شكلت السينما دوما نافذة أساسية لرسم المخيلة الجمعية للشعوب، حيث كان للأفلام التاريخية دور رئيسي في إحياء شخصيات من قلب التاريخ كادت أن تنسى، وإبقاء شخصيات أخرى حية في الذاكرة، ورسم تفاصيلها وصناعة أسطورتها، وكانت شخصية القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي، واحدة من الشخصيات التي اهتمت بها السينما منذ بداياتها الأولى في مطلع القرن الماضي، حيث ظهر في العديد من الأفلام الغربية قبل أن يصل إلى السينما العربية، بحكم ارتباط تاريخه مع الحروب الصليبية وبالأخص مع الملك ريتشارد قلب الأسد، حتى باتت واحدة من أكثر الشخصيات التاريخية المسلمة التي تم تجسيدها في الأعمال السينمائية العالمية.
وعبر هذه الأعمال، ظهر دوما صلاح الدين في صورة البطل المحارب، موفور الصحة، طويل القامة، ضخم البنيان، فارس في منتصف العمر قادر على خوض غمار الحرب ومطاردة أعدائه من فوق فرسه، وبالغت تلك الأفلام في رسم هيئته الشكلية والجسدية في أعلى مراحل الكمال، حتى الأعمال الغربية كانت حريصة دوما على إظهاره في تلك الصورة!
ومن هنا يأتي تساؤلنا: هل كان صلاح الدين الأيوبي فعلا بهذه الصفات الجسدية والشكلية التي ظهر بها في السينما العربية والعالمية؟ هل كان في فترة الحروب الصليبية التي شهدت مجده العسكري موفور الصحة بهذا الشكل وقادر على امتطاء فرسه في قلب المعارك؟ هل كان حقا بهذه الضخامة التي ظهر بها في الأفلام الأمريكية على الأخص؟
الإجابة على هذا السؤال، استدعت منا رحلة طويلة بين العديد من المصادر لرسم صورة أقرب للحقيقة لهذا البطل الاستثنائي، ومقارنتها بالصورة التي رسمت في أذهاننا بفضل السينما، حيث كانت النتيجة مفاجئة بكل المقاييس!
في السطور التالية سنحاول اصطحابكم في رحلة سينمائية تاريخية شيقة، نتعرف من خلالها على صلاح الدين الأيوبي، صلاح الدين الحقيقي، كما عاش وكما عانى وكما ضحى في سبيل انتصاراته التاريخية التي تبخرت سريعا بعد موته.
صلاح الدين في السينما
قد يندهش الكثيرون إذا ما علموا أن شخصية صلاح الدين الأيوبي، هي واحدة من أوائل الشخصيات التاريخية التي تم تجسيدها في السينما العالمية منذ بدايات ظهورها، وفي غالب الظن هو أول شخصية تاريخية إسلامية تظهر في فيلم غربي.
يقول الباحث السوري غسان مرتضى، إن اهتمام السينما الأمريكية بشخصية صلاح الدين يرجع إلى حقبة السينما الصامتة، مشيرا إلى أن شخصية القائد المسلم ظهرت في عدد من الأفلام الأمريكية التي تتناول موضوع الحروب الصليبية أو تتحدث عن الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد، إلا أنها لم تكن الشخصية الرئيسية في أي عمل سينمائي أمريكي، ولم تكن مستهدفة بحد ذاتها.
وبعد محاولات بحث مضنية، لم نستطع الوصول إلى أي فيلم أمريكي صامت تضمن ظهور شخصية صلاح الدين، إلا أننا عثرنا على فيلم ألماني صامت يرجع تاريخه إلى عام 1922، بعنوان “ناثان الحكيم”، من إخراج Manfred Noa، مأخوذ عن مسرحية استثنائية كتبها المؤلف الألماني Gotthold Ephraim Lessing عام 1779.
والفيلم يصور قصة شهيرة في الأدب الألماني لحكيم يهودي يدعى ناثان، تتناول العلاقة بين الأديان السماوية الثلاث، ومن أبرز أحداث الفيلم، لقاء السلطان صلاح الدين مع ناثان، حيث يسأل السلطان الحكيم عن أي الأديان السماوية هو الأصح؟ فيقدم الحكيم إجابة ذكية تنال إعجاب السلطان.
