في صباح أحد أيام شهر مارس من العام 1893، كانت ترسو على شواطئ مدينة الإسكندرية باخرة ترفع العلم البريطاني، في انتظار صعود قرابة مائتي مصري ما بين رجال ونساء وأطفال جاءوا من شوارع القاهرة القديمة وأزقتها، بالإضافة إلى عدد من الجمال والحمير وأدوات لتنظيم احتفالات الموالد وموكب لكسوة الكعبة المشرفة، بخلاف تصميمات لبناء مسجد وعدة منازل على الطراز الإسلامي، استعدادا للإبحار بكل هذا المزيج الغريب والسفر به مسافة 10 آلاف كيلو متر صوب أراضي العالم الجديد، وبالتحديد إلى مدينة شيكاغو الأمريكية!
كانت هذه الرحلة الاستثنائية، محور قصة منسية من تاريخ المصريين، بالرغم مما باتت تشكله حاليا من أهمية خاصة لدى الباحثين الأمريكيين في تاريخ الفن وعلم الإنسان، حيث تدور هذه القصة حول الجناح المصري الذي أقيم بالمعرض الكولومبي العالمي في شيكاغو عام 1893، والذي أطلق عليه اسم “شارع القاهرة”، والذي أدهش الأمريكيين وأحدث تأثيرا ضخما وغير متوقع في ثقافتهم الشعبية وفي تغيير فنون الأداء الأمريكية حتى يومنا الحالي.
في السطور التالية، نحكي لكم تلك القصة الاستثنائية، التي جمعنا تفاصيلها من عدة مصادر مختلفة ومتشعبة، عن مئات المصريين البسطاء الذين غادروا القاهرة قبل ما يزيد على 127 عاما، سعيا وراء الرزق في بلدان لم يسمعوا عنها من قبل، دون أن يدروا كم سيطول مقامهم ولا متى سيكون المنتهى!
ظاهرة المعارض العالمية
انتشرت بأوروبا وأمريكا في منتصف القرن التاسع عشر، ظاهرة إقامة المعارض العالمية، وهي فعاليات معرفية كانت أشبه بمتاحف مفتوحة، يتم فيها عرض نماذج لثقافات مختلفة من جميع بلدان العالم، حيث تقام نماذج لأهم المعالم والحرف والصناعات والفنون التراثية، بالإضافة إلى الجانب الترفيهي الذي كان يحظى باهتمام خاص في تلك المعارض.
وكانت هذه الفعاليات تحرص على استجلاب بعض السكان الأصليين لكل مكان أرادت عرضه داخل المعرض، لإضفاء نوع من المصداقية على النماذج التي تقدمها، وكان هؤلاء الناس غالبا من البسطاء الذين يقبلون السفر عبر المحيطات لتمثيل أدوار بسيطة، وقد تكون أدوار محرجة في بعض الأحيان.
يقول الدكتور اشتفان أورموش، الباحث بالمعهد الوطني الفرنسي لتاريخ الفن -والذي استفدنا من أبحاثه كثيرا في جمع تفاصيل هذه القصة- أن تلك المعارض كانت ذات أهداف فكرية معقدة ومتعددة الجوانب، حيث كانت تحرص البلد المنظمة للمعرض على تأكيد عظمتها قياسا على مختلف شعوب العالم، وإثبات تفوقها التكنولوجي بالأخص على باقي بلدان أوروبا وأمريكا، ولم يكن من السهل إثبات هذا التفوق دون الحط من قدر الشعوب الأخرى مع الأسف.
وكان من أشهر هذه المعارض في نهايات القرن التاسع عشر، معرض باريس الذي أقيم عام 1889، والذي زاره أكثر من 30 مليون زائر من مختلف بلدان العالم، وحقق نجاحا تاريخيا بسبب الاختراعات الهامة التي عرضت فيه لأول مرة، بالإضافة إلى معالمه التي أصبحت من أشهر معالم العالم، مثل برج إيفيل الذي بني خصيصا ليقام بالمعرض.
معرض شيكاغو العالمي
كانت المعارض الدولية إذا بمثابة عروض عملاقة تكشف حجم ما وصلت إليه الدولة المقيمة للمعرض من تقدم صناعي وزراعي وفني وعلمي في فترة محددة، وكانت بمثابة فرصة لتظهر فيه الدولة للعالم أجمع قوتها وتقدمها، وهي نفس الأغراض التي أقيم من أجلها معرض شيكاغو عام 1893.
حيث قررت الولايات المتحدة استغلال الاحتفال بذكرى مرور 400 عام على اكتشاف كريستوفر كولومبس لأمريكا، وإقامة معرض عالمي أطلقت عليه اسم “المعرض الكولومبي العالمي”، تثبت فيه قوتها لأوروبا.
وقد منح الكونجرس لشيكاغو حق تنظيم المعرض بعد منافسة مع عدة مدن أمريكية أخرى، بهدف مساعدتها على إزالة السمعة السيئة التي التصقت بها، بعدما شاع عنها أنها بلد الفقر والعنف والجريمة، وأيضا مساعدتها على النهوض من الكارثة التي تعرضت لها، وهي الحريق الضخم الذي أتى على معظم مباني المدينة في عام 1871.
