة «بارامونت» وأخبرهم أنه يريد إعادة إنتاج فيلم «الوصايا العشر» الذي سبق أن أصدره عام 1923، ولكن هذه المرة بالألوان وباستخدام تقنية «VistaVision»، وأن يصوره في مكان الأحداث الأصلي: مصر، مستخدمًا صوتًا عالي الدقة، وأفضل المؤثرات الخاصة التي يمكن استخدامها، مشيرًا إلى أن الأمر سوف يُكلف الكثير من المال لإنتاجه، وهو ما أحدث جدلًا كبيرًا بين مسئولي الشركة بين موافق ومتحمس من جهة، وبين رافض للفكرة خوفًا من الخسارة من جهة أخرى، ولكن في النهاية اقتنعت الشركة بفكرة «دي ميل».

اختار «دي ميل» فريقًا كبيرًا لكتابة قصة الفيلم، كان مُكوَّنًا –حسب موسوعة السينما العالمية – من أربعة: «آينس ماكينز، وجيسي لاسكي، وجاك جاريس، وفريدريك إم فرانك».

قرأ صناع الفيلم الكثير من الكتب والمراجع قبل بداية الكتابة؛ لتفادي بعض المشكلات التاريخية التي شابت النسخة الأولى (سنة 1923)، ومنها مثلًا تصوير تمثال «أبو الهول» بثـ.ـديَيْن تأثرًا بالأثاث الفرنسي الذي ظهر وشاع في أوائل القرن التاسع عشر.

قرأ صناع الفيلم نسخة من القرآن الكريم؛ حيث يشير «ويلكوكسون» إلى أن صناع الفيلم وجدوا القرآن جميلًا ونافعًا في قصة الفيلم؛ لورود تفاصيل كثيرة عن طفولة نبي الله موسى المبكرة في بلاط فرعون، مشيرًا إلى أنه وجد أن موسى كان يعاني من تلعثم شديد؛ ما دفع شقيقه هارون إلى التحدث نيابةً عنه. وقد دارت نقاشات بين فريق العمل («دي ميل» وكتَّاب الفيلم) حول هذه النقطة، وقرر «دي ميل» في النهاية أن الجمهور لا يمكنه الجلوس لمشاهدة فيلم مدته 4 ساعات عن نبي لا يستطيع التحدث؛ لذا أصر على تجنب هذا الأمر تمامًا، وإظهار موسى بلسان عادي خالٍ من التأتأة.

فيما يقول المؤلف المشارك في كتابة الفيلم «جيسي لاسكي» إن «هنري نوردلينجر» الذي كان مسئولًا عن تجميع المصادر التاريخية للقصة وتقديمها للمؤلفين لكتابة السيناريو؛ نصحهم بأن يقرءوا كتاب جيمس هنري برستد «تاريخ مصر»؛ لأنه استشهد بأدلة أثرية تدعم نسخة القرآن عن طفولة موسى في قصر فرعون.

ويؤكد «لاسكي» أن الكثير من التفاصيل التي كتبها المؤلفون الأربعة خلال رحلة القراءة والبحث التي سبقت الكتابة؛ لم تُضف إلى النسخة النهائية من قصة الفيلم، وأن الكثير مما ورد في تلك القصة لم يُوضع في السيناريو، بل أكد أن الكثير مما تم تصويره بناءً على هذا السيناريو لم يظهر في النسخة النهائية للفيلم التي عُرضت في السينمات!

من المصادر التي اعتمدنا عليها أيضًا في حصر المعلومات الخاصة بمرحلة كتابة سيناريو الفيلم؛ ما ورد في موقع «معهد الفيلم الأمريكي» الذي أشار إلى أن العنوان المبدئي لهذا الفيلم لم يكن «الوصايا العشر»، بل «أمير مصر»، وكان الاتفاق بين «سيسيل دي ميل» وفريق الكتابة أنه في بداية الفيلم سيخرج «دي ميل» من خلف ستارة على خشبة مسرح، ويقول موجهًا حديثه إلى الجمهور (لمدة دقيقتين) إن الكتاب المقدس أغفل ما يقرب من 30 عامًا في وصفه حياة النبي موسى، وإن صناع «الوصايا العشر» استندوا إلى الأعمال التاريخية للتعرف على تفاصيل تلك الفترة الغامضة.

ويشير موقع «معهد الفيلم الأمريكي» إلى أن مصادر الفيلم الرئيسية كانت الكتب المقدسة الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، وكتابات المؤرخين القدامى، أمثال فيلو ويوسفوس ويوسابيوس، إضافة إلى ثلاث روايات أدبية معاصرة لوقت صناعة الفيلم، هي رواية «أمير مصر» لدوروثي كلارك ويلسون، ورواية «عمود النار» لجيه إتش إنجراهام، ورواية «أجنحة النسر» لإيه إي ساوثون، بالإضافة إلى استشارة العديد من العلماء المعترف بهم في مجالات علوم المصريات والأديان والتاريخ، للتأكد من سلامة المحتوى الذي يسعى الفيلم إلى تقديمه.

«هنري نوردلينجر» يقول –وفقًا لموقع المعهد– إنه في مرحلة الكتابة تم الاطلاع على 950 كتابًا، و984 دورية، و1286 قصاصة، و2964 صورة فوتوغرافية؛ لجمع القصة النهائية للفيلم بالشكل الذي ظهر فيه على الشاشة، وهي العملية التي كلَّفت مئات الآلاف من الدولارات.

دي ميل في مصر ممسكا بترجمة للقرآن ونسخة من الإنجيل لمراجعة قصة فيلمه
دي ميل في مصر ممسكا بترجمة للقرآن ونسخة من الإنجيل لمراجعة قصة فيلمه

**********

البحث عن ممثل لدور نبي!

كان اختيار الممثل الذي سيجسد دور النبي موسى أيضًا أمرًا محيرًا لصناع الفيلم؛ حيث ظل «دي ميل» يبحث لعدة أشهر عن شخص في منتصف العمر لأداء الدور، وبعدما رفضه بعض الممثلين، استقر أخيرًا على «تشارلتون هيستون».

يقول «ويلكوكسون» إنه هو الذي أقنع «دي ميل» باختيار «هيستون» لأداء الدور، بعدما ذكر له أن «هيستون» يشبه إلى حد كبير تمثال موسى لـ«مايكل أنجلو» الموجود في كاتدرائية القديس بطرس بروما، كما زاد اقتناع «دي ميل» به أن «هيستون» كان على اطلاع واسع بالحضارة المصرية القديمة، إضافة إلى أنه أظهر موهبة عالية في التمثيل أثناء مشاركته في فيلم «أعظم عرض في العالم» الذي كان آخر أعمال «دي ميل» قبل البدء في «الوصايا العشر».

ونتيجة الشبه بين «هيستون» وتمثال موسى، سافر الممثل الأمريكي إلى روما بعد انتهاء التصوير في مصر لالتقاط مجموعة من الصور الدعائية له مع التمثال؛ لاستخدام تلك الصور في الترويج للفيلم!

كما كان من الطريف أن يختار «دي ميل» الطفل الذي لعب دور موسى في طفولته بالفيلم، هو نفسه «فريزر» ابن «هيستون» الحقيقي، وقد قرر «دي ميل» أن يلعب الطفل هذا الدور قبل ميلاده بأشهر؛ حيث قام بحساب تاريخ ميلاده التقريبي، ورأى أن عمره سيكون مناسبًا عند بدء التصوير؛ إذ كان يبلغ من العمر ثلاثة أشهر عندما ظهر في الفيلم.

أما بقية الأدوار الرئيسية فقد كانت موفقة أيضًا إلى حد كبير؛ فقد تم اختيار النجم الكبير «يول براينر» للقيام بدور «الملك رمسيس الثاني»، وكان اختيارًا سهلًا؛ بسبب موافقة براينر السريعة، وبسبب نجوميته الكبيرة في هذا الوقت، فيما لعبت النجمة «آن باكستر» دور نفرتاري زوجة رمسيس، والممثل الكبير «إدوارد جي. روبنسون» في دور داثان، و«إيفون دي كارلو» بدور صفورة زوجة النبي موسى، والسير «سيدريك هاردويك» بدور سيتي الأول والد رمسيس الثاني، و«جون كارادين» بدور النبي هارون شقيق موسى.

فيما كانت الممثلة «جوليا فاي» هي الشخص الوحيد الذي شارك في نسختي الفيلم (1923 و1956)؛ حيث لعبت في النسخة الأولى دور نفرتاري وفي النسخة الثانية دور إليشيبا زوجة هارون.

في النهاية، بلغ العدد الإجمالي للممثلين الذين شاركوا في الفيلم، سواء في المشاهد الخارجية التي تم تصويرها بمصر أو المشاهد الداخلية التي تم تصويرها في هوليوود، قرابة 20 ألف ممثل، من ثقافات ولغات مختلفة.

وبعدما استقر «دي ميل» على فريق التمثيل والقصة، كان عليه التوجه إلى مصر للحصول على الموافقات اللازمة من السلطات المصرية، قبل البدء في عملية تصوير المشاهد الخارجية؛ حيث كان على موعد مع رحلة أكثر دهشة وغرابة.

شارلتون هيستون أمام تمثال موسى في روما
شارلتون هيستون أمام تمثال موسى في روما

**********

«دي ميل» يقابل جمال عبد الناصر!

كانت أجواء ثورة يوليو 1952 مسيطرة في مصر، وخلال العامين اللذين تلياها كان هناك اضطـ.ـراب كبير في الحياة السياسية وربما الاجتماعية أيضًا. مصر لم تكن تخلصت من الاحتـ.ـلال بالكامل، كما أن ما دار داخل أروقة مجلس قيادة الثورة في هذه الفترة أقلق الكثيرين على مصير الدولة واستقرارها، ولكن وسط هذا كله كانت إرادة «دي ميل» قوية للمجيء إلى مصر وتصوير كل المشاهد الخارجية لفيلمه الضخم في أماكنها الحقيقية.

أتى «دي ميل» إلى مصر في زيارة أولية مصطحبًا معه «ويلكوكسون» باعتباره المنتج المنفذ للفيلم. ويذكر الأخير أن “الجنرال” محمد نجيب كان قائد الدولة المصرية في ذلك الوقت؛ لذا سعى هو والمخرج إلى لقائه عقب وصولهما إلى مصر للحصول على الموافقات اللازمة؛ حيث توجها إلى القصر القديم للملك السابق فاروق، حسب وصفه (ربما يقصد قصر عابدين)، إلا أن كل المسئولين الذين قابلوهما كانوا في رُتب أقل من نجيب، واكتفوا بإعطائهم هدايا وأقلام تذكارية ذهبية، ولم يتمكنا من مقابلة نجيب.

وبعد فترة طويلة من الانتظار والحيرة داخل القصر، تم اصطحابهما في سيارة حكومية ونقلهما بعيدًا عن مقر إقامة نجيب؛ حيث انطلقت بهما سيارة إلى خارج القاهرة، وتوقفت بهما عند معسكر حربي، وتم اصطحابهما إلى خيمة بها أربعة كراسي موضوعة فوق سجادة شرقية، فجلس «ويلكوكسون» و«دي ميل» في انتظار أشخاص لا يعلمان من هم على وجه التحديد!

في غضون دقائق، دخل عليهما “الكولونيل” جمال عبد الناصر بنفسه. يقول «ويلكوكسون»: «ملأ ناصر الخيمة بكاريزمته وعينيه الغائرتين وأسنانه البيضاء اللامعة، وإنجليزيته التي لا تشوبها شائبة». وبعد أن تم التعريف والسلام، ذكر عبد الناصر لـ«ويلكوكسون» أنه يعرفه جيدًا، فيما تجاهل الزعيم الراحل المخرج «سيسيل دي ميل» تمامًا؛ ربما لأنه مخرج ولا يظهر كثيرًا على الشاشة على عكس «ويلكوكسون» الممثل، كما دخل بعد ثوانٍ عبد الحكيم عامر، وجلس على المقعد الرابع في الخيمة، ودار بينهم الحوار الآتي، وفقًا لما ذكره «ويلكوكسون» في كتاب «Written in Stone»:

«ويلكوكسون»: لقد سبق لي زيارة مصر، ومن يشرب من ماء النيل لا بد أن يعود ليشرب من جماله مجددًا (في إشارة إلى المقولة الشهيرة).

عبد الحكيم عامر: ومتى زرت مصر؟

«ويلكوكسون»: عام 1937 عند تصوير فيلم Dark Sands.

جمال عبد الناصر: وهل أخرجت هذا الفيلم يا سيد دي ميل؟

هنا يذكر «ويلكوكسون» أن هذا كان أسوأ سؤال من الممكن توقع طرحه على «دي ميل».

رد «سيسيل دي ميل» باقتضاب: لا، ولم أشاهد الفيلم أساسًا.

قاطعه عبد الناصر موجهًا حديثة إلى «ويلكوكسون»: وهل تظهر في فيلم موسى هذا يا سيد ويلكوكسون؟

لاحظ «ويلكوكسون» أن الغضب بدأ ينتاب «دي ميل» سريعًا بسبب التجاهل، وبسبب التركيز على شخصه، حتى إنه شعر بأنه يكاد يفقد صداقة «دي ميل»، ويفقد وظيفته في الفيلم أيضًا! ويشير «ويلكوكسون» إلى أن ناصر وعامر كانا يضحكان أحيانًا من دون مبرر، وهو أمر كان يضايق «دي ميل» بشدة.