وقام بدور صلاح الدين في هذا الفيلم الممثل النمساوي Fritz Greiner، والذي كان يبلغ من العمر حينها 43 عاما، وجسد فيه شخصية صلاح الدين بوصفه فارسا قويا مفتول العضلات بكامل صحته، يعدو بحصانه بين الجنود بخفة ورشاقة.
أما أول فيلم عثرنا عليه يجسد شخصية صلاح الدين في السينما الأمريكية، فكان فيلم The Crusades، إنتاج عام 1935، وهو من إخراج الأمريكي Cecil B. de Mille، وهو أول فيلم تظهر فيه شخصية صلاح الدين بوضوح.
ويشير غسان مرتضى في بحث له بعنوان “صورة صلاح الدين الأيوبي بين السينما العربية والأمريكية”، أن الدقائق التي ظهرت فيها شخصية صلاح الدين أمام الكاميرا في فيلم The Crusades أطول منها في أي فيلم أمريكي آخر، حتى أن المشاهد قد يظن أحيانا أن شخصية صلاح الدين هي بطل الفيلم الحقيقي.
وجسد شخصية صلاح الدين في الفيلم الممثل الأمريكي Ian Keith، الذي كان يبلغ من العمر حينها 36 عاما فقط، وقد أدى شخصية القائد العربي في صورة شديدة الإيجابية، وأظهره في صورة الفارس النبيل العاشق المخلص الذي لا يغدر بأعدائه، والمؤمن بتعاليم دينه دون إفراط أو تفريط، والنقطة التي تهمنا في هذا الموضوع، هو أن صلاح الدين ظهر أيضا بكامل قوته وأناقته، بل كان Ian Keith أطول وأضخم من شخصية ريتشارد قلب الأسد، وكان في كامل صحته وشبابه.
أول فيلم عربي
في عام 1941، ظهر أول فيلم عربي يتناول شخصية صلاح الدين، وهو فيلم “صلاح الدين الأيوبي” بطولة بدر لاما وإخراج إبراهيم لاما، ويقول الدكتور قاسم عبده قاسم في دراسة له بعنوان “هل هناك أفلام تاريخية عربية؟”، أن التاريخ الذي تناوله هذا الفيلم لم يكن له وجود سوى في خيال المخرج الذي كتب السيناريو بنفسه، حيث أن القصة التي تناولها الفيلم لا وجود لها في صفحات التاريخ جملة وتفصيلا.
وهذا الفيلم للأسف يعتبر في عداد الأفلام المفقودة، حيث لم نعثر له على أي نسخة، وتختلف الآراء حول مصيره، بين من يقول إنه ضاع في حريق استوديوهات لاما بحدائق القبة الذي التهم أغلب أعمال الأخوين لاما، وبين من يقول إن إحدى القنوات العربية لازالت تمتلك نسخة من الفيلم ولكنها لم تعرضها سوى مرة واحدة.
ضياع الفيلم كان سببا في عدم معرفتنا بدقة بشخص من قام بدور صلاح الدين في الفيلم، والذي يرجح أنه كان أحد شخصين، إما محمود المليجي أو أنور وجدي، حيث لم تكن شخصية صلاح الدين محور الأحداث حتى يجسدها بطل الفيلم بدر لاما، بل كانت مجرد شخصية ثانوية، كما لم نعرف الشكل الذي ظهر عليه صلاح الدين في الفيلم ولا مواصفاته وملامحه كما صورها المخرج إبراهيم لاما.
الإنتاجات الملحمية
في عام 1954، تعود السينما الأمريكية بفيلم جديد عن صلاح الدين الأيوبي، وهو فيلم “King Richard and the Crusaders”، وهو من إخراج David Butler، بالاعتماد على رواية للمؤلف Sir Walter Skott.