كان المعرض يتألف من قسمين “المدينة البيضاء”، و”ميدواي بلايزانس”، اكتسب القسم الأول اسمه من اللون الأبيض اللامع للمباني التي ضمها، وكان يضم 14 مبنى ضخما من بينها مبنى الحكومة الأمريكية وقصر الفنون الجميلة، وقد أقيمت هذه المباني على الطراز الكلاسيكي.
أما القسم الثاني من المعرض “ميدواي بلايزانس” فقد اشتمل على عروض الدول الأجنبية والثقافات الغريبة بالنسبة للأمريكيين، وقد حرصت إدارة المعرض على إقامة هذا القسم، بعد النجاح الهائل الذي حققه الجناح المشابه له في معرض باريس عام 1889.
وهكذا كانت المشاركات الرسمية للدول الأجنبية التي تنفذها الحكومات مقامة في القسم الأول “المدينة البيضاء”، بينما كانت تقام في القسم الثاني “الميداوي بلازيانس” مشاركات رجال الأعمال الأجانب الذين يشاركون عبر الحصول على امتيازات إقامة الأجنحة لصالح شركاتهم الخاصة، وهو القسم الذي شهد إقامة الجناح المصري الذي عرف باسم “شارع القاهرة”.
كيف بدأت قصة شارع القاهرة؟
كان أشهر جناح في معرض شيكاغو برمته باعتراف من شاركوا ونظموا وزاروا المعرض، هو الجناح المصري “شارع القاهرة”، وكان صاحب حق امتياز الجناح ومنشئه، يدعى جورج بنجالو، وهو يوناني إنجليزي كان يعمل مديرا للبنك الأنجلو-المصري في القاهرة.
يقول بنجالو في مقال نشر له بمجلة “كوزموبوليتان” الأمريكية عام 1897، أنه سمع بالمعرض العالمي للمرة الأولى في إحدى ليالي ديسمبر الساحرة من العام 1890، حيث كان قد مر عليه قرابة عشر سنوات وهو مقيم في القاهرة، استطاع خلالها دراسة البلد والاطلاع على عادات شعبها، لذا رأى أن إقامة جناح مصري سيكون أفضل ما يمكن تقديمه في ذلك المعرض، إلا أن التقارير التي قرأها بشأن حجم المعرض العالمي كانت كافية لإقناعه بأن التجربة لن يكتب لها النجاح إلا عبر إنتاج شيء لم يسبق له مثيل في سجلات المعارض المماثلة.
كانت خطوته الأولى تتمثل في ضرورة الحصول على موافقة الخديوي توفيق للسماح له بالمشاركة في المعرض، وبعدما تقدم بطلب، استطاع مقابلة الخديوي بالفعل وعرض فكرته، وبعد محادثة استمرت نصف ساعة تقريبا بينهما، حصل بنجالو على موافقة الخديوي المبدئية، وغادر قصر عابدين وهو مقتنع تماما أن خطته ستلقى الموافقة النهائية من الخديوي إذا تم تنفيذها بالشكل الذي يتوقعه.
كانت خطوته التالية هي الحصول على خدمات مهندس معماري يستطيع بناء الجناح المصري كما كان يتصوره، وهنا ظهر دور ماكس هيرز باشا.
كان هيرز يرأس في تلك الفترة “لجنة حفظ الآثار العربية” التي استطاعت نتيجة عملها الدؤوب والمخلص إنقاذ آثار مدينة القاهرة الساحرة من الضياع وحفظها للأجيال القادمة، لذا رأى بنجالو أن تعاون هيرز معه سيشكل أهمية خاصة بالنسبة له، فعلاوة على معرفته الواسعة بالهندسة المعمارية الإسلامية، كانت وظيفته الرسمية ستمنح المشروع الكثير من التسهيلات في أي مكان، إلا أن هيرز اشترط قبل موافقته النهائية على التعاون مع بنجالو، أن يحصل أولا على موافقة أعضاء لجنة حفظ الآثار العربية، وقد وافقت اللجنة بالفعل شريطة أن يعمل هيرز مع بنجالو بعد ساعات العمل الرسمية.
في غمرة حماسه، كاد ينسى بنجالو أحد أهم الإجراءات التي كان يجب عليه اتخاذها لضمان تنفيذ المشروع، وهو التأكد من أن المعرض العالمي في شيكاغو سوف يمنحه دون غيره حق إقامة الجناح المصري، لذا قرر أن يسارع بالتوجه مباشرة إلى أصحاب الشأن في شيكاغو للاتفاق معهم، وبالفعل سافر إلى الولايات المتحدة نهاية شهر ديسمبر من العام 1890.