ولما حاول «ويلكوكسون» أن يستفسر عن سبب الضحك، طلب عبد الناصر من عبد الحكيم عامر أن يحكي له ولـ«دي ميل» ما كان يضحكهما:

عبد الحكيم عامر: هل تتذكران فيلم «الحـ.ـروب الصـ.ـليبية» الذي قمت يا سيد «ويلكوكسون» ببطولته، وأديت فيه دور الملك «ريتشارد» قلب الأسد، وأخرجته يا سيد «دي ميل»؟ (فأشار الاثنان بالإيجاب؛ ما جعل عامر يستطرد) هذا الفيلم له شعبية كبيرة هنا في مصر، واستمر عرضه لمدة ثلاث سنوات في إحدى السينمات بالقاهرة، وشاهدته أنا وصديقي ناصر ما لا يقل عن عشرين مرة، وكان الفيلم المفضَّل لنا عندما كنا ندرس في المدرسة العسكرية، للدرجة التي دفعت الطلاب إلى أن يطلقوا على ناصر لقب «هنري ويلكوكسون»؛ لأنهم كانوا يتوقعون له أن يكبر ويصبح قائدًا عسكريًّا عظيمًا يومًا ما، تمامًا مثل «ريتشارد» قلب الأسد.

هنا ذاب جبل الجليد الذي انتاب «دي ميل»، وبدأ يأخذ ويرد مع الزعيم جمال عبد الناصر وصديقه عبد الحكيم عامر، ولم يَدْرِ الاثنان أن اللقاء سينتهي بأن يضع ناصر مصر كلها تحت تصرف السيد «دي ميل» ومعجبه الأول «ويلكوكسون» لإنجاز فيلم «الوصايا العشر».

مأدبة طعام على رأسها دي ميل والجنود والضباط الذين تم تكليفهم لمعاونته بأمر من جمال عبدالناصر
مأدبة طعام على رأسها دي ميل والجنود والضباط الذين تم تكليفهم لمعاونته بأمر من جمال عبدالناصر

**********

نجوم هوليوود في مصر

كان الاتفاق بين فريق العمل والسلطات المصرية قد تم بالفعل مطلع عام 1954، وبدأت طلائع صناع الفيلم تصل إلى القاهرة سريعًا؛ إذ وصل مدير الإنتاج «دون روب» في شهر فبراير للتنسيق حول أماكن بناء الديكورات، وكيفية الاتفاق مع «المجاميع»، وشراء الحيوانات المطلوبة.

ثم وصل خلال شهر يونيو طاقم عمل من شركة «بارامونت» وعلى رأسه مصمم الديكورات «جون ل. جنسن»، ليقوم بمعاينة الأماكن المرشحة للتصوير، فزار صحراء سيناء، وزار أيضًا المعابد في الأقصر وأسوان، ومناطق عديدة في البحر الأحمر، كما حرص «جنسن» على زيارة أماكن تاريخية وتراثية في القاهرة لاستلهام روح الفيلم؛ منها المتحف المصري بالتحرير.

ومن بين الطاقم الذي جاء إلى مصر قبل بداية التصوير بفترة طويلة، «ويليام ساب» مسئول المؤثرات البصرية، الذي قال في أكثر من حوار صحفي إنه مكث في مصر 6 شهور كاملة؛ حيث كان يعمل معه 25 رجلًا على المؤثرات البصرية، وهو أكبر عدد من الفنيين يعملون على المؤثرات البصرية في فيلم على الإطلاق حتى ذلك الوقت، مؤكدًا أنه كان يمتلك قائمة بها أسماء كل الفريق الذي سافر إلى مصر، وهي قائمة تخص شركة «بارامونت»، تضمنت 82 شخصًا، بينهم رسامون، ومصورون، ومساعدو إخراج، ومديرو إنتاج، وعاملو ماكياج، ومهندسو صوت، وسائقون، ومديرو مجاميع، وسكرتارية.

ويضيف «ساب» أنه عمل على كل الخدع المتعلقة بالمشاهد الخارجية، ومنها مشهد «شق البحر» المعروف في الروايتين القرآنية والتوراتية، مشيرًا إلى الاستعانة بأربع طائرات حربية مصرية لتصوير هذا المشهد بالذات.

أما «كين ويتمور» المصور الفوتوغرافي للفيلم، فقد وصل قبل بدء التصوير بفترة كافية، وأقام «ويتمور» مع كامل طاقم التمثيل والفنيين في فندق «مينا هاوس»، وقد قضى في مصر ثلاثة أشهر قام خلالها بتصوير ما وراء الكواليس، بدءًا من خريف عام 1954.

وفي أكتوبر من عام 1954، كان فريق العمل الذي من المفترض أن يبدأ تصوير الفيلم في مصر قد اكتمل تمامًا؛ إذ حضر «دي ميل» بطبيعة الحال ومعه الأبطال الرئيسيون الذين سيظهرون في المشاهد الخارجية وهم «شارلتون هيستون» و«هنري ويلكوكسون»، ثم لحق بهما «يول براينر» الذي لم يذهب إلى مواقع التصوير إلا في أيام قليلة، نظرًا إلى طبيعة دوره في سيناريو الفيلم؛ حيث قام بتصوير المشاهد التي يقوم خلالها بمطـ.ـاردة موسى وقومه فقط، ثم عاد إلى الولايات المتحدة سريعًا. وبخلاف هؤلاء الثلاثة، كان كل الممثلين الذين ظهروا في المشاهد الخارجية للفيلم، هم من الممثلين والمجاميع المصريين.

وقد اختار «ويلكوكسون» الإقامة في فندق «شبرد» الذي أقام فيه عند زيارته إلى مصر بصحبة زوجته عام 1937، إلا أن الفندق كان قد احتـ.ـرق في حريـ.ـق القاهرة في يناير سنة 1952، لذا كان ثاني أفضل فندق في مصر من وجهة نظره هو فندق «مينا هاوس»، الذي كان قريبًا من النيل، وله إطلالة خلَّابة على الأهرامات.

في حين أقام المخرج «سيسيل دي ميل» وابنته وزوجها وولداها جودي وسيسيليا، في منزل مهندس مصري سيكون له الدور الأهم في قصة البحث.

طاقم العمل الذي رافق دي ميل أثناء التصوير في مصر
طاقم العمل الذي رافق دي ميل أثناء التصوير في مصر

**********

أضخم ديكور في تاريخ السينما

حسب موقع «معهد الفيلم الأمريكي» كان فريق العمل يخطط لأن يكون تصوير كل المشاهد الخارجية للفيلم في مصر. أما أماكن التصوير الداخلية مثل (بلاط فرعون، بارجة نفرتاري، خيمة جثرو، جناح موسى، منزل يوشابيل… إلخ)، فاستقر فريق العمل على أن يتم تصويرها على مسرح «بارامونت» في أمريكا، مع وجود شاشة زرقاء عملاقة، وُضعَت عليها، أثناء عملية المونتاج، الخلفياتُ الطبيعيةُ.

أما عن المشاهد الخارجية التي تم تصويرها في مصر، فقد توزعت على عدة مواقع للتصوير؛ ففي البداية، تم التقاط عدة مشاهد في صحراء سيناء، وعلى قمة جبل موسى، كما تم تصوير لقطات مشهد انشقاق البحر في منطقة أبو رديس بجنوب سيناء، أيضًا تم التقاط بعض المناظر في منطقة أبو رواش، ومشاهد أخرى في الأقصر؛ حيث استخدمت واجهة معبد الدير البحري كخلفية لمشاهد بناء «مدينة سيتي الأول»، ومشاهد قليلة في إحدى قرى الخارجة.

إلا أن أهم موقع للتصوير في مصر، الذي اشتمل على مجموعة الديكورات الرئيسية، هو موقع تصوير «بني يوسف»، الذي بُنيت فيه واحدة من أضخم مجموعات الديكورات التي صُنعت في تاريخ السينما على الإطلاق حتى ذلك الوقت، وأغلاها تكلفة كذلك، واشتمل على ديكورات «مدينة سيتي الأول»، التي كان أبرزها البوابة التي أطلقت عليها الصحافة المصرية حينها «بوابة مصر»، وهو الموقع الذي شهد واحدًا من أهم مشاهد الفيلم، وهو مشهد «الخروج».

كانت ديكورات مدينة سيتي عملاقة بحق، فقد كانت أبعادها بعرض 750 قدمًا، وبواباتها بارتفاع 109 أقدام، وبعرض 650 قدمًا، وعمق 620 قدمًا، مع أربعة تماثيل عملاقة لرمسيس الثاني طول كل منها 35 قدمًا، وقد كلَّف إقامة البوابة وحدها قرابة 100 ألف دولار، هذا بخلاف 16 تمثالًا لـ«أبو الهول» نصبت أمام مدخل البوابة على امتداد مئات الأمتار.

وخلف كل هذه الديكورات، نصبت مدينة كاملة لتستوعب العاملين والفنيين والكومبارس، احتوت على مكاتب الإنتاج، وقسم الماكياج، وخزانة، وإسطبلات، ومحطة إسعافات أولية، ومطابخ، وخيمة عملاقة للطعام، بخلاف عدة ورش للنجارة والزخرفة والبويات، لتنفيذ كل الديكورات والإكسسوارات التي قد تظهر الحاجة إليها أثناء عملية التصوير.

وتقول مجلة «المصور» إن إقامة تلك المدينة في صحراء «بني يوسف» بما اشتملت عليه من ديكورات وورش وخيم، استغرقت 70 يومًا بتكلفة إجمالية بلغت 4 ملايين دولار، استفادت الحكومة المصرية منها بمليون واحد فقط!

كانت مجموعة ديكورات «بني يوسف» تلك، هي الكنز الذي نبحث عنه، ولكن كان علينا أولًا أن نعرف أين توجد بالتحديد «بني يوسف» التي تم ذكرها في جميع المصادر التي اطلعنا عليها؟

لقطات أرشيفية بتعليق هنري وليكوكسون لعملية تصوير الفيلم وتحضير مواقع التصوير

**********

«دي ميل»: جئت إلى مصر لأداء «فريضة الحج»!

بينما كان العمل في موقع بناء الديكورات في منطقة «بني يوسف» مستمرًّا، كانت الصحافة المصرية والعالمية تتهافت على المخرج العالمي «سيسيل دي ميل»، لا سيما بسبب أحاديثه المستمرة حول الفيلم في كل صحف العالم، وتأكيده أنه بنى أضخم ديكورات صُنِعَت لفيلم سينمائي حتى ذلك الوقت.

ومما وجدنا في أرشيف الصحافة المصرية، تغطية لمؤتمر صحفي أقامه شيخ المخرجين الأمريكيين في فندق «سميراميس»، قال فيه إنه سبق أن زار مصر في العشرينيات في نزهة، وقد عاد في عام 1954 من جديد لتأدية «فريضة حج» –حسب قوله– لأنه يعتقد أن مصر بلد مقدس عند الملايين، وعلى أرضها ولدت أقدس المبادئ الإنسانية، وهي الحرية والإيمان بالله، وأن على أرض مصر أيقن الإنسان لأول مرة أن له حقوقًا مقدسة لا تقبل التعديل أو التأويل، وأنه مخلوق يرعاه الله، وهذا ما أتى لتصويره.

فيلم «الوصايا العشر» هو أول فيلم يخرجه «سيسيل دي ميل» خارج الولايات المتحدة الأمريكية، كما روى في المؤتمر، مؤكدًا أنه أعظم إنتاج عالمي، مرجحًا أن يكون آخر أعماله –وقد كان بالفعل– مشيرًا إلى أن «الوصايا العشر» بالنسبة إليه لم يكن مجرد فيلم، وإنما رسالة فنية طالما رغب في أدائها منذ أقدم على إخراج النسخة الصامتة منه في عام 1923، وأنه سوف يقدم فيه ما يحتاجه الناس في هذه المرحلة من تاريخهم: الحرية والإيمان.

وكشف «دي ميل» خلال المؤتمر أنه لا ينوي أن يربح ماديًّا من وراء الفيلم، مقررًا تخصيص إيراده لأعمال الخير وخدمة من تعاونوا معه طوال سنين عمره، كما صرح بأنه يزور الديكورات دائمًا، وأنه يتلقى تقارير عن كفاءة العمال والفنيين المصريين، ولكن ما كان يراه كان يذهله، خصوصًا أن ديكورات الفيلم هي أعظم منشآت أقيمت لصناعة فيلم في التاريخ، مبديًا فخره بأن يلتقي مع تلاميذه في مصر من جديد، وخص بالذكر عبد السلام موسى الذي عمل معه في فيلم «شمشون ودليلة»، والمخرج حسام الدين مصطفى الذي عمل معه في فيلم «أعظم عرض في العالم»، وقد كانا ممن شارك معه في تصوير «الوصايا العشر» في مصر.

ملحوظة: حسام الدين مصطفى هو المخرج الشهير المعروف بأعماله «سونيا والمجنون» و«الإخوة الأعداء» وغيرهما. أما عبد السلام موسى فبالبحث عنه في موقع «سينما. كوم» ظهر أنه درس السينما في بريطانيا، وسافر إلى الولايات المتحدة وتم ترشيحه ضمن نحو 1500 مساعد مخرج حول العالم لمساعدة دي ميل في إخراج «الوصايا العشر»، فضلًا عن أنه لم يخرج أي أفلام طوال حياته، بل اكتفى بالمشاركة في كتابة السيناريو لأفلام «الشيماء» لحسام الدين مصطفى، و«نار الشوق» للمخرج محمد سالم.

أنهى المخرج الكبير «سيسيل دي ميل» المؤتمر الصحفي ليذهب إلى موقع الديكورات في الجيزة وهنا تظهر تجليات المهندس المصري الذي أشرف على بناء ديكورات أهم وأضخم إنتاج هوليوودي في فترة الخمسينيات والستينيات، وهو المهندس أنيس سراج الدين، وهو الشخص الذي عاش في منزله «سيسيل دي ميل» طوال فترة بناء الديكورات وتصوير الفيلم في مصر، وتحديدًا في فيلته الأنيقة المسماة «عروس النيل» بالجيزة.