وقد أدى دور صلاح الدين في الفيلم، الممثل الإنجليزي الشهير Rex Harrison والذي كان يبلغ من العمر حينها 46 عاما، ويقول غسان مرتضى أن الفيلم صور صلاح الدين وكأنه أقرب إلى الإنسان الكامل، ذكيا فطنا ونبيلا شجاعا، وفارسا جسورا، وحكيما متأملا، وفلكيا يعرف واقع النجوم ويفهم مدى تأثيراتها العلاجية، ويصل إلى أعلى مراحل التمجيد عندما يقوم ريتشارد باختيار صلاح الدين حكما لفض النزاع بين ملوك الصليبيين المتخاصمين!
حرص الفيلم على إظهار صلاح الدين في صورة شديدة الإيجابية، كان يستلزم بالطبع أن يظهر كذلك بصفات شكلية أسطورية، سواء من حيث القوة أو البنيان أو الصحة، وبالتأكيد الأناقة.
السينما العربية والمصرية احتاجت قرابة 20 عاما، بعد إنتاج أول أفلامها عن صلاح الدين الأيوبي، لتقوم بإنتاج فيلم ثاني بالألوان عن البطل المسلم وعن فتحه لبيت المقدس، وهو الفيلم الأشهر في تاريخ السينما المصرية “الناصر صلاح الدين” للمخرج يوسف شاهين إنتاج عام 1963.
جسد شخصية صلاح الدين في الفيلم الفنان المصري أحمد مظهر، الذي كان يبلغ من العمر 46 عاما حينها، ويعتبر هذا الفيلم أول عمل سينمائي يركز بشكل أساسي على شخصية صلاح الدين، كما أظهره في شكل طبيعي وليس أسطوري، يمرض ويعاني ويحزن لفقد الأحبة ويبكي من فرط الشعور بالضعف، إلا أنه أيضا تمسك بالشكل البطولي للرجل، حيث أظهره فارسا قادرا على امتطاء جواده وخوض غمار الحرب والقتال.
وفي عام 2005، كان العالم العربي على موعد مع واحد من أهم الأفلام الأمريكية التي تناولت قضايا المسلمين والعرب وأظهرتهم بشكل إيجابي منصف، وهو فيلم “Kingdom of Heaven” للمخرج Ridley Scott.
في هذا الفيلم جسد شخصية صلاح الدين الممثل السوري غسان مسعود، الذي أدى دوره ببراعة كبيرة، مدعوما بموهبة كبيرة وخبرات مخرج مخضرم، وكان يبلغ مسعود حينها 47 عاما، ولم يبالغ الفيلم في تجسيد صلاح الدين من الناحية الشكلية كبطل مفتول العضلات في ريعان الشباب كما فعلت أغلب الأفلام التي سبقته، بل قدمه في صورة رجل تجاوز الخمسين من العمر تظهر عليه آثار الإرهاق من كثرة حروبه ومعاركه، مع الاحتفاظ بالصورة الإيجابية العامة عن صلاح الدين وعن نبله وإيمانه بمبادئه.
أما آخر الأفلام السينمائية العالمية التي تناولت شخصية صلاح الدين، فكانت فيلم سويدي مشترك مع كل من الدنمارك والنرويج وفنلندا وألمانيا، أنتج عام 2007، بعنوان “Arn – The Knight Templar”، وهو فيلم ملحمي مبني على قصة خيالية شهيرة تدور حول أحد فرسان الهيكل، كما صدر منه جزء ثان في عام 2008.
وجسد شخصية صلاح الدين في الفيلم، الممثل البريطاني الهندي Milind Soman، وكان يبلغ من العمر حينها 42، حيث تعد شخصية صلاح الدين ثانوية بالأحداث، ولا تظهر إلا من خلال علاقتها ببطل الفيلم آرن الذي أنقذ حياة صلاح الدين طبقا للقصة الخيالية، المهم أن صلاح الدين ظهر طويل القامة بشكل ملحوظ وفي ريعان الشباب، ولم يظهر أنه عانى من أمراض أو أي مشاكل جسدية.
البحث عن ملامح السلطان
كان ذلك استعراضا سريعا لأهم الأفلام العربية والعالمية التي تناولت شخصية صلاح الدين، وكيف أظهرت صفاته الشكلية وملامحه وحالته الجسدية والصحية، وفي السطور التالية ننتقل لمحاولة التعرف على الشكل الحقيقي للسلطان وكيف كانت ملامحه في الواقع.