في هذا التاريخ المبكر، لم تكن إدارات ولجان المعرض الكولومبي مستعدة لإبرام أي اتفاقيات تجارية حول المعرض، حتى أنها لم تكن قد وضعت بعد تصورا كاملا لحجم المهمة التي تنتظرها، إلا أن بنجالو نجح في تقديم اقتراحه للجنة، وبفضل تعاون أغلبية أعضائها، سمحت له باستخدام قطعة أرض تبلغ مساحتها قرابة 4600 متر مربع، لإقامة جناح “شارع القاهرة”.
بعدما عاد بنجالو من أمريكا، كان المرض قد ألم فجأة بالخديوي توفيق الذي منحه الكثير من التشجيع، وهو المرض الذي انتهى بوفاته، وفور إعلان الوفاة تم استدعاء ولي العهد “الأمير عباس حلمي الثاني” من فيينا، وتتويجه خديوي جديدا لمصر، لذا كان على بنجالو أن يبدأ مجددا في الحصول على موافقة الخديوي عباس كما حصل على موافقة والده.
لقاء مع الخديوي الشاب
في لقائه مع الخديوي عباس، نقل له بنجالو انطباعاته عن العالم الجديد وما شاهده في أمريكا وسمعه عن حجم المعرض وضخامته، مؤكدا أن المشاركة ستكون في صالح مصر بكل تأكيد، إلا أن الخديوي رفض أن يعطي موافقته على المشروع قبل الاطلاع على التصميمات التي يعدها هيرز للجناح المصري.
وبالفعل، سارع بنجالو وهيرز للانتهاء من التصميمات التي أصبحت جاهزة في 20 أبريل 1891، وتم تسليمها إلى السكرتير الخاص للخديوي، وفي اليوم التالي تلقى بنجالو اتصالا من القصر أخبره أن الخديوي اطلع على التصميمات وأعجب بها، إلا أنه يرغب في لقاء بنجالو مجددا ليطرح عليه بعض الأسئلة.
يحكي بنجالو في مقاله تفاصيل هذا الحوار الذي كان علامة فارقة في مصير إقامة المعرض، والذي نورده بالتفصيل:
الخديوي: ما الذي تنوي فعله بالمسجد يا سيد بنجالو؟
بنجالو: يا صاحب السمو، أنا مقدر لقدسية المسجد وسوف أكون حريصا عليه، ولأن الجناح سيكون أشبه بقرية صغيرة خاصة بالمسلمين في شيكاغو، فقد رغبت في أن يكون هناك مسجدا لهم يقيمون فيه شعائرهم، وسيكون المسؤول عن المسجد ورفع الآذان به هو الشخص الذي تختاره حكومتكم.
الخديوي: أنا سعيد لسماعي هذا التأكيد منك يا سيد بنجالو، فأنا لن أسمح بحدوث أي شيء مماثل لما حدث في الجناح المصري خلال معرض باريس عام 1889، فقد كنت في باريس في ذلك الوقت، ومما أحزنني بشدة أن المسجد الذي أقيم بالشارع لم تحفظ له قدسيته وتم تدنيسه وكان يستخدم في جميع الأغراض باستثناء الصلاة، حتى أنهم حولوا جزء منه إلى “بازار”! ومما رأيته وسمعته في ذلك المعرض، شعرت أن التجربة التي كان من المفترض أن تكون خطوة مفيدة للتعرف على الإسلام، تحولت إلى شيء سيء لا أستطيع نسيانه.
بنجالو: يا صاحب السمو، إن هدفي الرئيسي كما سبق وذكرت لكم، هو إعطاء العالم فكرة صحيحة عن مصر، وأنا واثق أنه مع وجود ما يشبه مدينة صغيرة تتألف من 200 مصري بما فيهم النساء والأطفال وتشتمل على مختلف المهن التراثية والمنازل المصرية، أستطيع أن أنقل للعالم صورة حقيقية وصادقة عن الأمة المصرية، وهو ما يجعل تجربة المعرض مفيدة وجذابة.
استمع الخديوي إلى بنجالو باهتمام شديد، وفي النهاية أخبره أنه إذا نُفذت التجربة على النحو المبين في التصميمات، فإنها ستكون تجربة ناجحة ولا شك، معربا عن تأييده الشخصي للمشروع، ولكن دون أي تدخل رسمي من الحكومة المصرية.
في هذه الفترة، كانت الحكومة المصرية قد تلقت دعوة رسمية من الرئيس الأمريكي آنذاك بنجامين هاريسون للمشاركة في معرض شيكاغو، ويقول أورموش إن القيادة السياسية في مصر كانت تدرك أهمية المعارض العالمية لأغراض الدعاية السياسية والثقافية في تلك الفترة، وكانت تريد المشاركة بالفعل في المعرض، ولكنها لم تكن في ظرف يساعدها على تنفيذ ذلك بسبب وضعها الاقتصادي المضطرب، حيث ردت وزارة المالية المصرية -التي كانت تحت إدارة الاحتلال البريطاني- بأنه لا يوجد تمويل كاف للمشروع، وهو ما يفسر اكتفاء الخديوي بتقديم الدعم الشخصي فقط رغم تحمسه للفكرة.