دي ميل في المؤتمر الصحفي عقب وصوله إلى مصر
دي ميل في المؤتمر الصحفي عقب وصوله إلى مصر

**********

المدينة الضائعة.. البحث عن أثر بُني في القرن العشرين!

تقول الصحف الصادرة في عام 1954، إن السلطات المصرية التي وفرت كل وسائل الدعم لـ«سيسيل دي ميل» وفريقه لتصوير فيلم «الوصايا العشر»، طلبت من المخرج العالمي أن يترك مجموعة ديكورات «بني يوسف» بعد انتهاء عملية التصوير، وألا ينقلها معه إلى الولايات المتحدة وألا يفككها، حتى تظل معلمًا سينمائيًّا وشاهدًا على هذه التجربة الفنية الفريدة.

ولكن، كما يظهر جليًّا، فإن هذه الديكورات اختفت ولم تَبْقَ على حالها؛ لأن موقعًا كهذا لو بقي على حاله بالفعل، لأصبح الآن معلمًا سينمائيًّا عالميًّا، وكنا بالتأكيد سنعرف عنه الكثير، وبما أننا بتنا نجهل مصير هذه الديكورات، فإن ذلك يعني بكل تأكيد أن «دي ميل» لم يستجب لطلب الحكومة المصرية.. فأين ذهبت تلك المدينة؟

أغلب المصادر الأجنبية التي طالعناها لم تُشِرْ إلى مصير ديكورات مجموعة «بني يوسف»، حتى «سيسيل دي ميل» نفسه لم يُشِرْ إلى مصيرها أو يلمح إلى ما فعله بها في مذكراته، كما فعل مع ديكورات نسخة عام 1923.

إلا أننا أثناء البحث، وجدنا مقالًا مطولًا للدكتور زاهي حواس منشورًا في صحيفة الأهرام بتاريخ 12 أغسطس 2000 بعنوان «قصة أهرام مصر»؛ حيث كتب حواس منتقدًا الأفلام الأمريكية والعالمية التي تم تصويرها في مصر، مؤكدًا أنها ساهمت في ترسيخ فكرة أن اليهود هم بناة الأهرامات، وأن تلك الصروح المصرية العملاقة بُنيت بالسـ.ـخرة، وخص بالذكر فيلم «الوصايا العشر».

ويشير حواس في مقاله إلى أن ديكورات الفيلم دُفـ.ـنت في منطقة «زاوية العريان»؛ حيث يقول نصًّا: «ثم أخيرًا جاءت هوليوود بالمخرج المعروف سيسيل دي ميل ليُخرج فيلم الوصايا العشر، وصورت أجزاء منه في صحراء أبو رواش، وقد دُفـ.ـنَت ديكورات الفيلم في منطقة زاوية العريان».

بنى دي ميل ديكورات عملاقة اعتبرت الأضخم في تاريخ السينما العالمية
بنى دي ميل ديكورات عملاقة اعتبرت الأضخم في تاريخ السينما العالمية

ما كشفه حواس صراحة، أعطانا أملًا في أن البحث عن موقع الديكورات قد يقودنا بالفعل إلى العثور عليها؛ فالديكورات لم تَخْتَفِ، لكنها دُفـ.ـنت؛ ما يعني أنها قد تكون واجهت مصيرًا مشابهًا لمصير ديكورات نسخة عام 1923، وأنها قد تكون في انتظار من يبحث عنها تحت رمال صحراء الجيزة لينفض عنها الرمال ويعيدها إلى الحياة.

شهادة الدكتور حواس عن مصير الديكورات كانت مفتاح نقطة الانطلاق بالنسبة إلينا، خاصةً أن حواس وقت كتابة مقاله، كان واحدًا من أبرز الأثريين المصريين، وسبق أن تقلد عدة مناصب؛ أهمها حتى ذلك التاريخ منصب مدير هضبة الجيزة؛ ما يعني أنه كان مطلعًا بكل تأكيد على تفاصيل المنطقة وما تخبئه، ولن يقول معلومة كهذه إلا عن دراية وتأكُّد.

ولكن كانت هناك ملاحظة وجب التوقف عندها في كلام حواس؛ فقد أجمعت المصادر المختلفة التي تناولت قصة تصوير الفيلم في مصر، على أن الديكورات أقيمت في قرية «بني يوسف»، بينما يقول الدكتور حواس إنها دُفِـ.ـنت في «زاوية العريان»! وهو ما احتاج منا تحديد مكان تلك القرية لفهم سبب هذا الاختلاف.

تحديد مكان «بني يوسف» لم يستغرق منا وقتًا طويلًا؛ ففي مصر كلها لا يوجد سوى قرية واحدة فقط تحمل هذا الاسم، تقع جنوب محافظة الجيزة، وهو ما يتفق مع المصادر التي قالت إن تلك القرية كانت على بُعدِ أميال خارج مدينة القاهرة؛ ما يجعل كلام الدكتور زاهي حواس مفهومًا؛ حيث إن تلك القرية ملاصقة لمنطقة «زاوية العريان».

اعتمادًا على المعلومات السابقة، قررنا البدء في عملية بحث دقيقة، على أمل تحديد موقع الديكورات، والوصول إليها بعد 68 عامًا على دفنها.

لقطات أرشيفية لعملية تصوير الفيلم ومشاهد التقطها عدسات ديميل في مصر

**********

«مينا هاوس».. ملتقى نجوم هوليوود

احتفت الصحافة المصرية أثناء تصوير الفيلم بأبطال «الوصايا العشر»، وكانت تحرص على متابعة أخبارهم والحصول منهم على حوارات وانفرادات؛ حيث كانت الغالبية العظمى منهم تقيم بفندق «مينا هاوس» على أطراف هضبة أهرامات الجيزة.

في أحد أعداد مجلة «المصور» وجدنا حورًا لـ«شارلتون هيستون» الذي قام بدور النبي موسى، عنوانه «أنا معجب بفن شارلي شابلن.. ولكني أكره سياسته!». وفي الحوار، قال «هيستون» إنه استيقظ متأخرًا لأنه كان يتدرب على القفز من فوق جواده (حصانه)؛ لأنه سيفعل ذلك أثناء التصوير. وفي سؤال عن كيفية النوم في «مينا هاوس» وحوله الكثير من المعجبين والمترددين على المكان؛ قال النجم الأمريكي الكبير إنه يستطيع النوم في أي مكان، مهما يكن فيه من ضجيج، على عكس زوجته التي يقلقها أي صوت.

أما المؤهلات التي تجعل الشخص ممثلًا قديرًا، فقال «هيستون»: «إن المخرج في السينما يستطيع أن يجعل من أي شخص ممثلًا كاملًا؛ فالكاميرا لا تسلط دائمًا على الوجه، ويمكن بعد لقطة حذف ما لا يتقنه الممثل إتقانًا تامًّا، على عكس ما هو متبع في المسرح؛ فإن المخرج لا يستطيع أن يجعل من الرديء جيدًا. وإني أفضِّل المسرح، وأكاد لا أنتهي من تمثيل فيلم حتى أطير من مدينة السينما إلى نيويورك؛ حيث أعمل على مسارحها».

أما «ويلكوكسون» فقد أجرت معه «المصور» كذلك حوارًا كان عنوانه «آثرت أن أكون وراء الكاميرا… لا أمامها!»، ويصف صحفي المجلة، الممثلَ الذي عمل في هذا الفيلم كمشرف إنتاجي، بأنه قامة فارعة، وله سمات قوية، فيها إرادة وتصميم، وعينان نفاذتان فيهما ذكاء وابتسام، وروح مرحة وحركة دائمة تجعلك لا تصدق أن صاحبها في الحلقة الخامسة من عمره، وأنه النجم السينمائي المعروف «هنري ويلكوكسون» الذي طالما ارتدى ثياب القسـ.ـاة والطـ.ـغاة في الأفلام الأمريكية، كما ظهر في أدوار الأبطال «مارك أنطونيو» و«ريتشارد قلب الأسد» وغيرهما.

وتحت «بوابة مصر»، وقريبًا من المخرج «سيسيل دي ميل»، الذي شرع في الإشراف على عملية تدريب الممثلين، التقى الصحفيُّ «ويلكوكسون»، وسأله عن السبب الذي جعله يقوم بمهمة أخرى في فيلم «الوصايا العشر» ليست هي دور البطولة، فقال «ويلكوكسون»: «طالما حلمت بأن أكون ممثلًا فتحقق حلمي، واشتركت في تمثيل 150 مسرحية اضطلعت فيها بدور البطولة، ثم انصرفت إلى السينما، ووضعت نفسي منذ البداية تحت تصرف أستاذي «سيسيل دي ميل»، ثم هجرت التمثيل واشتغلت بالإخراج وأنا في عنفوان البطولة؛ حتى لا يقال إنني فشلت أمام الكاميرا فاختبأت وراءها».

وهنا حضر الضابط المصري «عباس البغدادلي» الذي تولى تدريب «شارلتون هيستون» و«هنري ويلكوكسون» على الفروسية، فسأله صحفي «المصور» عن رأيه في النجمين الكبيرين، فقال إن «هيستون» راكب خيل ممتاز، لكنه بحاجة إلى مزيد من المران على ركوب العربات الحربية والسير بها على عجلة واحدة. أما «ويلكوكسون» فيمتاز بسرعته الفائقة في التقاط التعليمات؛ لذلك لم يحتج إلى أكثر من أربعة دروس في الفروسية، بعدها أصبح فارسًا ممتازًا.

وفي هذه التغطية الخاصة لمجلة «المصور»، ظهر أنيس سراج الدين المشرف على موقع بناء الديكورات، وهو يقف بجوار النجوم الأمريكيين، ويتجاذب معهم أطراف الحديث، كما ظهر «البغدادلي» وهو يتدرب «هيستون» و«ويلكوكسون» على ركوب الخيل. ولـ«البغدادلي» قصة ارتبطت بتصوير الفيلم، أثرت في مجرى حياته، تستحق أن نرويها.

ديميل (يمين) وويلكوكسون (يسار) وهيستون في المنتصف أثناء تصوير الفيلم
ديميل (يمين) وويلكوكسون (يسار) وهيستون في المنتصف أثناء زيارة أحد نجوم هوليوود لموقع التصوير

**********

«بني يوسف».. قرية بلا سكان!

تقع قرية «بني يوسف» المقصودة حاليًّا ضمن زمام «مركز أبو النمرس» التابع لمحافظة الجيزة، وتعد القرية من الأراضي التي تُعرَف بقرى «الروك الناصري» أي الأراضي الزراعية التي تم حصرها في عصر السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون سنة 715هـ/1315م، والباقية إلى اليوم، ومذكور اسمها في كتاب «التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية» لابن الجيعان؛ حيث يقول ابن الجيعان إن «قرية بني يوسف من توابع طموية».

على موقع البوابة الإلكترونية لمحافظة الجيزة، وجدنا خريطة إدارية لـ«مركز أبو النمرس» والقرى التي يضمها، ترجع إلى عام 2016، ويظهر بالخريطة أن الحدود الإدارية الحالية لقرية «بني يوسف» تبدأ شمالًا من طريق «محاجر بني يوسف» وتنتهي جنوبًا عند «عزبة شلبي»، بينما يحدها من ناحية الشرق «قرية شبرامنت»، ومن الغرب الظهير الصحراوي لمحافظة الجيزة.

عثورنا على القرية التي تمَّ بناء الديكورات فيها وتحديد مكانها بهذه السهولة، جعلنا نظن في البداية أن الأمر قد يكون أبسط مما نتخيل، وأننا قد لا نواجه المشكلات التي واجهها الأمريكي «بيتر بروسنان» بحثًا عن ديكورات النسخة الأولى من الفيلم عام 1923، التي استغرقت منه ما يزيد عن 30 عامًا.

كانت خطتنا بسيطة للغاية.. أن نتواصل مع بعض سكان القرية، ونسأل عمن يعرف أي معلومات عن موقع التصوير، خاصة ًكبار السن، ثم يدلنا على موقع بناء الديكورات.

كان اعتقادنا السابق مبنيًّا على فكرة أن سكان قرية «بني يوسف» هم من شكَّلوا المجاميع الرئيسية التي ظهرت بالمشاهد التي تم تصويرها بذلك الموقع.. وحدث كهذا بالتأكيد سيظل محفورًا في ذاكرة القرية ليتناقلوها جيلًا بعد جيل، ولكن الواقع أظهر أننا كنا على خطأ كبير!

فقد باءت كل محاولاتنا للتواصل مع سكان القرية بالفشل؛ حيث لم نعثر على أي شخص من أبناء القرية يعرف شيئًا عن أن فيلمًا عالميًّا تم تصويره في قريتهم في خمسينيات القرن الماضي، ولم نعثر على أحد من كبار السن يعرف شيئًا عن هذه الواقعة على الإطلاق! حتى فاجئنا أحد سكان القرية بقوله إن «بني يوسف» كانت بلا سكان تقريبًا في خمسينيات القرن الماضي، ولم تكن سوى أرض مزروعة بثمار البطيخ، وبالتالي من شبه المستحيل العثور على شخص يعرف شيئًا عن الفيلم بها.