ولكن لابد أن نشير بداية، إلى صعوبة عملية البحث التي واجهناها في هذه المسألة، فبالرغم من كم المؤلفات التي كتبت عن صلاح الدين في حياته، من مؤرخين وقضاة وعلماء عاشوا في عصره، أو حتى من مؤلفين غربيين في حياته أو بعد مماته، إلا أن الغالبية العظمى منها لم تتطرق بشكل واضح إلى الصفات الشكلية والمظهر الخارجي للسلطان، بينما ركزت بشكل كبير على صفاته الخلقية وطباعه وشجاعته وتعاطيه مع الأحداث التاريخية، ويرجع ذلك إلى تأثرهم الكبير بكاريزما الرجل التي لازالت تظهر في كتاباتهم حتى الآن.
فمؤرخه الأهم القاضي بها الدين ابن شداد لم يتناول هذه الجزئية في كتابه الشهير “النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية” بينما أقصى ما أورده هو الحديث عن أمراض السلطان في سنواته الأخيرة، كما تجاهل ابن الأثير في كتابه “الكامل في التاريخ” هذه المسألة أيضا واهتم أكثر بنقد قرارات صلاح الدين، نفس الأمر في مؤلفات ابن مماتي ورسائل القاضي الفاضل، حتى المقريزي في كتابه “السلوك” وابن تغري بردي في “النجوم الزاهرة” لم يذكرا شيئا عن الهيئة التي كان عليها صلاح الدين في حياته.
وأمام هذه الحالة، سعينا إلى استقاء الصورة الشكلية لصلاح الدين لمقارنتها بمخيلتنا عن الرجل النابعة من الصورة السينمائية له، من بعض التفاصيل غير المباشرة التي وردت في هذه المؤلفات، والتي حاولنا من خلالها رسم صورة عامة لحالة الرجل في تلك الحقبة التي اهتمت السينما دائما بتصويرها، وهي السنوات الثماني الأخيرة في حياته، التي حفلت بفتوحاته الكبيرة التي كان أهمها دخول القدس، ومعركة حطين، وصراعه مع الصليبيين.
الرجل المريض
يبدأ فيلم “الناصر صلاح الدين” ليوسف شاهين بحوار بين ثلاث الشخصيات:
– أين السلطان؟
– السلطان مريض، ويلازم الفراش.
– قد يكون مريضا، لكنه لا يلازم الفراش.
من المفارقات الكبرى في تصورنا لشخصية صلاح الدين، أن الفترة التي اعتادت السينما أن تركز عليها في تاريخه، هي الفترة التي عانى فيها من المرض أكثر من أي وقت آخر في حياته!
يقول الدكتور محمد مؤنس عوض، إن أول ذكر لإصابة صلاح الدين بمرض واضح ومعروف كانت إشارة في كتاب “النوادر السلطانية” لابن شداد وهو مرض أصيب به في عام 1186، وكان قد بلغ من العمر حينها 48 عاما (اتفقت المصادر التاريخية على أن صلاح الدين ولد عام 1138م وتوفي عام 1193) ثم توالت عليه الأمراض بعد ذلك، ويشير عوض إلى أنه منذ ذلك التاريخ تعرض صلاح الدين للمرض على فترات متقطعة خلال السنوات الثماني الأخيرة في حياته، وهي الأعوام التي شهدت إنجازاته البارزة، مثل موقعة حطين وفتح بيت المقدس والتصدي للحملة الصليبية الثالثة، أي أن أبرز مراحل حياة صلاح الدين اقترنت غالبا بالمرض!
ويكشف عوض في دراسة له بعنوان “التاريخ المرضي لصلاح الدين الأيوبي”، أن من أبرز الأمراض التي تعرض لها صلاح الدين، ما أصابه أثناء هجوم الحملة الصليبية الثالثة على مدينة عكا عام 1189م، حيث انتشرت في جسده الدمامل من وسطه إلى ركبته، بحيث أنه لم يكن يستطع الجلوس أو امتطاء فرسه، وكان يجلس متكئا أغلب الوقت ولم يكن قادرا على مد يديه لتناول الطعام بشكل طبيعي بسبب آلامه.