بعد هذه الموافقة غير الرسمية، سافر بنجالو إلى الولايات المتحدة مجددا، وحصل على حق امتياز إقامة الجناح المصري بشكل نهائي متفوقا على ثلاثة من المنافسين، ثم قام بإنشاء شركة حملت اسم “شيكاغو-مصر: شارع القاهرة” برأس مال بلغ 225 ألف دولار، قبل أن يعود إلى القاهرة ليبدأ الخطوات العملية لتنفيذ تصميمات المباني واستقطاب وتوظيف عدد من المصريين وإقناعهم بالسفر عبر البحر إلى أراضي العالم الجديد.
“مؤامرة أمريكية على المسلمين”!
بعد تأجير مكتب في مكان مناسب بالقاهرة، قام بنجالو بطباعة نصف مليون إعلان كتب باللغة العربية، يتحدث عن عجائب العالم الجديد التي ستعرض في معرض شيكاغو ومن بينها الجناح المصري، وخلال أيام معدودة وزعت تلك الإعلانات في جميع الأحياء الشعبية بالعاصمة المصرية.
علاوة على ذلك، أطلق بنجالو عشرين مواطنا مصريا تجولوا في شوارع المدينة ليتحدثوا مع التجار عن المشروع والأرباح التي يمكن لهم أن يجنوها من المشاركة في المعرض وجناحه المصري، ويقول بنجالو في مقاله عن هذه الخطوة “وكما جنيت ثمار هذه الطريقة في الإعلان، كان علي كذلك أن أواجه أخطارها، فقد لفتت هذه الطريقة أنظار بعض المتعصبين الدينيين، الذين قرروا التصدي للمشروع ومنع إقامته”.
ويوضح أنه انتشرت شائعات كثيرة بين هؤلاء المتعصبين، مفادها أن الشعب الأمريكي يريد استدراج العرب إلى شيكاغو بهدف قتلهم لأنهم مسلمين! وهو ما استدعى من بنجالو إنفاق المزيد من الوقت والجهد والمال لمواجهة هذه العقبات غير المتوقعة.
يقول بنجالو إن المصريين البسطاء كانوا يؤمنون فقط بما تراه أيعنهم، لذا كان عليه اللجوء إلى بعض الحيل التي تظهر لهم أن الحكومة المصرية والخديوي يؤيدان المشروع، وتكون قادرة على إقناعهم بقبول فكرة السفر والعيش في مجتمع غربي مسيحي.
في سبيل ذلك، توجه بنجالو إلى رئيس شرطة القاهرة، وشرح له المأزق الذي كان يواجهه، فما كان من الرجل إلا أن قرر وضع شرطيين مصريين تحت تصرف بنجالو، كما وعده بتكليف جميع مراكز الشرطة الفرعية في القاهرة، لإبلاغ المواطنين أن شركة بنجالو محقة في كل ما تقول بشأن السفر والعمل في الولايات المتحدة.
في صباح اليوم التالي، كان هناك اثنان من أمهر رجال الشرطة في القاهرة يتواجدان داخل مكتب بنجالو، وبعدما أديا له التحية العسكرية أخبراه بأنه تم تكليفهما بملازمته بشكل يومي وتلقي الأوامر منه، فما كان من بنجالو إلا أن طلب منهما الوقوف أمام المدخل الرئيسي لمكتبه وإخبار المواطنين بأن الحكومة كلفتهما بحراسة الشركة.
كان الحضور اليومي للشرطيين، كفيلا بتحقيق الأثر المطلوب على المصريين البسطاء الذي سعى إليه بنجالو، ولم يمض وقت طويل قبل أن يحولا المكان من “شركة أمريكية” تثور حورها الشبهات إلى “مؤسسة حكومية” تحميها الشرطة، ونتيجة هذه الحيلة، ارتفعت ثقة المصريين في بنجالو، وبدأت تتدفق على مكتبه أعداد كبيرة من الراغبين في السفر من كل صنف ولون.
مسلم، مسيحي، يهودي!
نتيجة هذا التطور، توافد على بنجالو مصريين يعملون في كل المهن التي يمكن أن تخطر على البال: سائقو حمير، سائقو جمال، سائقو خيول، نادلون، طهاة، حلاقون، حواة، مصارعون، مهرجون، عاملو مقاهي، موسيقيون، كتبة، رجال دين، وغيرهم كثيرون، وكان أول من موقع على طلبات التوظيف التي أعدها بنجالو هم سائقو الحمير! وفي أقل من أسبوع واحد كان لديه أكثر من 150 شخصا يستطيع المفاضلة بينهم.
وفي كتاب للبروفسير (ف. بوتنام) صادر عام 1894 عن بعض المشاركين في الأجنحة الدولية بمعرض شيكاغو، نجد بورتريهات لعدد من الشخصيات المصرية التي تعاقد معها بنجالو على السفر إلى أمريكا في تلك الفترة، منهم مثلا شخص يدعى “حسن شوربا” وهو المسؤول عن سائقي الحمير في جناح شارع القاهرة، أو “ابن يقار” وهو بائع مصري مسيحي كان يعمل في أحد البازارات بالشارع.