فمن أين حصل «سيسيل دي ميل» على المجاميع؟

خريطة مركز أبو النمرس وتظهر بها قرية بني يوسف في الجنوب الغربي
خريطة مركز أبو النمرس وتظهر بها قرية بني يوسف في الجنوب الغربي

**********

من سيناء إلى «بني يوسف»

فور وصول «دي ميل» إلى القاهرة في المرة الثانية لبدء التصوير، توجه إلى موقع ديكورات «بني يوسف»، وبعدما تفقد كل المجسَّمات مع المهندس أنيس سراج الدين الذي أشرف على تنفيذها، طلب اختبار العجلات الحربية، ومع أول اختبار للعجلات التي تجرها الخيول، حدث تصـ.ـادم فيما بينها وتحطـ.ـمت العربات؛ لذا بدأ الفريق يبحث عن وسيلة لتوفير الأمان لسائقي العربات الحربية أثناء التصوير.

وكان من أول الأمور التي فكَّر فيها «دي ميل» أثناء فترة التجهيز، هو تجربة مشهد خروج موسى من بوابات المدينة المقامة في صحراء الجيزة، خصوصًا لقطة طيران الحمام؛ حيث يقول «كين ويتمور» المصور الفوتوغرافي للفيلم إن «دي ميل» أراد من هذه التجربة أن يؤكد للمشاهد أن مشهد الخروج حقيقي وليس به أي خدع أو رسومات.

ويضيف: «بدأت البروفة، وتحركت المجاميع، وفُتحت أقفاص الحمام للتجربة أعلى البوابات، لكنها طارت جميعها عائدةً إلى القاهرة.. حينها شعر مدير الإنتاج بالدوار، وأنه سيسقط مغشيًّا عليه، قبل أن يظهر أن «دي ميل» تفهم الأمر وطلب تربية الحمام في مكان التصوير وإطعامه لعدة أسابيع أولًا حتى لا يهرب فور بدء التصوير ويعود إلى القاهرة مرة أخرى!»، وكان من نتاج محاولات تربية الحمام في موقع التصوير وتدريبه على عدم الهرب، أن وصل إجمالي ما اشتراه الإنتاج من طيور الحمام إلى 6 آلاف زوج!

وهكذا مر الأسبوع الأول من العمل في مصر، الذي كان مخصصًا لاختبارات الماكياج، واختبارات الملابس واختبارات عربات تدريبات الخيول والطيور، بالإضافة إلى مراجعة كل ما قام به قسم الدعم والبناء، إلى أن قرر «دي ميل» إدارة الكاميرا لالتقاط أول المشاهد في مصر.

كانت بداية التصوير الحقيقية في سيناء لا في الجيزة؛ حيث كان أول مشهد يتم تصويره هو مشهد تجول موسى في الصحراء عند سفح جبل سيناء بعد خروجه من مصر، ثم تسلقه وجه الجرف. وخلال فترة التصوير في سيناء، أقام فريق التصوير في دير «سانت كاترين»؛ حيث اعتاد «دي ميل» الصعود مساءً إلى سطح الدير بصحبة «ويلكوكسون»، والجلوس وتأمُّل سماء سيناء الصافية.

يقول «ويلكوكسون» إنه أثناء عودتهم من التصوير في سيناء، توجهوا إلى البحر الأحمر لتصوير مشهد انشقاق البحر ومرور موسى وقومه في منطقة «أبو رديس»، وقد استعانوا بطائرات سلاح الجور المصري لاختيار النقطة التي سيتم تصوير مشهد الخروج منها على البحر، لكنهم انتهزوا الفرصة وقاموا بالسباحة عند غروب الشمس للاستمتاع بالمياه بعد الأيام الصعبة التي أمضوها في النوم على القش داخل غرف الرهبان، وبعد تسلق الجبال الصحراوية الوعرة صعودًا وهبوطًا؛ حيث كانت الأجواء رائعة على الشاطئ.

أول مشهد يتم تصويره في الفيلم، هيستون في صحراء سيناء
أول مشهد يتم تصويره في الفيلم، هيستون في صحراء سيناء

**********

صحراء الألسن

حسَب الصحافة المصرية، كانت صحراء «بني يوسف» أشبه ما تكون بمدرسة الألسن؛ حيث كان يُسمَع فيها كل لغة يعرفها البشر؛ بسبب التنوع الكبير للمشاركين في الفيلم، وعلى رأسهم الممثلون ممن أدوا الأدوار الصامتة، الذين يعرفون بالمجاميع أو «الكومبارس»، والذين تجاوز عددهم 15 ألفًا!

كان أبرز ممثلي المجاميع الذين تمت الاستعانة بهم أثناء تصوير الفيلم في مصر الجنود الذين قادوا العجلات الحربية خلف رمسيس الثاني، وقد كانوا في الحقيقة مائتي جندي وضابط من سلاح الفرسان المصري، وافق القائد العام للقوات المسلحة حينها على طلب «دي ميل» بمشاركتهم في التصوير لمدة أسبوعين، مستعينين في ذلك بمائتي جواد من جياد القوات المسلحة. وقد كان هؤلاء الجنود يتمتعون جميعًا بالقوة وببسطة في الجسم، وقد تمت الإشارة إلى جنود سلاح الفرسان في تتر الفيلم، بالإضافة إلى قائدهم الضابط «عباس البغدادلي».

ولأن مهمة هؤلاء الجنود كانت محفوفة بالمخـ.ـاطر؛ حيث يطلب منهم قيادة العجلات الحربية بسرعات عالية لتنفيذ بعض المُطـ.ـارَدات على أرض وعرة وفوق جبال مرتفعة؛ فقد تم الاتفاق مع فريق إنتاج الفيلم على أن تعوض أسرة الجندي إذا لقي مصـ.ـرعه أثناء التصوير بألف جنيه، وأن يدفع مبلغ 200 جنيه تعويضًا عن كل جواد ينـ.ـفق.

وكشفت مجلة «المصور» عن حادث وقع أثناء التصوير أكد الخطورة التي كانت يتعرض لها هؤلاء الجنود يوميًّا؛ فقد سقط أحد الجنود عن عربته الحربية أثناء تصوير أحد مشاهد المطاردات، ولم يستطع الابتعاد عن الميدان بسبب السرعة الفائقة التي كانت تسير بها العربات، فمرَّت عليه إحدى العجلات وأصابته بجـ.ـراح خطـ.ـيرة، كما نفـ.ـق أكثر من جواد من شدة التعب والإرهاق المتواصل.

جنود سلاح الفرسان الذين تم الاستعانة بهم لقيادة العجلات الحربية
جنود سلاح الفرسان الذين تم الاستعانة بهم لقيادة العجلات الحربية
تمت الاستعانة بمائتي جواد مملوكة للقوات المسلحة في تصوير مشاهد الفيلم
تمت الاستعانة بمائتي جواد مملوكة للقوات المسلحة في تصوير مشاهد الفيلم

أما المجاميع الأخرى الذين أدوا أدوار قوم موسى «بني إسرائيل» فقد تم جمعهم من عدة أماكن؛ حيث تقول المصادر إن «دي ميل» طلب أن يكون بين المجاميع ألف مصري من ذوي الذقون الطويلة؛ حتى يكونوا أقرب شبهًا ببني إسرائيل في الفترة التي يصورها الفيلم، إلا أن فريق العمل لم ينجح سوى في جمع مائتي شخص فقط ذوي لحية، بينما استُخدمت الذقون الصناعية مع باقي المجاميع. وقد تم جمع هؤلاء المائتين من القاهرة بعد التواصل مع بعض الوكلاء المصريين العاملين في مجال السينما.

بخلاف هؤلاء، كان الفيلم يحتاج إلى آلاف آخرين من الكومبارس، بالإضافة إلى آلاف أخرى من رءوس الماشية؛ لذا رأى أن يبحث عن مجاميع يمكنهم المشاركة في التصوير بمواشيهم ودوابهم! وهو ما حدث؛ حيث جاب فريق العمل القرى القريبة من موقع التصوير، وعرضوا على الفلاحين المشاركة في التصوير بنسائهم وأطفالهم وحميرهم ومواشيهم، وهو ما استجاب له الكثيرون.

وحدد إداريو الفيلم أسعار ظهور هؤلاء على الشاشة؛ حيث كان يدفع جنيه واحد لكل فلاح يشارك في التصوير هو وحماره مقابل عمل يوم واحد، وجنيه ونصف للمرأة، وخمسون قرشًا للرضع و75 قرشًا للصبية. أما الدواب فقد كان يدفع جنيه لأي فلاح يوافق على إشراك بقرته أو جاموسته في التصوير، على أن يتكبد هو نفقات غذائها طوال ذلك اليوم، وخمسون قرشًا للخروف أو العنزة.

استعان دي ميل بآلاف من المجاميع لتصوير مشهد الخروج
استعان دي ميل بآلاف من المجاميع لتصوير مشهد الخروج

وتشير المصادر إلى أن هؤلاء المجاميع المصريين أظهروا تأثرًا ملحوظًا أثناء التصوير بالأحداث التي كان الفيلم يتناولها، وخاصة تجسيد «هيستون» دور النبي موسى؛ حيث يقول موقع «معهد الفيلم الأمريكي» إن «هيستون» ظل مرتديًا زي موسى حتى في فترات الراحة التي لا يتم التصوير فيها؛ حتى يظل متقمصًا الشخصية، وهو ما جعل المجاميع المصريين من مسلمين ومسيحيين ويهود ممن شاركوا في المشاهد الخارجية، يتعاملون معه كأنه نبي فعلًا، وكانوا يتبعونه أثناء الراحة ويشيرون إليه في إعجاب مرددين: «موسى.. موسى».

وأثناء تصوير لقطات نقل جثمان النبي يوسف في مشهد الخروج من مصر، أظهرت المجاميع تأثرًا كبيرًا؛ حيث سُمع صوتهم وهم يرددون معًا عبارة «لا إله إلا الله» بلغة عربية منغمة شجية، فأخذ المشاركون من غير الناطقين بالعربية في ترديد الجملة نفسها تأثرًا بأداء المصريين، كأنهم يعيشون الأحداث فعلًا.

وهنا مفارقة يجب أن نشير إليها، وهو أن كل الممثلين (المجاميع) الذين شاركوا في تصوير المشاهد الخارجية بوصفهم يهودًا من قوم موسى، هم في الحقيقة مصريون، بينما بعض الممثلين الأمريكيين الذين شاركوا في الفيلم بوصفهم مصريين –بالإضافة إلى المخرج «دي ميل» والمنتج «زاكور»– هم في الحقيقة يهود!

فنيو المكياج يضعون يختارون لحية مناسبة لممثل من المجاميع
فنيو المكياج يختارون لحية مناسبة لممثل من المجاميع

وكان من بين هؤلاء المجاميع أيضًا، عدد كبير من الفتيات اليونانيات واليهوديات والأرمينيات، قام مساعدو المخرج بجمعهن من القاهرة للمشاركة في مشاهد الفيلم الرئيسية التي تم تصويرها؛ لأنهن أقرب شبهًا بالممثلات الأمريكيات اللاتي سيظهرن في أدوار المصريات بالمشاهد الداخلية التي سيتم تصويرها في هوليوود.

المهم، أن مجمل ما توصلنا إليه بعد البحث في مسألة المجاميع، أنه تم جمعهم من عدة أماكن متفرقة، وفي الغالب مجهولة ويصعب الوصول إليها، فليس من المعروف لنا بالتحديد ما القرى التي جاء منها الكومبارس الذين شاركوا بدوابهم ومواشيهم، ناهيك عن أن يوجد شخص من بين من شاركوا لا يزال على قيد الحياة بعد أكثر من 60 عامًا على إنتاج الفيلم، إضافة إلى أن من تم جمعهم من القاهرة لا يوجد عنهم أي معلومات واضحة تساعدنا في الوصول إلى أي منهم.

لذا، وفي ظل صعوبة الوصول إلى أي شخص يمكن أن يكون على اطلاع دقيق بموقع التصوير، كان علينا اللجوء إلى أساليب أخرى لتحديد المنطقة التي من المفترض أن تكون الديكورات قد دُفِنت بها، وكانت وسيلتنا في هذه المرة هي موقع «Google Earth».

نفذ جنود سلاح الفرسان المصري مطاردة خطرة استدعت الاتفاق على تعويض مقدم لمن يصاب منهم أو يلقى مصرعه
نفذ جنود سلاح الفرسان المصري مطاردة خطرة استدعت الاتفاق على تعويض مقدم لمن يصاب منهم أو يلقى مصرعه

**********

«المولد النبوي» يوقف التصوير!

مشهد خروج النبي موسى وقومه من بوابات المدينة، بما يحتويه من مطـ.ـاردة جنود فرعون لهم، وهو ما أدى في النهاية إلى معجزة شق البحر، كان من بين المشاهد الصعبة جدًّا في الفيلم، واحتاج تصويره إلى وقت تطويل من العمل المتواصل، وهو ما كان سببًا في تعرض «دي ميل» لأزمـ.ـة قلبية أثناء تصوير المشهد.

فأثناء تصوير اللقطة الثالثة من مشهد الخروج العام، وبينما كانت الكاميرات تلتقط هذا المشهد من فوق بوابة مصر، صعد «دي ميل» السلالم لأعلى البوابات، وشعر بإرهاق شديد ليكتشف أنه يتعرض لأزمـ.ـة قلبية، وهو ما جعله غير قادر على إدارة المجموعات، فقام «ويلكوكسون» بإراحته وتناول منه مكبر الصوت، ووجه المجاميع مقلدًا صوت «دي ميل» لعدة ساعات، حتى انتهى تصوير هذا المشهد المرهق في لحظة الغروب.

ويقول «ويلكوكسون»: إن «الغروب كان إيذانًا ببداية يوم إسلامي مقدس، فتوقف الجميع عن العمل احترامًا لهذه المناسبة»، وبعد انتهاء تصوير هذا المشهد، قام طبيب المخيم بتقديم الإسعافات الأولية لـ«دي ميل» وإعطائه أقراص نيتروجليسرين. وبالبحث عن تلك المناسبة الدينية في تلك الفترة، نرجح أنه كان يقصد المولد النبوي الشريف.