وقبل هذا المرض بأربعة أعوام تقريبا، وأثناء تواجده في منطقة الجزيرة الفراتية أثناء قتاله للزنكيين، تعرض صلاح الدين لمرض آخر لم تذكر المصادر التاريخية أعراضه بالتحديد، بينما أورد ابن شداد قصة تظهر منها أنه كان مرضا قاسيا يخشى منه على حياة السلطان، حتى أن أحد المقربين من السلطان طالبه بأن ينذر إن شفاه الله من هذا المرض ألا يقاتل أحدا من القادة المسلمين الذين يعادونه ويجتهد فقط في قتال الصليبيين.
أما عن مرضه الأخير الذي توفي بسببه، فقد ذكر البعض أنه مرض الحمى الصفراوية، بينما قال آخرون إنه أصيب بالتيفويد، إلا أن عوض يرى -طبقا للوصف الذي أورده ابن شداد لمرض السلطان الأخير- أن صلاح الدين أصيب في آخر أيامه بمرض الملاريا الذي ينقله البعوض، لأن الأعراض التي ذكرت في وصف حالته تنطبق على ذلك المرض بشدة.
إعاقة السلطان
هل سمعتم من قبل عن أن صلاح الدين كان “أعرجا”؟ سؤال إجابته ستكون بالنفي غالبا لدى معظم القراء، فلم نسمع أبدا أن هذا البطل الكبير عانى يوما من إعاقة في جسده!
إلا أن هذا الأمر يبدو حقيقيا بدرجة كبيرة، وهي مسألة أثارها شاعر من معاصري صلاح الدين يدعى “ابن عنين” في قصيدة له كان يهجوا فيها صلاح الدين ووزرائه وكبار رجاله؛ فإن صحت هذه المعلومة، فلماذا تجاهلها المؤرخون؟!
في دراسة أخرى له بعنوان “معاقون من عصر الحروب الصليبية في القرن 12م.. صلاح الدين الأيوبي نموذجا”، يفسر الدكتور محمد مؤنس عوض تجاهل المؤرخين المسلمين المعاصرين لصلاح الدين لهذه النقطة؛ بأنهم انشغلوا بتناول السلطان من خلال الأحداث السياسية والعسكرية المتصلة به وأغفلوا أمر الإعاقة التي حدثت له، وربما رجع ذلك إلى التأثر بالشخصية الكاريزمية للسلطان التي كانت تأسر أنصاره وأعدائه على السواء.
ويضيف أن “ابن عنين” هو الشاعر الوحيد الذي هجى صلاح الدين، مما دفع السلطان إلى نفيه إلى الهند، مشيرا إلى أن جزءا كبيرا من شهرة الشاعر الموهوب “ابن عنين” يرجع إلى هجائه لأبرز قائد مسلم من عصر الحروب الصليبية.
ويقول ابن عنين في قصيدته المشار إليها الأبيات التالية:
قد أصبح الملك ماله سبب ** في الناس إلا البغاء والكذب
سلطاننا أعرج وكاتبه ** ذو عمش والوزير متحدب
معايب كلها لو اجتمعت ** في فلك لم تحله الشهب
حيث يشير بشكل واضح إلى عرج السلطان، ويقول عوض، أن البيت الثاني تحديدا الذي أشار فيه إلى إعاقة صلاح الدين، ورد في أكثر من مصدر تاريخي، مثل كتاب “معجم الأدباء” لياقوت الحموي، و”البداية والنهاية” لابن كثير، و”النجوم الزاهرة” لابن تغري بردي، وهو ما لا يدع مجالا للشك في هذه المسألة، خاصة وأن أحدا من المؤرخين المعاصرين لصلاح الدين لم ينف هذه النقطة أو يرد على ابن عنين ويتهمه بالكذب.