ومن بين هؤلاء أيضا نعثر على بورتريه لشخص يدعى “حسن شحاته” وهو سائق حمير كان مشهور بين زوار الشارع بسبب قوته ودماثة خلقه، وكذلك شخص يدعى “سولومون ليفي” وهو مصري يهودي كان يعمل مرشدا للسياح في منطقة الأهرامات حيث كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة ويظهر أن بنجالو استعان به ليساعد الزوار في الجناح المصري ويتفاهم معهم ويرشدهم.
وغيرهم آخرون، سوريون وأرمن وأتراك ونوبيون وأوروبيون، استعان بهم بنجالو لينقل صورة طبق الأصل من الحياة في القاهرة في ذلك الوقت، والتي كانت تزخر بعشرات الجنسيات.
بالإضافة إلى ذلك، قام بنجالو بشراء 4 خيام و20 حمارا و7 جمال وعدد من القردة والثعابين، فضلا عن جميع معدات ركوب الدواب والسرج والأغطية الخاصة بها، بالإضافة إلى أدوات صنع “مواكب الزفاف” التي كانت من السمات الرئيسية للبرنامج، والإكسسوارات التي تستخدم في موالد الأولياء المسلمين أو القديسين المسيحيين، كما قام بصناعة كسوة سوداء كبيرة مطرزة شبيهة بالكسوة التي كانت ترسل من مصر إلى مكة المكرمة لوضعها على الكعبة المشرفة، بهدف تنفيذ موكب “المحمل” واحتفال خروج الكسوة.
بعد كل هذه التجهيزات، لم يتبق أمام بنجالو سوى مهمة الاتفاق مع الفتيات اللاتي سيقمن بأداء فقرات الرقص الشرقي في الجناح المصري.
البحث عن راقصة شرقية
يقول بنجالو إنه اكتشف من محادثاته مع بعض الأثرياء المصريين، أنه سيواجه معارضة كبيرة من عدة جهات بسبب رغبته في الحصول على خدمات الراقصات ونقلهن إلى أمريكا، إلا أنه سرعان ما اكتشف أن المعارضة الرئيسية ستأتي من قبل المدراء السوريين واليونانيين لصالات الرقص، التي ستعاني عروضهم الفنية إذا ما قام بنجالو بالتعاقد مع بطلاتها.
كان لدى بنجالو قناعة بأنه إذا تمكن من إقناع فتاة واحدة بالتوقيع على اتفاق معه للسفر، فإن أخريات سيحذون حذوها من باب الغيرة والحسد، وتطبيقا لهذه النظرية، قام بطباعة إعلان كاذب ونشره في مختلف صالات الرقص، نصه كالآتي: (الراقصة الشهيرة فريدة مظهر، وعدد من الراقصات الأخريات، تقدمن للمشاركة في معرض شيكاغو، إلا أنه تم رفضهن جميعا نظرا لأنهن غير مناسبات لهذه العروض ولا يمتلكن الخبرة الكافية).
لم يمض وقت طويل حتى انتشر الخبر بين مختلف الراقصات، اللاتي سعين للتقدم إلى المسابقة لإثبات تفوقهن على فريدة التي لم تنجح في اختبارات الأداء، وهو ما أغضب فريدة بشدة وبالرغم من نفيها التقدم للمسابقة من الأساس، إلا أن منافساتها اعتبرن نفيها بمثابة تأكيد وأنها ترفض الاعتراف بالحقيقة، ثم وبإيعاز من بنجالو نفسه نصحها بعض المقربين منها أن تتقدم للمسابقة فعلا وتعلن انسحابها بعد إعلان قبولها لترد على المشككين.
فيما تقول الكاتبة شذى يحيى، صاحبة كتاب “تاريخ الرقص الشرقي”، إن الراقصة فريدة تقدمت للمسابقة بالفعل وتم قبولها، ولكن دفعها إحساسها بالنجومية المفاجئة التي أحاطت بها وحبها للمغامرة إلى أن توافق فعلا على السفر لشيكاغو!
وكما كان يتوقع بنجالو بدأت منافسات فريدة يتساقطن تدريجيا ويوقعن على اتفاقيات بالمشاركة في المعرض، وتضيف شذى يحيى أن بهذه الطريقة تكون لدى بنجالو فريق من الراقصات ضم كل من: “فاطمة الحوري، فاطمة الحُصرية، هانم، أمينة إبراهيم، سعيدة محمد، صديقة، نبوية، فهيمة، زكية، ماريتا، حسنية” وبالطبع بطلة عرضه “فريدة مظهر” التي أُفردت لها رقصة خاصة بعنوان “فاتيما الجزائرية قادمة إليكم من المغرب”!
كيف نقل هيرز القاهرة إلى شيكاغو؟!