احتاج مشهد الخروج تصويره أكثر من مرة بسبب الأعداد الضخمة للمشاركين فيه
احتاج مشهد الخروج تصويره أكثر من مرة بسبب الأعداد الضخمة للمشاركين فيه

كان العمل يبدأ في الميدان من الساعة الثامنة صباحًا إلى الساعة الأولى بعد الظهر؛ حيث تتوقف الحياة تمامًا، إلا أنه في اليوم الذي تم تصويره مشهد الخروج فيه، تواصل التصوير حتى الغروب، وقد كان يتم تدريب الممثلين على أداء أدوارهم في غير أوقات التصوير والتمثيل، على عكس ما كان جاريًا في الأفلام المصرية حينها؛ حيث كانت تجرى البروفات أمام الكاميرا، ويضطر المخرج إلى إعادة اللقطة الواحدة عدة مرات، حسب تقارير الصحافة المصرية.

وقد بذل معاونو «سيسيل دي ميل» مجهودًا كبيرًا في العثور على ما يحتاج إليه من أنواع «النسانيس» والطيور الملونة كالطاووس التي ظهرت أثناء تصوير المشهد، وقد حاولوا أن يُقنِعُوا المخرج الكبير بالاستغناء عن هذه الأنواع، لكنه أصر على رأيه، وقال إن وجودها لازم جدًّا؛ لأنها تعطي المشاهد الجو الحقيقي الذي كان المصريون القدماء أيام النبي موسى يعيشون فيه.

وقد شارك في التمثيل بمشهد الخروج، الممثل المصري الشهير «رشدي أباظة»، الذي كان لا يزال في بداية مشواره الفني؛ حيث ظهر في لقطة وهو يلقي بتمثال ذهبي إلى أحد الأطفال تعبيرًا عن فرحته بالخروج من مصر. الطريف أن لقطة أباظة وهو يلقي التمثال تم تصويرها في مصر، بينما اللقطة التالية لها مباشرةً التي يمسك فيها الطفل بالتمثال تم تصويرها في استوديوهات هوليوود بالولايات المتحدة!

الممثل المصري رشدي أباظة في ظهوره بفيلم الوصايا العشر
الممثل المصري رشدي أباظة في ظهوره بفيلم الوصايا العشر

يقول «جون ل. جنسن» إنه بسبب التكلفة الكبيرة لإنتاج الفيلم، كان يعاد استخدام الملابس بين الممثلين؛ فمثلًا جلد النمر الذي ظهر رمسيس الثاني وهو يرتديه في أحد المشاهد، هو ذاته جلد النمر الذي ظهرت به شخصية «داثان» أثناء مشهد خروج موسى وقومه، ودرع موسى هي ذاتها الدرع التي سيظهر «رمسيس الثاني» ممسكًا بها في لقطات أخرى بالفيلم. وأثناء مشهد الخروج، كان قوم موسى يحملون ملابس مصرية وإكسسوارات تم استخدامها بالفعل في الفيلم، وظهروا كأنهم يخرجون بما استطاعوا جمعه من الكنوز المصرية.

ويقول «جنسن» إنه بعد الانتهاء من تصوير مشهد الخروج، طلب من كل الممثلين والمجاميع خلع ملابس الفيلم، وتسليمها فورًا ولم يسمح لهم بالمغادرة بها، حتى لا يتم استخدامها في أفلام أخرى. وتم شحن كل الملابس في اليوم نفسه إلى الولايات المتحدة لضمان عدم سرقتها.

ويشير «ويتمور» في حواره هو الآخر في كتاب «Written in Stone» إلى أن الكثيرين من العاملين في الفيلم كانوا يحرصون على أداء الصلاة في موقع التصوير، وتحديدًا الفنيين المسلمين، وكذلك كان المسيحيون يجدون في وقت الصلاة فرصة للهرب من العمل الشاق الذي لا يتوقف بتوجيهات «دي ميل».

بينما كان الضابط «البغدادلي» يقوم بشيء آخر!

فلاحون مصريون شاركوا في تصوير الفيلم مع زوجاتهم وأطفالهم ودوابهم
فلاحون مصريون شاركوا في تصوير الفيلم مع زوجاتهم وأطفالهم ودوابهم

**********

5 أميال من أهرامات الجيزة

فحص مشاهد الفيلم التي تم تصويرها في قرية «بني يوسف» تُظهر أن الديكورات أقيمت في منطقة صحراوية وليس وسط الزراعات، بينما كانت الأراضي الزراعية تظهر على أطرافها في بعض الصور الفوتوغرافية لموقع التصوير؛ أي أن موقع الديكورات كان في الظهير الصحراوي للقرية.

من ثم، قررنا تركيز عملية البحث –بعد مطابقة الخريطة الإدارية للقرية مع موضعها على موقع «Google Earth»– في الشريط الصحراوي الممتد بطول الحدود الغربية لقرية «بني يوسف»، البالغ طوله تقريبًا 1.8 كيلو متر، من «طريق المحاجر» شمالًا حتى «عزبة شلبي» جنوبًا.

بفحص هذا الموضع على «Google Earth» سنجد أنه يضم قطعة أرض تحوي عددًا كبيرًا من المقـ.ـابر في الشمال، ويضم كذلك بعض الطرق غير الممهدة؛ أحدها يتجه شمالًا والآخر يشق الصحراء غربًا يقود إلى جبل «بني يوسف»، وبخلاف ذلك لا يوجد شيء يمكن من خلاله الاستدلال على موقع الديكورات بدقة داخل هذا الشريط.

في التصريحات التي أدلى بها المصور الفوتوغرافي للفيلم «كين ويتمور» للكاتبة في كتاب «Written in Stone»، قال إن ديكورات الفيلم أقيمت في موضع مواجه لقرية «بني يوسف» على بعد (5 أميال) من أهرامات الجيزة.

وبناء على معلومة «ويتمور»، لو قمنا بمد خط على الخريطة طوله خمسة أميال يبدأ من قمة الهرم الأكبر، سوف ينتهي في منتصف الشريط الصحراوي الملاصق لقرية «بني يوسف»، وهو ما يوضح أن هذا الشريط الذي حصرنا البحث فيه، هو في الغالب الموضع الصحيح الذي يضم الديكورات.

ومن ثم، لو رسمنا دائرة قطرها (1 ميل)، وفي مركزها نهاية الخط الذي رسمناه من الهرم، سوف نحصل على مكان تقريبي للموضع الذي أقيمت فيه الديكورات، وهو ما يساعدنا على تضييق منطقة البحث وحصرها داخل هذه الدائرة فقط.

فحص المنطقة الواقعة داخل الدائرة عبر موقع «Google Earth» لم يقدنا إلى شيء واضح.. السبيل الوحيد كان هو التنقيب في هذا الموقع بشكل أولي للتأكد من صحة نظريتنا، وهو أمر لم نكن نملك تنفيذه بكل تأكيد.

لذا كان علينا البحث عن دليل آخر يساعدنا في العثور على موقع الديكورات، ويؤكد لنا إما صحة الموقع الذي قمنا بتحديده باعتباره الموقع المحتمل للديكورات، أو هدم تلك النظرية. ولكن إحباطنا لم يطل؛ حيث عثرنا على هذا الدليل داخل أروقة مكتبة الإسكندرية العريقة.

خريطة توضح طول الشريط الصحراوي الملاصق لقرية بني يوسف
خريطة توضح طول الشريط الصحراوي الملاصق لقرية بني يوسف

**********

البغدادلي.. الضابط العاشق

يعد «عباس البغدادلي» أحد أهم الشخصيات المصرية التي شاركت في الفيلم؛ لكونه ضابط سلاح الفرسان الذي ترأس مجموعة الجنود الفرسان التي شاركت بالتمثيل، إلا أن دوره لم يقتصر على ذلك فقط، بل امتد أيضًا إلى أسرة المخرج الكبير «سيسيل دي ميل»!

فقد تم تكليف «البغدادلي» بالعديد من المهام، منها تدريب من جسَّدوا جنود فرعون في الفيلم، كذلك تم تكليفه بتدريب أبطال العمل على ركوب الخيول وقيادة العجلات الحربية، وعلى رأسهم «هيستون» و«ويلكوكسون».

كان البغدادلي أيضًا –وفقًا لمجلة «المصور»– مدربًا فائقًا للجياد، حتى إن الصحفي المصري الذي زار موقع التصوير قال عنه: «معروف عن الفرسان أنهم يروضون الجياد القوية الجبـ.ـارة، حتى تصبح مطواعة هادئة، لكن فارسنا الضابط المصري عباس البغدادلي كان يثير الجياد الهادئة ليجعلها شقية متوحـ.ـشة!».

الضابط عباس البغدادلي أثناء تدريب الخيول المشاركة في تصوير الفيلم
الضابط عباس البغدادلي أثناء تدريب الخيول المشاركة في تصوير الفيلم

قصة وجود «البغدادلي» (31 عامًا حينها) في الأساس تحدثت عنها كثير من المصادر، لكن محرر مجلة «المصور» سأل معاوني «سيسيل دي ميل»، عن ذلك الفارس المصري، وكيف جاء للمعاونة في الفيلم؟ فقيل إنه حين سمح القائد العام للقوات المسلحة لجنود سلاح الفرسان المصري بالاشتراك في الفيلم، التمس منه القائمون على العمل أن يرشح لهم فارسًا يستطيع تدريب الجنود على قيادة العجلات الحربية والخيول العربية على الكر والفر والهياج أثناء المطاردات.

وبالفعل تم اختياره لأداء هذه المهمة، لكن عندما رآه «دي ميل» في موقع التصوير طلب منه أن يشترك في الفيلم ممثلًا أيضًا، وهو ما كان يتطلب موافقة القائد العام، وبالفعل وافق، واشترك «البغدادلي» في «الوصايا العشر».

لعب «البغدادلي» في الفيلم دورَ كبيرِ قوَّاد العجلات الحربية، الذي كان يرافق شخصية رمسيس الثاني في أغلب المشاهد. ومن أبرز المشاهد التي ظهر فيها، عندما طلب منه أن يسرع حاملًا الأمر بمطـ.ـاردة النبي موسى، فيقفز فوق جواده دون سرجه، ويندفع به عبر الجبال والصحاري، ثم يركب مع رمسيس الثاني العجلة الحربية، ويقودها تحت بوابة مصر الضخمة، بينما الجنود ينتظرون إشارة الهجـ.ـوم، فيستدير لهم رمسيس الثاني، بينما يتلقى القائد بركة والدته، وتبدأ المطاردة.

تولى البغدادلي مهمة تدريب أبطال الفيلم على قيادة العجلات الحربية
تولى البغدادلي مهمة تدريب أبطال الفيلم على قيادة العجلات الحربية

كان «البغدادلي» قائدًا حاسمًا وحازمًا للمجموعة المصرية في الفيلم، لكن واجهته أزمة كادت تعصـ.ـف بقيادته تلك، بل كادت تعصـ.ـف بالفيلم نفسه، وهو أن الجنود من المصريين القدماء كانوا يحلقون شواربهم وشعر أجسامهم؛ وذلك دلالة على ارتقاء النسل، لكن جنود سلاح الفرسان المصريين حينها رفضوا ذلك بقوة، واعتبروا أن حلق شواربهم وشعر جسدهم طلب يخـ.ـدش كرامتهم، فاضطر «البغدادلي» إلى أن يحلق شعر جسمه وشاربه قبل أن يحين دوره، حتى يثبت لهم أن حلق الشارب لا علاقة له بالكرامة أو الرجولة، فاقتنع الجنود.

وأثناء التصوير، قرر القائمون على الفيلم أن يسافر «البغدادلي» إلى لوس أنجلوس مع فريق العمل لاستكمال دوره في استوديوهات هوليوود، وقد أمَّنت الشركة على حياته بمبلغ عشرين ألف دولار، وهو رقم كبير للغاية، مقارنة ببقية المصريين الذين اشتركوا في تصوير الفيلم.

العلاقة الجيدة التي جمعت «دي ميل» بـ«البغدادلي» تحولت فيما بعد تصوير الفيلم في مصر إلى ترقب وحذر؛ حيث يقول «ويلكوكسون» في حواره إن «دي ميل» لاحظ سريعًا أن حفيدته «سيسيليا» أو كما كان يطلق عليها «سيتزي» كانت معجبة بـ«البغدادلي» وبجاذبيته، إلا أنها كانت لا تزال مراهقة في ذلك الوقت، لكن ما أثار قلق «دي ميل» أكثر هو أن «البغدادلي» كان يبادلها المشاعر.

ويبدو من كلام «وليكوكسن» أن «دي ميل» طلب منه أن يراقب حفيدته ويمنعها عن الاختلاط بـ«البغدادلي» في موقع التصوير، إلا أن «وليكوكسن» رفض ذلك، وقال إنه عمل فوق طاقته، كما أنه كان شخصيًّا مُعجبًا بـ«البغدادلي»، ويرى أن نواياه شريفة، وأنه يريد أن يتزوج بالفتاة فعلًا، إلا أن «دي ميل» كان يرى أن «البغدادلي» قد يعتبِر «سيتزي» تذكرته إلى هوليوود، وإلى عائلة «دي ميل» تحديدًا.