ولا توجد أي معلومات متاحة عن توقيت إصابة صلاح الدين بتلك الإعاقة، وهل ما إذا كان ولد بها أم أصيب بها في إحدى المعارك؟، فيما يرجح عوض أن يكون صلاح الدين ولد بهذه الإعاقة، لأنه لو كان أصيب بها في أحد المعارك لكانت أشارت إليها المصادر التاريخية للتعبير عما يقدمه السلطان دفاعا عن المسلمين.
كما يرجح أن تلك الإعاقة كانت يسيرة وغير ظاهرة، ولم تمنع صلاح الدين الأيوبي من أن يكون فارسا بارزا شجاعا في الحرب، وهو ما يبرر أيضا إغفال المصادر التاريخية الصليبية لهذه الإعاقة بحكم كونها مصادر معادية.
هل رُسم صلاح الدين في حياته؟
في معرض بحثنا عما يساعدنا على رسم صورة أوضح للهيئة الشكلية التي كان عليها صلاح الدين الأيوبي، بحثنا عما إذا كانت هناك أي لوحات رسمت لصلاح الدين في حياته، إلا أن المشكلة التي صادفتنا، أن أغلب اللوحات الفنية التي جسدت صلاح الدين كانت لفنانين غربيين، ورسمت بعد وفاته بسنوات طويلة، وكانت تحمل في طياتها غالبا معاني سلبية مقصودة، بخلاف التباين الكبير في ملامحه وبشرته بين تلك اللوحات، وهو ما يجعلها مصادر غير موثوقة بدرجة كبيرة في تحديد شكل هذا السلطان.
إلا أننا في معرض بحثنا، عثرنا على منمنمة نادرة، فتحت الباب أمامنا لمصدر جديد قد يحمل معلومات جديدة عن صورة صلاح الدين كما كانت في الواقع، وهي منمنمة يعتقد أنها رسمت في حياة صلاح الدين -أي قبل عام 1193م- وعلى يد عالم مسلم هو العالم والمخترع إسماعيل الجذري، إلا أن أهم ما تثيره هذه المنمنمة، هي شكوك حول إصابة صلاح الدين في إحدى عينيه أو معاناته من عيب خلقي في عينه!
لذا بدأنا عملية بحث طويلة للتأكد من صحة نسب هذه المنمنمة لصلاح الدين الأيوبي.
علاقة المنمنمة بالسلطان
توجد هذه المنمنمة حاليا في المعرض الحر للفنون بالولايات المتحدة “Freer Gallery of Art” التابع لمؤسسة “سيمثسونيان” الأمريكية، الذي حصل عليها منذ عام 1932، وهي منمنمة مأخوذة من صفحات كتاب “في معرفة الحيل الهندسية” الذي كتبه ورسمه الجزري لعدد من اختراعاته، وكانت اللوحة تجسد شخصا جالسا أسفل ساعة مائية من اختراع الجزري.
ظهرت هذه المنمنمة لأول مرة في العصر الحديث، في كتاب صادر عام 1912 للمستشرق السويدي ومؤرخ الفن فردريك روبرت مارتن، بعنوان “المنمنمات والرسامون في بلاد فارس والهند وتركيا”.
وقال مارتن نصا عند إشارته لهذه المنمنمة [تم العثور على أقدم نماذج معروفة للمنمنمات العربية في بعض الأوراق التي تنتمي لمخطوطة تأتي من إحدى المكتبات في القسطنطينية، وتحمل اسم السلطان الأرتقي نور الدين محمد المتوفي عام (1185م)، بينما كتب على أوراق أخرى اسم صالح صلاح الدين (صلاح الدين الأيوبي؟)] وكان من بين الأوراق التي كتب عليها اسم “الصالح صلاح الدين” المنمنمة محل النقاش.
ويبدو أن المقصود الأول بكلام مارتن هو السلطان الأرتقي محمد بن قره أرسلان نور الدين المعروف بـ”نور الدين محمد”، الذي كان يحكم كل من كيفا وآمد في زمن صلاح الدين الأيوبي، ودخل في حلف معه كما أناب عنه أخيه عماد الدين في حصار الموصل إلى جانب صلاح الدين، وتوفي نور الدين عام 1185م، وهو ما جعل مارتن يؤرخ هذه المنمنمات بتاريخ وفاة نور الدين، أي عام 1185م، كما أن المنمنمة رسمت طبقا لأساليب الفن الفاطمي، ما يقوي صحة هذا التاريخ الذي كان قريبا للغاية من سقوط الدولة الفاطمية في مصر.