عندما علم ماكس هيزر بحجم المساحة التي خُصصت للجناح المصري في شيكاغو، وعد بنجالو بتصميم جناح يوازي ربع مساحة مدينة القاهرة التاريخية، مع استبعاد المباني غير الهامة واستبدالها بأخرى تمتاز بالجمال المعماري.
وفي مكتب الشركة بالقاهرة، بدأ هيرز يضع تصميمات الشارع مستعينا بالمعماري النمساوي “إدوارد ماتاسيك” لمساعدته في إعداد خطط التصميم والتنفيذ، حيث وضعا معا مخططا لشارع قاهري يبلغ طوله قرابة 180 مترا، ولإضفاء الواقعية على تصميم الشارع، لم يجعلوه مستقيما وكأنه مسرح بل وضعوا فيه 4 انحناءات رئيسية كما هو حال شوارع القاهرة القديمة، بينما كان يصل عرضه في أقصى حالاته إلى 44 مترا.
لم يكن تصميم الشارع الجديد نسخة طبق الأصل من أي من شوارع القاهرة المعروفة في ذلك الوقت، ولكنه كان خليطا لعدة شوارع، فإذا ما رأيته عرفت للوهلة الأولى أنه شارع قاهري، دون أن تستطع تحديد مكانه بالضبط داخل مدينة القاهرة، وكانت هذه براعة شديدة من هيرز أكسبت الجناح المصري نجاحا استثنائيا، وبالرغم من ذلك، رأى الكثيرون أن الشارع كان شديد الشبه بشارع المعز لدين الله الفاطمي بالجمالية.
في تصميمه، وضع هيرز في الشارع 26 مبنى يتميز بطرازه العربي الإسلامي، حيث اشتمل على منازل ومتاجر ومقاهي ونافورة مياه ومسرح وكُتاب ومَدرسة وضريح، وسبيل كان نسخة طبق الأصل من سبيل عبدالرحمن كتخدا بشارع المعز، كما ضم الشارع نسخة من قصر جمال الدين الذهبي -وهو أحد المباني التي أقيمت في العصر العثماني- وتم تأثيثه بقطع أثاث فاخرة شبيهة بما كان موجود بالقصر الحقيقي.
أما أبرز مباني الشارع فكان المسجد، حيث اختار هيرز أن يجعله نسخة من مسجد قايتباي الموجود بقرافة المماليك، باستثناء المئذنة التي جعل تصميمها مطابق لتصميم مئذنة مسجد أبو بكر مزهر الواقع بحارة برجوان.
ويُرجع البعض السبب في عدم اختيار هيرز مسجدا محددا ونقل نسخة منه، أنه أراد تجنب الحساسيات الدينية التي قد تنجم إذا ما تعرض المسجد لأي شيء قد يراه المسلمون تدنيسا أو انتقاصا من قدر المبنى، لذا فضل إقامة مسجد يصعب التعرف على ملامحه بسهولة، وابتكر مسجدا وهميا جمع عناصره من عدة مساجد.
فيما يرى آخرون أنه فضل اختيار المئذنة من مسجد آخر غير مسجد قايتباي، حتى تكون المئذنة مهيئة لصعود الزوار إليها وسماعهم للآذان ومشاهدة الصلاة من أعلى المئذنة، وهو ما لم تكن توفره مئذنة قايتباي الأصلية بسهولة.
أيا كان سبب ذلك، المهم أن المسجد أصبح لاحقا واحدا من أجمل المباني الموجودة في جناح “شارع القاهرة” على الإطلاق، بمئذنته التي ستصبح علامة من علامات المعرض وذلك بسبب إمكانية رؤيتها من أماكن بعيدة لطولها الشاهق، وجمالها وشكلها المميز الذي لم يكن يشبه أي شيء آخر في كامل معرض شيكاغو.
ولكن لم يكن الشارع القاهري ليكتمل دون معبد مصري يمثل المرحلة المبكرة من تاريخ المصريين والأشهر بالنسبة إلى سكان أمريكا، وهو ما جعل هيرز يخصص مكانا في النهاية الغربية للشارع لبناء معبد أطلق عليه اسم “معبد الأقصر”.
واستعان هيرز في ذلك بعالم المصريات ديميتريوس موسكوناس ليقوم بعمل تصميمات المعبد، وتنفيذ عدد من النسخ المقلدة للتماثيل الفرعونية والمسلات والتوابيت بالإضافة إلى صناعة مومياوات من الشمع لأشهر ملوك مصر القديمة، وهو العمل الذي استغرق منه قرابة عامين متواصلين، وكان من أغرب الأشياء التي فعلها موسكوناس أن قام بنقش اسم الرئيس الأمريكي “جروفر كليفلاند” بالهيروغليفية على إحدى المسلتين اللتين تم وضعهما أمام أبواب المعبد!
الاتهامات تلاحق هيرز
ولكن رغم النجاح المبهر الذي حققه ماكس هيرز في تصميم وتنفيذ جناح “شارع القاهرة”، إلا أن عمله لم يخل من الاتهام بارتكاب بعض الأخطاء الفادحة.