سافر البغدادلي مع طاقم الفيلم إلى هوليوود لاستكمال مشاهده، ويظهر هنا أثناء قيادته لعربة رمسيس الثاني
سافر البغدادلي مع طاقم الفيلم إلى هوليوود لاستكمال مشاهده، ويظهر هنا أثناء قيادته لعربة رمسيس الثاني

«ويلكوكسون» أكد لـ«دي ميل» رؤيته بأن الاعتراض على هذه العلاقة بين الفارس المصري وحفيدة أهم مخرجي العالم، قد يزيد كلًّا من الطرفين تمسكًا بالآخر، وهو ما حدث بالفعل. وفي النهاية، ورغم معارضة «دي ميل» لهذه العلاقة لفترة، تزوج «البغدادلي» و«سيتزي» في 6 يوليو 1955 في سان فرانسيسكو، في مراسم مزدوجة إسلامية ومدنية معًا.

وتشير بعض المصادر التي تناولت حياة «سيتزي» عبر الإنترنت، أنها انفـ.ـصلت عن «عباس البغدادلي» بعد وقت قصير من زواجهما، بعدما أنجبت له طفلين؛ حيث تزوجت لاحقًا رجل الأعمال راندال إدوارد بريسلي في 1961 وأنجبت منه ثلاثة أطفال وحملت اسمه؛ حيث أصبح اسمها «سيسيليا بريسلي دي ميل».

ومن المعلومات الأخرى التي أتيحت عن «سيتزي» في المواقع الإلكترونية، وتحديدًا في موقع ocregister.com أنها كانت في الـ16 من عمرها عندما جاءت إلى مصر بصحبة جدها لتصوير فيلم «الوصايا العشر»، كما أنها عادت إلى مصر مرة أخرى عندما بلغت الـ19 مع زوجها عباس البغدادلي، الذي كان قد وجد عملًا في إدارة الشحن الخاصة بشركة «أوناسيس» في الشرق الأوسط، مفضلًا عدم الاستمرار في مجال التمثيل، ورُزقا بطفل سمياه Bo، إلا أن زواجهما لم يدم طويلًا كما تمت الإشارة.

صورة نادرة لزفاف البغدادلي وسيتزي في القنصلية المصرية بسان فرانسيسكو
صورة نادرة لزفاف البغدادلي وسيتزي في القنصلية المصرية بسان فرانسيسكو

**********

البحث عن أنيس سراج الدين

في عام 1954، كان المهندس أنيس سراج الدين واحدًا من المهندسين المصريين المعروفين في الوسط المعماري، بوصفه أحد رواد الهندسة المصرية الحديثة؛ حيث كان قد صمم ونفذ مجموعة من المباني الهامة، كان أبرزها مقـ.ـبرة الأغاخان في أسوان؛ لذا عندما وصل الفريق الخاص بـ«دي ميل» إلى مصر منتصف العام للبدء في تجهيز موقع التصوير، اختير سراج الدين ليقوم بتنفيذ تصميمات الفيلم ومجموعة ديكورات «بني يوسف».

والمهندس أنيس من أسرة سراج الدين الوفدية العريقة، كما أنه كان متزوجًا في ذلك الوقت بالدكتورة ليلى علي إبراهيم أستاذة العمارة الإسلامية، ورزق منها بثلاثة أبناء؛ هم: منى وهدى وإسماعيل، الذي سيصبح بعد ذلك الدكتور إسماعيل سراج الدين أول رئيس لمكتبة الإسكندرية.

فور تكليف أنيس سراج الدين بمهمة تنفيذ ديكورات الفيلم، سارع إلى البدء في اختيار موقع التصوير، ووضع التصميمات اللازمة، ثم بدأ في إقامة عدد من الورش في الموقع تمهيدًا لبناء الديكورات تحت متابعة الفنيين القادمين من هوليوود.

يقول «ويلكوكسون» إن سراج الدين لم يخيب ظن «دي ميل» على الإطلاق؛ فقد كان قيامه بإعادة بناء آثار الأقصر بمنزلة عودة بالزمن إلى الوراء؛ حيث تم بناء مجسمات عملاقة لم تشهد السينما العالمية مثيلًا لها حتى ذلك الوقت، وكانت تمتاز عن ديكورات النسخة الأولى من الفيلم بأنها أصلية أكثر ودقيقة، وقد تم وضع تفاصيلها استنادًا إلى النسخ الأصلية للمباني والآثار الحقيقية.

المهندس أنيس سراج الدين (يمين) مع ويلكوكسون أثناء التحضير للفيلم
المهندس أنيس سراج الدين (يمين) مع ويلكوكسون أثناء التحضير للفيلم

وعندما وصل «دي ميل» إلى مصر وتوجه إلى موقع تصوير «بني يوسف» وشاهد البوابة المصرية العملاقة التي أقامها العمال المصريون بإشراف المهندس أنيس سراج الدين؛ أسرع إليه وهنأه قائلًا: «يقولون عني إنني ممن لا يعجبهم العجب، ولكن هذه البوابة في نظري هي العجب العجاب. وصدقني أنني كنت أضع يدي على قلبي خشية أن تفشل في تصميم ديكورات الفيلم في مصر، ولم أكن أتصور أن في مصر عمالًا فنيين يستطيعون إقامة مثل هذه البوابة الأثرية العجيبة».

كان إعجاب «دي ميل» بتنفيذ الديكورات بداية علاقة وطيدة بينه وبين سراج الدين، ازدادت أكثر عندما عرض المهندس المصري استضافة المخرج العالمي في منزله، بالفيلا التي أقامها لأسرته في الجيزة بالقرب من حديقة الحيوان، والتي حملت اسم «عروس النيل»، وهو العرض الذي قبله «دي ميل»، مؤكدًا أنه «لا شيء يفوق كرم الضيافة في الشرق الأوسط».

أثناء البحث، كنا نرى أن المهندس سراج الدين هو أكثر شخص اقترب من الديكورات بحكم عمله؛ لذا كنا نأمل أن نجد لديه مفتاحًا يساعدنا على تحديد موقع الديكورات بدقة.

كنا نعلم أن من الراجح أن يكون الرجل قد توفي قبل سنوات عدة، لكن كان أملنا أن نجد شيئًا في كتاباته أو مؤلفاته عن عمله في الديكورات يساعدنا في مهمتنا، لكننا صُدِمنا عندما اكتشفنا أن المهندس سراج الدين توفـ.ـي بعد أشهر عقب الانتهاء من تصوير الفيلم في حـ.ـادث سير أنهى مسيرته المعمارية مبكرًا.

نجح سراج الدين في إقامة مدينة عملاقة أبهرت دي ميل وحازت إعجاب صناع السينما في هوليوود
نجح سراج الدين في إقامة مدينة عملاقة أبهرت دي ميل وحازت إعجاب صناع السينما في هوليوود

بحثنا عن أي مؤلفات لسراج الدين فلم نعثر على شيء، كما اكتشفنا أن المعلومات المتاحة عنه على الإنترنت، سواء بالعربية أو الإنجليزية، تكاد تكون معـ.ـدومة؛ لذا لم يكن أمامنا سوى البحث عن نجله الدكتور إسماعيل سراج الدين، إلا أن محاولاتنا الأولية في التواصل معه باءت جميعها بالفشل، وعلمنا أنه خارج مصر ولم يكن هناك من يعرف وسيلة للتواصل معه.

في أثناء ذلك، حصلنا على معلومة قيمة للغاية، كان لها تأثير كبير على مجريات البحث، مفاد هذه المعلومة أن أسرة سراج الدين تبرعت بمجموعة تصميماته المعمارية إلى قسم الكتب النادرة والمجموعات الخاصة بمكتبة الإسكندرية، التي تضم تصميمات 16 مشروعًا من مشروعاته الهندسية، منها أعماله على ديكورات فيلم «الوصايا العشر».

على الفور، توجهنا إلى مكتبة الإسكندرية، وطلبنا الاطلاع على التصميمات، كنا نأمل أن نعثر بينها على أي خريطة يمكن أن تساعدنا في تحديد موقع الديكورات بدقة، إلا أن العاملين بقسم المجموعات الخاصة، أخبرونا أن المجموعة لا تزال في المخازن، ولا يمكن الاطلاع عليها. وبعد نقاش طويل لتوضيح غرضنا من البحث، قرروا مساعدتنا عبر قيام أحد الموظفين بالدخول وحده في المخازن والاطلاع على كل التصميمات بنفسه بحثًا عن أي تصميمات بها خرائط، ثم عرضها علينا.

وبالفعل، بعد عملية لم تطل، عاد إلينا الموظف حاملًا لوحة وحيدة، مؤكدًا أنه لا يوجد بين عشرات اللوحات التي تخص الفيلم في المخازن سوى هذه اللوحة التي تتضمن ما يشبه خريطة. أما باقي اللوحات فتتضمن مساقط ورسومات تفصيلية للبوابة والتماثيل، وقد كانت هذه اللوحة كافية بالفعل لإرشادنا إلى ما نبحث عنه.

الخريطة التي عثرنا عليها في مكتبة الإسكندرية بين تصميمات المهندس أنيس سراج الدين
الخريطة التي عثرنا عليها في مكتبة الإسكندرية بين تصميمات المهندس أنيس سراج الدين

**********

«دي ميل» يعود إلى هوليوود

رغم أن المشاهد الخارجية للفيلم تم تصويرها في مصر بين خريف وشتاء عام 1954، فإن صُنَّاعه الأمريكيين أكدوا في شهاداتهم درجات الحرارة المرتفعة في صحراء مصر، التي كانت تهدد الخام المستخدم في التصوير فعلًا، وقد تغلَّب الفنيون على هذا الأمر بأن وضعوا الخام المستخدم في صناديق من الثلج لحمايته، ثم نقله يوميًّا إلى هوليوود بالطائرة لتحميضه في معامل «بارامونت»، ثم إعادتها مجددًا إلى مصر لكي يطلع عليه «دي ميل» داخل «ستوديو مصر» بالقاهرة؛ وذلك للتأكد من سلامة المشاهد.

المصور «كين ويتمور» أكد أنه بعد تصوير المشاهد المهمة، غادر «دي ميل» وأسرته ومعهم «البغدادلي» –الذي أصبح خطيب «سيتزي» في ذلك الوقت– إلى الولايات المتحدة، بينما ترك وحدة التصوير الثانية حتى تنهي مشاهد التصوير في وادي الملكات بالأقصر.

أما تصوير المشاهد الأخرى في صعيد مصر، فيقول «هنري ويلكوكسون» إنه ذهب إلى الدير البحري بعد سفر «دي ميل»، لتصوير معبد الملكة حتشبسوت كخلفية لبناء مدينة سيتي الأول، مشيرًا إلى أن الفيلم سجل لقطات للعديد من الآثار التي اختفت لاحقًا بعد بناء السد العالي، كما صور سلسلة صخور في الفيوم ليتم تركيبها على الشاشة الزرقاء في هوليوود كخلفية لبعض المشاهد، وقاموا كذلك بتصوير قرية مصرية في واحة الخارجة؛ حيث لا يزال الناس يعيشون ويزرعون كما كان المصريون القدماء يفعلون منذ قرون.

بعدما عاد «دي ميل» إلى هوليوود، وأثناء وجود وحدة التصوير الثانية بمصر، فكر في تقديم شيء يعبر فيه عن عرفانه للحكومة المصرية على الدعم الكبير الذي قدمته له أثناء التصوير، والمساعدات الكبيرة التي حصل عليها؛ لذا اقترح على شركة «بارامونت» إنتاج فيلم وثائقي قصير عن مصر بهدف الترويج السياحي لآثارها، من إخراج «آرثر روسون»، وهو في الغالب الذي شغل منصب مدير الوحدة الثانية للتصوير الخارجي بمصر، وتم تصوير الفيلم القصير بالألوان، وكان بعنوان «مصر القديمة ومصر الحديثة».

استكمل ويلكوكسون تصوير باقي مشاهد الفيلم في صعيد مصر بعد مغادرة دي ميل
استكمل ويلكوكسون تصوير باقي مشاهد الفيلم في صعيد مصر بعد مغادرة دي ميل

**********

الخريطة الوحيدة للموقع

بفحص اللوحة التي عثرنا عليها في مكتبة الإسكندرية بين أوراق أنيس سراج الدين، وجدنا أنها خريطة مبدئية رسمها المهندس للموضع الذي اختاره لبناء الديكورات قبل تنفيذها فعلًا، ليوضح للمخرج والقائمين على الفيلم مزايا اختيار هذا الموضع تحديدًا.

ويمكن فهم أسباب اختيار سراج الدين هذا الموضع من الرسومات التوضيحية الموجودة بالخريطة؛ حيث يظهر أنه كان يبحث عن موضع يوفر له زوايا معينة لحركة الشمس في الشروق والغروب خلال الفترة التي سوف يتم تصوير الفيلم فيها، وهي أشهر (أكتوبر، نوفمبر، ديسمبر) من عام 1954؛ لأسباب فنية متعلقة بالتصوير.

بالإضافة إلى أن الموضع المختار كان يجب أن يُظهِر أهرامات الجيزة الثلاثة بحجم معين، وبشكل واضح في خلفية الديكورات، لا هو قريب للغاية من الأهرامات فتظهر في الخلفية أكبر من اللازم، ولا هو بعيد فتظهر الأهرامات صغيرة وتختفي خلف الديكورات.

النظرة العامة للخريطة، تظهر أن موضع الديكورات، كما حدده سراج الدين، كان يقع بجواره غربًا طريق رئيسي، كما يقطع الديكورات من المنتصف تقريبًا طريق قديم يمتد من الشمال إلى الجنوب –كتب سراج الدين على الخريطة ملحوظة أنه سوف يقوم بإزالته– وينحني جنوبًا ليتقاطع مع الطريق الرئيسي جنوب غرب الديكورات.