أما عن الشخص الثاني الذي ورد اسمه على بعض تلك المنمنمات، وبينها المنمنمة التي نشرها مارتن في مفتتح كتابه -المنمنمة محل النقاش- فقد قال إنها جاءت تحت اسم صالح صلاح الدين وبين قوسين وضع كلمة (صلاح الدين الأيوبي؟) مع علامة استفهام، وكأنه يتساءل في شيء من عدم اليقين: هل المقصود هو صلاح الدين الأيوبي؟ إلا أنه لا يعطي إجابة واضحة.
وهنا يجب أن نشير إلى أن هناك سلطان آخر تسلطن على مصر باسم “الصالح صلاح الدين” وهو الابن الثامن من أبناء الناصر محمد بن قلاوون، حيث تمت مبايعته بالسلطة في مؤامرة نفذها بعض الأمراء للتخلص من أخيه السلطان الناصر بدر الدين حسن -صاحب جامع السلطان حسن الشهير بميدان محمد علي- وكان الصالح يبلغ من العمر حينها 14 عاما، إلا أنه لم يجلس في السلطنة سوى قرابة 3 سنوات حيث عاد أخيه السلطان حسن إلى السلطة مرة أخرى عام 1354م وكان الصالح وقتها يبلغ من العمر 17 عاما، فيما توفي الصالح بعد ذلك بسنوات قليلة وهو لم يتجاوز الـ22 من عمره.
وبالتدقيق في المنمنمة محل النقاش، سنجد أنها لا يمكن أن تكون لشاب في أواسط العقد الثاني من عمره، بل هي لرجل ناضج ربما قارب على الخمسين من العمر، بلحيته ونظرته، ما يجعلنا نستبعد فرضية أن يكون المقصود هنا السلطان الصالح صلاح الدين بن الناصر محمد بن قلاوون، الذي لم يكن موجودا على الإطلاق في حياة مؤلف الكتاب إسماعيل الجزري.
وترجع أهمية الإشارة إلى هذه النقطة، إلى أن المعرض الحر للفنون المالك الحالي للمنمنمة كتب على موقعه الإلكتروني، وبالتحديد في صفحة التعريف باللوحة، أن تاريخها يرجع إلى العصر المملوكي في مصر وبالتحديد إلى عام 755هـ (1354)، وهو ما يرجح أن مسؤولي المتحف حددوا هذا التاريخ بناء على اعتقادهم أن المقصود بها هو السلطان الصالح صلاح الدين بن الناصر محمد بن قلاوون مستندين في ذلك إلى كلام مارتن، بالرغم من أنهم لم يقولوا ذلك صراحة، بل أحالوا لمزيد من التفاصيل بالرجوع إلى كتاب مارتن السابق ذكره.
ومما يؤكد نسبة هذه المنمنمة إلى صلاح الدين الأيوبي، هو أن إسماعيل الجزري راسم هذه المنمنمة، اعتاد أن يضع رسومات ترمز لصلاح الدين في كتبه المرتبطة باختراعاته، ففي رسمة “ساعة الفيل” الشهيرة الواردة بكتابه “الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل” نجده قد رسم شخصا جالسا أعلى الساعة مشيرا إلى أنه السلطان، حيث يرى الكثيرون أنه كان يرمز إلى صلاح الدين، كما ظهرت صورة أخرى يرمز من خلالها لصلاح الدين في رسمة لساعة مائية في الكتاب السابق ذاته وحوله يعزف الموسيقيون، إلا أن المنمنمة التي نتناولها هنا كانت هي الأكثر وضوحا والأكبر حجما.