من ذلك مثلا، اتهامه بسرقة نوافذ سبيل عبدالرحمن كتخدا! حيث يقول اشتفان أورموش إن بعض الأصوات اتهمت هيرز بأنه نقل النوافذ الأصلية لسبيل عبدالرحمن كتخدا إلى معرض شيكاغو ووضع مكانها نوافذ أخرى مقلدة، حيث تجرأ على فعل ذلك دون أن يخشى المساءلة كونه يرأس لجنة حفظ الآثار العربية المسؤولة عن مثل هذه المباني التاريخية، أي أنه لم يكن هناك سلطة أعلى منه لتحاسبه على ذلك.
إلا أن أورموش يعود ويؤكد أن بحوثا أجريت مؤخرا حول هذه النقطة، استعانت ببعض الصور الفوتوغرافية التي التقطت للسبيل قبل سنوات من إقامة المعرض وكذلك ببعض رسومات المستشرقين، أثبتت أن النوافذ التي استعان بها هيرز في السبيل المقلد لم يكن لها شكل النوافذ الأصلية التي ظهرت في الرسومات القديمة والتي لازالت موجودة على الواجهة الحالية للسبيل الأصلي حتى الآن.
وبالرغم من ثبوت براءة هيرز من هذا الاتهام، إلا أنه يصعب تبرير موقفه حيال ما فعله بنجالو بالمشربيات المصرية!
حيث يعترف بنجالو في مقاله بـ”كوزموبوليتان” أنه قام “بعملية تخريب واسعة” لعدد من مباني القاهرة بهدف الاستعانة بنماذج فنية حقيقية من المشربيات والأرابيسك ووضعها على المباني المقلدة التي أقامها في معرض شيكاغو.
ويكشف أنه قام عبر وسطاء بشراء العديد من المشربيات من أصحاب المنازل، بل إنه كان يضطر في بعض الأحيان إلى شراء منزل كامل ليقوم بتجريده مما به من مشربيات وقطع خشبية وأرابيسك، ثم يقوم بإعادة بيعه، وخلال تسعة أشهر، قام بنجالو بتجريد أكثر من 15 منزلا من كامل مشربياته، كما حصل على قطع خشبية وألواح منحوتة وأبواب من 50 منزلا آخر!
وهنا ثار تساؤل حول موافقة هيرز على نقل بنجالو لهذا الكم من المشربيات، وعدم اعتراضه على تدمير هذه الآثار المصرية، حيث رأى كثيرون أن هيرز كان متواطئا مع بنجالو في ذلك، فيما دافع عنه آخرون بدعوى أن المشربيات حتى ذلك الوقت لم يكن يتم التعامل معها على أنها آثار ذات قيمة فنية يجب حفظها، ولم يكن هناك مكان لتخزينها في دار حفظ الآثار العربية في ذلك الوقت، لذا رأى هيرز أنها سوف تختفي في كل الأحوال قريبا، فكان من الأفضل أن يتم الاستفادة منها قبل ضياعها نهائيا، خاصة في ظل تشجيع الحكومة المصرية آنذاك للمواطنين على استبدال النوافذ الزجاج بالمشربيات الخشبية في منازلهم لتقليل الحرائق.
في كل الأحوال، كان هيرز ومساعدوه قد قاموا بتنفيذ معظم العناصر والمكونات التي سوف تستخدم في بناء الشارع، وبحلول نهاية ديسمبر 1892، كان قد تم الانتهاء من تجهيز كل شيء وأعد للشحن بعناية وتم ترقيمه، وفي 23 يناير 1893 قرر بنجالو شحن الشارع إلى شيكاغو مبكرا وعدم الانتظار لحين انتهائه من جمع المصريين الذين سوف يشاركون في المعرض، بهدف توفير الوقت اللازم لتركيب الشارع مرة أخرى، وفي أمريكا تم تجميع الشارع بالفعل تحت إشراف مهندس معماري أمريكي يدعى هنري إيفز كوب، كما قام هيرز في وقت لاحق بالسفر إلى شيكاغو للإشراف على المرحلة النهائية من تنفيذ الشارع بنفسه.
رحلة المصريين إلى العالم الجديد
عقب معرض باريس في عام 1889، انتشرت أخبار عدة عن المصريين الذين تقطعت بهم السبل في أجزاء مختلفة من أوروبا بعد مشاركتهم في المعرض وباتوا غير قادرين على العودة إلى ديارهم، حتى أن بعضهم اضطر للتسول لجمع الأموال التي تساعده على العودة، وهو ما دفع الحكومة المصرية لاتخاذ عدة إجراءات بهدف حماية البسطاء من مواطنيها مستقبلا.
يقول بنجالو إنه بناء على ذلك قرر مجلس الوزراء المصري عدم السماح لأي مواطن بمغادرة البلاد للمشاركة في تلك المعارض دون إذن من السلطات، وكذلك اشترطت الحكومة على أي شخص يريد إشراك بعض المصريين في عروض البلدان الأجنبية، أن يودع في خزينة بمصر مبلغا من المال يغطي تكاليف إعادتهم إلى ديارهم مرة أخرى.