أما عن المسافات، فتشير الخريطة إلى أن ديكور البوابة كان يمتد من الشرق إلى الغرب على مسافة 175 مترًا، وأن الطرف الغربي للبوابة كان يبعد عن الطريق الرئيسي نحو 65 مترًا، كما تشير الخريطة إلى أن البوابة كانت موضوعة بشكل مستقيم يتناسب مع الاتجاهات الأصلية؛ أي أنها تمتد من الشرق إلى الغرب، كما أن واجهتها تنظر إلى الجنوب مباشرةً، وخلفية الديكور تنظر ناحية الشمال، بينما تتوزع قواعد تماثيل أبو الهول الستة عشر أمام مدخل البوابة لمسافة تزيد عن مائتي متر.

بعد الفحص الكامل للخريطة وتحليلها، كان علينا مطابقتها بالموضع الذي حددناه مسبقًا، والذي قادتنا المعلومات التي أتيحت لنا، إلى ترجيح أنه الموقع الأقرب للديكورات، وهو الدائرة التي يبلغ طول قطرها (ميلًا واحدًا) الواقعة بالشريط الصحراوي الملاصق لقرية بني يوسف.. عندما قمنا بهذه المطابقة، كان في انتظارنا مفاجأة سارة.

كان يحرص طاقم العمل المصري على أداء الصلاة في موقع التصوير، وهذه الصورة تحديدا ساعدتنا في عملية البحث عن موقع الديكورات وتحديد موقعها بدقة
كان يحرص طاقم العمل المصري على أداء الصلاة في موقع التصوير، وهذه الصورة تحديدا ساعدتنا في عملية البحث عن موقع الديكورات وتحديده بدقة

**********

بشرة المصريين ولون عيونهم!

بعد سفر «دي ميل» إلى أمريكا بعدة أشهر، نشرت صحيفة الأهرام في عدد 13 أغسطس من سنة 1955 خبرًا بعنوان «سيسيل دي ميل ومحمد كريم.. والعيون الزرق»، وكان من دون توقيع، ولكن مشرف الصفحة الفنية التي تضمنت الخبر هو: عثمان العنتبلي. وفي الخبر، كلام على لسان المخرج الكبير محمد كريم، قال فيه إنه قرأ خبرًا في المجلة الألمانية «درشتين» مضمونه أن «سيسيل دي ميل» سيُعِيد تصوير ثلثي مناظر فيلمه «الوصايا العشر» التي التقطها في مصر؛ لأنه اكتشف أن قدماء المصريين كانوا سمر الوجوه سود العيون، لا كما صورهم؛ بيض الوجوه زرق العيون.

كاتب الخبر قال إنه يعلم أن كريم صادق فيما قاله؛ ما شكَّل صـ.ـدمة تحدثت عنها الأوساط الفنية والأثرية وغيرها في مصر والخارج حينها، لكنه استطرد قائلًا: «اتصل بي أستاذ جامعي وسألني رأيي: فقلت له أن تصرف (دي ميل) بإعادة تصوير بعض مناظر فيلمه لا عيب فيه ولا لوم عليه، بل يذكر له بالحمد والثناء؛ لأنه يرغب في إظهار فيلمه بالمظهر اللائق، مهما أنفق أو تكبد من مصاريف؛ فهذا الرجل لا يحتفل بالمال بفقده على أعمال الفنية لتخرج في أكمل إطار. وإذا كان هناك لوم فليوجه إلى خبرائه الذين لم يتحروا الدقة التامة في معلوماتهم وأبحاثهم التاريخية».

الكلمة الفصل في هذه المسألة جاءت على لسان المهندس أنيس سراج الدين، الذي قال إن الخبر المنشور في المجلة الألمانية عن «دي ميل» غير صحيح مطلقًا، وأطلع محرر الخبر على برقية جاءته من هوليوود بتاريخ 5 أغسطس تخبره فيها أن العمل في «الوصايا العشر» قد تم بنجاح عظيم، وأن الديكورات التي أقامها «مهندسنا أنيس» تعد مفخرة للمواهب المصرية، وأكدت أن هذا الفيلم سيُحدث انقلابًا فنيًّا واجتماعيًّا في العالم.

خبر صحيفة الأهرام عن إعادة تصوير مشاهد الفيلم
خبر صحيفة الأهرام عن إعادة تصوير مشاهد الفيلم

وأكد أنيس سراج الدين أن المصريين القدماء كانوا كما صورهم «سيسيل دي ميل»، وأنهم كانوا خليطًا من البيض والسمر، وأن عيونهم جمعت بين الزرقة والسواد، وطلب إلى كاتب الخبر التوجه إلى المتحف المصري ليرى بعض وجوه المصريين القدماء، ويرى رمسيس نفسه الذي صوره «دي ميل» أحمر الشعر أبيض الوجه.

وقال أنيس سراج الدين إنه سيرسل بحثًا إلى جريدة «الأهرام» يُقِيم فيه الدليل والبرهان على أن «دي ميل» قد صور فيلمه مستندًا إلى المراجع التاريخية المستقاة من صميم التاريخ المصري القديم، مستشهدًا بعلماء مصر الأثريين، لكن بالبحث في أرشيف «الأهرام» لم نستطع الوصول إلى هذا البحث الذي ربما كان كبيرًا للغاية، وربما رأى محررو الصحيفة عدم جدوى نشره، وربما لم يرسله.

إلا أننا عثرنا على تصريحات صحفية لمدير التصوير الكبير سعيد الشيمي، نُشِرت قبل فترة قريبة، قال فيها إن «دي ميل» عندما لاحظ التباين الكبير بين بشرة الممثلين الأمريكيين وبشرة الممثلين المصريين الذين ظهروا في المشاهد الخارجية التي تم تصويرها في مصر؛ أراد التقريب بين أشكال الممثلين جميعًا، فطلب من شركة «ماكس فاكتور» التي كانت متخصصة بمستحضرات الماكياج السينمائي، أن تصنع له لونًا أسمر خاصًّا لمكياج نجوم الفيلم، فابتكرت الشركة لونًا استُخدم لاحقًا في معظم الأفلام السينمائية التي تناولت تاريخ المصريين القدماء، واستخدمه المخرج شادي عبد السلام في فيلمه الأشهر «المومياء»؛ حيث أطلقت الشركة على هذا اللون اسم «The Egyptian» أي اللون المصري.

ولكن في كل الأحوال، فإن ما قاله أنيس سراج الدين كان صحيحًا؛ لأن طاقم الفيلم لم يعد مرةً ثانيةً للتصوير في مصر، وأكملوا التصوير في الولايات المتحدة، واعتمدوا على كل المشاهد التي صوروها في مصر للمرة الأولى، ولم يذكر أي ممن شاركوا في الفيلم، خلال الحوارات اللاحقة عنه، أنهم اضطروا إلى العودة مرة ثانية إلى مصر لأي سبب من الأسباب.

لون البشرة المعروف باسم (The Egyptian) الذي ابتكر خصيصا لاستخدامه في فيلم (الوصايا العشر) واستخدمه شادي عبدالسلام في فيلمه (المومياء)
لون البشرة المعروف باسم (The Egyptian) الذي ابتكر خصيصا لاستخدامه في فيلم (الوصايا العشر) واستخدمه شادي عبدالسلام في فيلمه (المومياء)

**********

مدفـ.ـن أضخم ديكور سينمائي

قادتنا عملية المطابقة التي أجريناها للخريطة على موقع «Google Earth» إلى موضع مثير للاهتمام يقع شمال الشريط الصحراوي لقرية بني يوسف، وداخل الدائرة التي قمنا بتحديدها.. كان هذا الموضع ذا لون داكن ويمتد من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي على مسافة تصل إلى قرابة 180 مترًا –صورة رقم 5– وهو ما جعلنا نشك في أنه قد يكون الموقع الذي أقيمت فيه الديكورات.. وبالتحديد موقع دفـ.ـن «بوابة مصر»!

فقد كان يقع بجوار هذا الموضع غربًا الطريق الذي سبق أن أشرنا إلى أنه يمتد شمالًا، وهو ما يتطابق مع الطريق الرئيسي المذكور في خريطة أنيس سراج الدين!

كما سنجد أيضًا بعض آثار تشبه طريقًا قديمًا تم محوه، يتقاطع مع الطريق المتجه شمالًا، وهو ما جعلنا نظن أن ذلك هو الطريق القديم الذي أشارت إليه خريطة سراج الدين الذي قال إنه سوف يقوم بإزالته بهدف تمهيد المكان لبناء الديكورات.

إلا أن هذا الموضع –ذا اللون الداكن– يختلف عن خريطة سراج الدين في أمرين: الأول أنه ليس مطابقًا للجهات الأصلية على عكس البوابة المرسومة بالخريطة التي كانت مواجهة للجهات الأصلية بالضبط، بالإضافة إلى أن المسافة بين هذا الموضع الداكن وبين الطريق الغربي تصل إلى 200 متر، لا إلى 65 مترًا فقط كما جاء في خريطة سراج الدين.

بالرغم من هذين الاختلافين، فإن المطابقة بين «Google Earth» وخريطة سراج الدين، كانت تشير بدرجة كبيرة إلى أننا في الموضع الصحيح، وأننا توصلنا بالفعل إلى موقع دفـ.ـن الديكورات الأضخم في تاريخ السينما العالمية.

المطابقة بين خريطة سراج الدين وجوجل إيرث أظهرت أننا على الطريق الصحيح
المطابقة بين خريطة سراج الدين وجوجل إيرث أظهرت أننا على الطريق الصحيح

**********

ممـ.ـنوع من العرض في مصر!

تقول المصادر التي اطلعنا عليها إن الميزانية النهائية للفيلم تجاوزت 13 مليون دولار، ليصبح بذلك أضخم إنتاج سينمائي حتى ذلك التاريخ؛ حيث تجاوز وقته النهائي على الشاشة 3 ساعات و40 دقيقة، وقد أصبح الفيلم أنجح أعمال «سيسيل دي ميل» على الإطلاق، وآخرها كذلك؛ حيث تُوفـ.ـي بعد عرض الفيلم بسنوات قليلة، وتحديدًا في 21 يناير 1959.

عند عرض الفيلم في السينمات، حقق أرباحًا ضخمة تجاوزت 122 مليون دولار (ما يعادل 1.17 مليار دولار بمقاييس عام 2020)، وكان أكثر فيلم تحقيقًا للإيرادات في عام 1956 بأكمله، والثاني في عقد الخمسينيات، وتعتبره موسوعة جينيس للأرقام القياسية، ثامن أكثر الأفلام تحقيقًا للأرباح في تاريخ السينما إذا ما تم احتساب حجم التضخم بمقاييس العقد الحالي.

رُشِّح الفيلم لسبع جوائز أوسكار في موسم عام 1957، بما فيها جائزة أفضل فيلم، لكنه لم يُرشح لجائزة أفضل إخراج، ولم يحصل سوى على جائزة واحدة فقط هي جائزة أفضل مؤثرات بصرية. ونتيجة نجاح الفيلم، تم اختياره في عام 1999 للحفظ في السجل الوطني للأفلام الأمريكية بمكتبة الكونجرس، كما يضعه معهد الفيلم الأمريكي في المرتبة العاشرة بين أفضل الأفلام الملحمية في تاريخ السينما الأمريكية. ومنذ عام 1973، يتم بث الفيلم عبر شبكات التلفزيون الأمريكي بانتظام، خاصةً في فترات الأعياد.

العرض الأول للفيلم في السينمات بحضور أبطاله

إلا أن أكبر مفاجأة حدثت بعد إصدار الفيلم، هو أن الفيلم لم يُعرض في سينمات مصر، بعدما رفضت الأجهزة الرقابية دخوله البلادَ؛ حيث تقول صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية، في خبر نشر بصفحاتها في ديسمبر 1959، إن الفيلم لم يشاهده أي شخص في الجمهورية العربية المتحدة –مصر وسوريا– حتى ذلك التاريخ، بالرغم من مرور ثلاث سنوات على إصداره، وبالرغم من أن كل المشاهد الخارجية للفيلم تم تصويرها في مصر بمشاركة ودعم الحكومة المصرية.

والسبب وراء المنع لم يكن نتيجة ظهور النبي موسى على الشاشة كما قد يعتقد البعض بسبب حساسية المسلمين تجاه تجسيد الأنبياء في الأعمال الفنية، بل كان السبب –حسب الصحيفة الأمريكية– هو أن الفيلم يتناول العلاقة الشائـ.ـكة بين المصريين واليهود التي كانت مضطربة في ذلك الوقت؛ حيث كان يظهر المصريين دائمًا «أوغـ.ـادًا»، واليهود دائمًا «ضحـ.ـايا».

وباستعراض الأوضاع السياسية في مصر خلال تلك الفترة، يمكن اكتشاف مدى صحة ما ذهبت إليه «نيويورك تايمز»؛ حيث يقول الدكتور محمد أبو الغار في كتابه «يهود مصر في القرن العشرين» إنه بالرغم من اندلاع حرب عام 1948 وقيام إسرائيل، فإن اليهود ظلوا يقيمون في مصر بأمان، ولم يهاجر منهم سوى 20% فقط ذهب أقل من نصفهم إلى الأراضي المحتـ.ـلة، لكن بعد اندلاع العـ.ـدوان الثلاثي في عام 1956 –وهو عام إصدار فيلم «الوصايا العشر» – واشتراك إسرائيل في الحـ.ـرب ضد مصر، خرجت الغالبية العظمى من مصر، وهو ما يظهر مدى حساسية أي شيء له علاقة باليهود بعد 1956 في مصر.

ومن ثم لم يكن من المتوقع عرض فيلم عن تاريخ اليهود يزعم اضطـ.ـهاد المصريين لهم، في وقت تشـ.ـن فيه دولتهم حـ.ـربًا علنية ضد مصر، ولو كان الفيلم مصرحًا بتصويره من الحكومة المصرية في بادئ الأمر، مع العلم بأن الفيلم صدر في أمريكا في 5 أكتوبر من عام 1956، قبل وقوع العـ.ـدوان الثلاثي بعد ذلك التاريخ بنحو 24 يومًا فقط؛ أي أن إصداره تزامن مع وصول الصـ.ـراع إلى ذروته.