ويرجع ذلك إلى أن الجزري كان يخدم في بلاط ملوك “ديار بكر” -شمال سوريا وجنوب تركيا حاليا- التابعين للدولة الأرتقية، وكانت الدولة الأرتقية قد خضعت لصلاح الدين وباتت من بين المناطق التابعة له، فمن المنطقي أن نجده يمجد صلاح الدين برسمه في كتابه.
تفاصيل مثيرة للتساؤل
وهنا بعدما رجحنا صحة نسب هذه المنمنمة لشخص صلاح الدين الأيوبي، نستعرض أهم ملامحها، حيث أظهرت السلطان جالسا وقد مد يديه على ركبتيه تعبيرا عن العظمة والأبهة، مرتديا رداء أحمر منقوشا وعلى رأسه عمامة خضراء اللون.
فيما ظهر كذلك ببشرة قمحية وله لحية صغيرة مشقوقة من المنتصف، وأنف حاد، أما أهم ما يمكن ملاحظته هو ضيق واضح في العين اليمنى، حيث ظهرت وكأن السلطان عانى من شيئا في عينه!
ويصعب اعتبار أن الجزري لم يتحر الدقة في الرسم، فقد كان عالما ومهندسا شديد الدقة، وهو ما يظهر في مختلف لوحاته، كما أن منمنمة صلاح الدين نفسها حفلت بالعديد من التفاصيل والتزيين، أي أن الرجل كان يعني بالتفاصيل بشكل كبير، ما يرجح أن ظهور العين اليمنى بهذا الشكل مقصود بنسبة كبيرة.
إلا أننا وكما أشرنا أعلاه، فإن مسألة تناول شكل وهيئة صلاح الدين كانت أمرا نادرا في المصادر التاريخية، خاصة الصفات التي ربما تنتقص من شخص السلطان أو تشكل إساءة إليه، ما يجعلنا غير قادرين على الجزم بأن صلاح الدين كان مصابا في عينه، ولكن ذلك لا يمنعنا من فتح الباب لتساؤل له ما يبرره.
البطل الذي لم نشاهده
في النهاية يمكننا أن نستنتج حجم الاختلاف الكبير بين الصورة التي ظهر عليها صلاح الدين الأيوبي في السينما، والتي كانت سببا مباشرا في رسم صورة استثنائية له بالمخيلة الجمعية، وبين الواقع الذي يكشفه لنا التاريخ عن هذا الرجل، خاصة في سنواته الأخيرة.
فلم تجسد أغلب هذه الأعمال السينمائية صلاح الدين في سنه الحقيقية، خاصة في سنواته الأخيرة التي شهدت أهم إنجازاته، حيث كان قد تجاوز الخميس، وتعرض لعدة وعكات صحية بعضها كان مميتا، وفي بعض الأحداث الهامة من تاريخه عانى لدرجة أنه كان غير قادر على الجلوس أو امتطاء الفرس.
أضف إلى ذلك كثرة أسفاره وهو في هذه الحالة وهذه السن التي زادت من معاناته الجسدية وأثرت على صورته، بخلاف تعرضه لأكثر من محاولة اغتيال على أيدي عناصر فرقة الحشاشين، بحسب ما يكشف برنارد لويس في كتابه “الحشاشون”، ما جعله دائم القلق، ولا ينعم بنوم عميق.
وفي وسط كل ذلك، عانى من عرج بإحدى قدميه، ربما لم يؤثر على حركته بشكل واضح إلا أنه ترك في نفسه شيئا ما من الإحساس بالإعاقة، بالإضافة إلى الشكوك المثارة حول معاناته من شيء في عينيه طبقا للمنمنمة سالفة الذكر.
لقد كان صلاح الدين شخصا أسطوريا له سمات كاريزمية أثارت إعجاب كل المحيطين به، ولكنه كان شخصا مرهقا مريضا، كان صلاح الدين بطلا قاد الجيوش وحقق انتصارات تاريخية لم تتكرر، ولكنه عانى من الإعاقة والقلق الدائم من الاغتيال، هذا ما لم نره أبدا على شاشة السينما، وربما لن نره، فكثيرا ما تكون الحقيقة صعبة القبول.
* نشر هذا التحقيق بمجلة “أخبار الأدب” في عدد 26 يناير 2020.