ولكن يبدو أن هذا المنع لم يستمر طويلًا؛ حيث أشارت الكاتبة ماجدة خير الله، في تصريحات سابقة لها، إلى أن التلفزيون المصري سبق أن عرض فيلم «الوصايا العشر» على شاشته، فيما نعتقد أن الفيلم قد يكون عرف طريقه إلى دور السينما المصرية أيضًا بعد عام 1977 الذي شهد توقيع اتفاقية «كامب ديفيد» بين مصر وإسرائيل.

الإعلان الرسمي للفيلم الصادر عن شركة (بارامونت)

**********

ترتيب أدلة البحث

كنا في حاجة إلى ترتيب الأدلة التي سوف نعتمد عليها في القول بأن هذا الموضع هو مكان دفـ.ـن الديكورات بالفعل، ووضعها في نسق واضح يُسهِّل على من يقرأها استيعاب حجتنا، فجاءت الأدلة كالتالي:

1– هذا الموضع يوجد داخل الشريط الصحراوي الملاصق لقرية بني يوسف طبقًا لحدودها الإدارية المذكورة على موقع البوابة الإلكترونية لمحافظة الجيزة.

2– هذا الموضع يوجد داخل الدائرة التي رسمناها طبقًا لتصريحات المصور «ويتمور»، التي قال فيها إن الديكورات على بعد 5 أميال من الهرم الأكبر.

3– تشابه هذا الموضع مع كثير من التفاصيل الواردة في خريطة المهندس أنيس سراج الدين، كما أنه يتفق واتجاه القبلة الذي ظهر في صورة أداء الفنيين المصريين للصلاة في موقع التصوير.

الموضع الذي نعتقد أنه مدفن ديكورات فيلم (الوصايا العشر)
الموضع الذي نعتقد أنه مدفن ديكورات فيلم (الوصايا العشر)

4– يمتد هذا الموضع على طول 180 مترًا تقريبًا، وهي مسافة قريبة للغاية من طول الديكور المذكور في خريطة سراج الدين (175 مترًا).

5– وجود طرق قريبة من هذا الموضع كما في خريطة سراج الدين، وتتقاطع بشكل مشابه للغاية للتقاطع بين الطريق القديم الذي تم محوه والطريق الغربي الرئيسي الذي لايزال موجودًا إلى الآن.

6– مناسبة هذا الموضع لأن تظهر أهرامات الجيزة الثلاثة خلفه بشكل متطابق، حتى إنه وُضع بمحاذاتها تمامًا، وهو ما يتناسب مع الغرض من اختيار الموقع طبقًا لخريطة سراج الدين.

7– في بعض صور الفيلم، تظهر خلف الديكورات شريط من الأرض الزراعية الممتد إلى داخل الصحراء من الشرق إلى الغرب، وهو ما يظهر خلف هذا الموضع أيضًا؛ حيث يمتد من داخل قرية «أبو مسلم» الملاصقة لقرية «بني يوسف» من حدودها الشمالية –يفصل بينهما طريق محاجر «بني يوسف»– ويظهر بوضوح خلف هذا الموضع.

8– سبب عدم مطابقة هذا الموضع للجهات الأصلية على عكس البوابة المرسومة بخريطة سراج الدين، يرجع إلى أن سراج الدين في الغالب، قام بتعديل بعض الأمور عند تنفيذ الديكورات على الأرض: التعديل الأول كان بتغيير اتجاه ديكور البوابة، وعدم اتجاهه ناحية الجهات الأصلية بالضبط. والسبب في ذلك أن الهدف من وضع الديكور في هذا المكان –كما يفهم من خريطة سراج الدين– هو أن تكون الأهرامات الثلاثة ظاهرة بوضوح في الخلفية، وهو ما لا يتحقق لو كان مدخل البوابة يتجه إلى الجنوب مباشرة؛ فحينها لن تظهر الأهرامات خلفه، بل ستظهر خلفه أراضٍ زراعية. أما الأهرامات فستكون بعيدة إلى الشمال الغربي؛ لذا اضطر سراج الدين إلى تعديل موضع أبوابها واتجاهها، وجعل البوابة بمحاذاة الأهرامات الثلاثة بالضبط، وهو ما ينطبق على الأثر الداكن المشار إليه.

9– طول المسافة بين هذا الموضع والطريق الرئيسي بما يزيد عن 135 مترًا عن المسافة ذاتها في خريطة سراج الدين، يرجع أيضًا إلى السبب السابق ذاته؛ أي الرغبة في أن تظهر الأهرامات في الخلفية بوضوح؛ فلو كان الديكور أقرب إلى الطريق بـ65 مترًا، لم تكن الأهرامات لتظهر خلفه كاملة، بل كان سيظهر هرمان فقط –الأوسط والأصغر– أما الهرم الأكبر فسيكون خارج كادر التصوير؛ لذا كان الحل إبعاد موضع البوابة إلى الشرق قليلًا لضمان ظهور الأهرامات الثلاثة.

احتاج سراج الدين إلى موضع محدد بهدف ضبط زوايا إضاءة الشمس أثناء التصوير
احتاج سراج الدين إلى موضع محدد بهدف ضبط زوايا إضاءة الشمس أثناء التصوير

**********

التاريخ يعيد نفسه!

عندما وصلنا إلى هذه المرحلة من البحث، وأثناء انشغالنا بالتفكير في الخطوة التالية التي يجب اتخاذها، وكيف يمكننا عرض ما توصلنا إليه من معلومات على مسئولي وزارة السياحة والآثار؛ لبحث إمكانية تكليف إحدى الفرق الأثرية التابعة لها بالتنقيب عن الديكورات؛ وقع في أيدينا تصريح قديم لأحد العاملين في الفيلم، شكَّل صدمة كبرى بالنسبة.

هذا التصريح كان على لسان المصور الفوتوغرافي للفيلم «كين ويتمور» في أحد الحوارات التي أدلى بها عن تجربته مع السينما، وكان يتحدث فيه عن مصير الديكورات!

قال «ويتمور» إن شركة تدعى «The Lucky Brothers»، وكان مقرها في القاهرة، تم التعاقد معها لتوفير خامات الديكورات والإكسسوارات المطلوبة لتصوير المشاهد الخارجية، ولكن بعد انتهاء التصوير بالكامل، وقبل مغادرة فريق وحدة التصوير الثانية، سرَت شائعة أن تلك الشركة تنوي بيع الديكورات والإكسسوارات التي وفرتها لفيلم «الوصايا العشر» إلى شركة «ورنر برازرز» لاستخدامها في تصوير فيلم آخر كانت تنوي إنتاجه عام 1954 بعنوان «أرض الفراعنة».

هذه الشائـ.ـعة كانت كفيلة بإثارة مخـ.ـاوف «دي ميل» من أن تستغل استوديوهات أخرى إنتاجاته الضخمة من الديكورات وتستفيد بها في أعمالها السينمائية، وهي المخـ.ـاوف ذاتها التي كانت تسيطر عليه بعد الانتهاء من تصوير النسخة الأولى من الفيلم عام 1923، فما كان من «دي ميل» إلا اتخاذ القرار نفسه!

يقول «ويتمور» إن المخرج العالمي أعطى تعليماته للفنيين الذين كانوا لا يزالون في مصر في ذلك الوقت، بتـ.ـدمير مجموعة ديكورات «بني يوسف» مع كل شيء آخر شيدته شركة «The Lucky Brothers» قبل مغادرتهم مصر، وهو القرار الذي صدم «ويتمور» الذي كان مبهورًا بالديكورات وبحجمها وتصميمها، والتقط لها مئات الصور؛ لذا قرر أن يغادر مصر سريعًا، وألا يشاهد الديكورات وهي تُحَطَّم!

المصور الفوتوغرافي للفيلم (كين وتيمور)
المصور الفوتوغرافي للفيلم (كين وتيمور)

كانت تلك المعلومات بمنزلة صدمة، لكننا أصررنا على البحث عن أي دليل آخر يؤكد ما قاله المصور أو ينفيه، خاصةً أن «ويتمور» لم يوضح الطريقة التي لجأ إليها الفنيون لتدمير الديكورات؛ هل قاموا بتفكيكها مثلًا ودفـ.ـنها؟ أو دمـ.ـروها بالـ.ـديـ.ـنامـ.ـيت كما حدث مع ديكورات نسخة عام 1923؟ هل أهالوا عليها التراب؟ أم نُقلَت إلى مكان آخر؟ كل هذه أسئلة لم يجب عليها المصور.

حاولنا التواصل مع أحد أهم المصادر التي ارتبطت بالفيلم وتصويره في مصر، وهي حفيدة «دي ميل» السيدة «سيتزي» –التي سبق أن تزوجت الضابط «عباس البغدادلي»، والتي تعمل في مجال الإنتاج حاليًّا وتتولى إدارة مؤسسة «دي ميل» التي تهتم بتاريخ جدها وإرثه السينمائي– إلا أن كل محاولاتنا للتواصل معها منذ بداية عملنا على التحقيق باءت بالفشل، ولم نتلقَّ أي رد منها أو من الذين من المفترض أن يتواصلوا مع وسائل الإعلام داخل مؤسستها.

أثناء ذلك، استطعنا أخيرًا الوصول إلى الدكتور إسماعيل سراج الدين نجل المهندس أنيس سراج الدين منفذ ديكورات مجموعة «بني يوسف»، وأخبرناه عن التحقيق الذي نعمل عليه للعثور على تلك الديكورات.

أبدى سراج الدين سعادته البالغة بفكرة التحقيق، واعتبر أنه سوف يكون فرصة لتعريف الأجيال الجديدة من المهندسين والسينمائيين المصريين بدور والده في واحد من أهم الأفلام السينمائية التي صُنعت في تاريخ هوليوود.

كانت أسئلتنا الرئيسية في حديثنا معه هي: هل يستطيع مساعدتنا في تحديد موقع الديكورات؟ والأهم ما الذي يعرفه عن مصير الديكورات؟ فجاءت الإجابة على السؤال الأول بأن تحديد موقعها أمر صعب، مرجحًا أنها كانت بالقرب من الأهرامات. أما إجابته عن السؤال الثاني فقد كانت هي التي نخشاها!

قال الدكتور سراج الدين إن ما يعلمه هو أن الديكورات تم تدمـ.ـيرها بالفعل عقب انتهاء التصوير، وقد أخبره والده أن بعض جامعي القمامة أخذوا ما عثروا عليه من حطـ.ـام الديكورات، وقاموا ببيعها، ولا يعلم إن كان هناك شيء مُتَبَقٍّ منها تحت الرمال أم لا!

الدكتور إسماعيل سراج الدين نجم المهندس أنيس سراج الدين منفذ ديكورات الفيلم في مصر
الدكتور إسماعيل سراج الدين نجل المهندس أنيس سراج الدين منفذ ديكورات الفيلم في مصر

**********

رسالة إلى وزارة السياحة والآثار

إلى هنا ينتهي بحثنا.. قد تكون النتيجة محبطة للبعض، إلا أننا لا نخفي أنه لا يزال لدينا أمل في العثور على بعض هذه الديكورات. نعم، لا نزال نأمل أن يكون بعضها قابعًا تحت رمال صحراء بني يوسف ينتظر من ينقب عنه ويخرجه.

أملنا هذا نابع من عدة أسباب؛ أولها أن المعلومات بشأن ضيـ.ـاع الديكورات بشكل نهائي ليست قاطعة؛ فالمصور «ويتمور» أكد أنها تحطـ.ـمت، والدكتور إسماعيل سراج الدين قال الأمر نفسه وزاد عليه أن جامعي القمامة نقلوا بعضها، ولكن في الوقت نفسه الدكتور زاهي حواس يقول إن الديكورات لا تزال مدفـ.ـونة بالقرب من «زاوية العريان»، وهو ما تواصلنا معه لنراجعه فيه، فأكد لنا نفس الأمر، وشدد على أن معلومة قيام «دي ميل» بدفـ.ـن الديكورات صحيحة «بشكل قاطع» حسب قوله لنا، وهو ما يجعل إمكانية العثور عليها أمرا قائما.

أيضًا إذا نظرنا إلى مصير ديكورات نسخة 1923، قد نجد فيه أملًا يشجعنا على البحث عن ديكورات نسخة 1956 رغم كل شيء؛ فديكورات النسخة الأولى لم يتم تفكيكها أو تحطيمها، بل تم تفجيرها بالكامل وإهالة الرمال عليها، وظلت تتعرض لعوامل التعرية لقرابة 80 عامًا متواصلة قبل أن يتم العثور على قطع منها كانت كافية لإقامة مركز لعرضها بوصفها أثرًا ثقافيًّا سينمائيًّا نادرًا.

لذا، فإننا نأمل أن يجد مسئولو وزارة السياحة والآثار في هذا التحقيق المبررات الكافية لإجراء عمليات تنقيب أولية في الموضع الذي توصلنا إليه بحثًا عن الديكورات؛ فقد يكون هذا التنقيب الأولي كافيًا للتأكد مما إذا كانت بعض الديكورات لا تزال تقبع بالفعل تحت رمال «بني يوسف»، أم أنها ضاعت للأبد، خاصةً أن العثور عليها سيشكل حدثًا بارزًا يجذب كل أنظار العالم إلى مصر، وقد تتحول بفضله قرية «بني يوسف» إلى مركز آخر شبيه بمركز جوادالوبي في كاليفورنيا، ومزار يقصده الآلاف من عشاق السينما العالمية.

«انتهى»