وعملا بهذا القرار، تقدم بنجالو بطلب إلى الحكومة المصرية للحصول على إذن بالتوجه إلى شيكاغو وبصحبته 250 مصري من رجال ونساء وأطفال، وهو الطلب الذي تمت الموافقة عليه ولكن تحت شرط وحيد، وهو إيداع وديعة لدى الخزانة المصرية تغطي نفقات عودة المصريين إلى ديارهم، ولاحقا تم تحديدا هذا الإيداع بـ50 دولار عن كل مواطن.
وبعدما بلغت قافلة بنجالو 175 شخصا، بخلاف الأمتعة والسلع والحيوانات والمؤن، وجد بنجالو أنه من الأفضل استئجار باخرة من الإسكندرية إلى نيويورك مباشرة كسبا للوقت والجهد، حيث أبرم اتفاقا للإبحار على ظهر السفينة “جيلدال” التي كانت ترفع العلم البريطاني بقيادة الكابتن “تاتي”، مقابل 17 ألف و500 دولار.
وسمح الكابتن بتحميل كامل الفريق بالإضافة إلى التجهيزات والدواب على ظهر السفينة ولكن شريطة أن يتحمل بنجالو المسؤولية أمام قوانين الولايات المتحدة المتعلقة بالهجرة ودخول وخروج السفن، بالإضافة إلى تحمله مصاريف إطعام أعضاء فريقه، فيما تكفلت السفينة بتوفير الماء والنار للطهي، وفي 9 مارس 1893 أبحر المصريون عبر مياه البحر المتوسط في طريقهم إلى أراضي العالم الجديد.
صلاة الفجر في شيكاغو
وصل المصريون إلى معرض شيكاغو قبل افتتاحه بأيام، وعلى الفور وزعهم بنجالو على مباني الشارع التي كان قد تم الانتهاء من تركيبها، ليسكنوا فيها وكأنها منازلهم الحقيقية، خاصة وأن بعضهم كانوا يشكلون أسر فعلية (أب وأم وأبناء)، حيث استطاعوا التأقلم سريعا مع الوضع بعدما شعروا أنهم ما يزالون في القاهرة بسبب شكل الشارع ومبانيه القاهرية الصرفة، فكانوا ينتشرون داخل المنازل وفي الشرفات وأمام المباني والمقاهي وفي المسجد والمسارح وغيرها.
كما اشتمل الشارع على قرابة 50 متجرا وورشة، كانت أغلبها متاجر ضيقة للغاية لا تزيد عن 6×6 قدم، ما كان يدفع البائعين لوضع بضائعهم خارج المحل لكي يراها المشتري، كما كانوا يقومون بتصنيع بضائعهم أمام المارة لجذبهم، وكانت تضم هذه المتاجر: نساجون، صانعو نعال (جزماتية)، صانعو خيام (خيامين)، صانعو الطرابيش، صانعو الحلويات، صانعو المجوهرات، صانعو الخزف، صانعو النحاس، صانعو الملابس (الخياطين)، بائعو المحار والصدف، بائعو العطور، وغيرها من الحرف.
وسرعان ما دربهم بنجالو على تنفيذ عروضهم والعيش بتلقائية في الشارع، حيث اتفقوا على طرق تنظيم حفلات الزفاف الوهمية الصاخبة ومحاكاة احتفالات المناسبات الدينية كما يحدث في الشوارع المصرية الطبيعية، مثل المولد النبوي وخروج كسوة الكعبة ومواليد الأولياء المسلمين والقديسين المسيحيين.
ولم تكد تمضي أيام معدودة على انطلاق المعرض، حتى اكتشف الزوار والمنظمون أن جناح “شارع القاهرة” هو درة المكان والموضع الذي يجب زيارته قبل أي شيء آخر، ليبدأ في تحقيق نجاحه التاريخي، الذي ترك بصماته على الثقافة الشعبية الأمريكية حتى اليوم.
فقد ظهر للزوار أن كل شيء في الشارع مصري حقيقي، ومجرد الدخول إليه يشعرك وكأنك انتقلت إلى القاهرة فعليا، ففي الطوابق العليا من المنازل كان يسكن مصريون حقيقيون، وفي الشوارع يتسكعون ويتزاحمون، وكانت الإبل والحمير تتحرك في الشارع جيئة وذهابا وكذلك العربات الكارو، فيما تطل الفتيات المصريات من الشرفات، بينما أطفال حفاة يلعبون بالقرب من عتبات المنازل، ومشعوذا يقف في منتصف الطريق يمارس خدعه وإلى جواره مجموعة شباب يلعبون التحطيب، ثم فجأة تشاهد موكب الحجاج وهو في طريقه إلى مكة حاملا معه كسوة الكعبة، يليه موكب زفاف تتقدمه عروس امتطت جملا، تختلط أصواتهم مع نداءات البائعين وأغاني الحرفيين داخل متاجرهم، ما جعل الشارع ينبض بالحياة بشكل مذهل!
بالإضافة إلى كل ذلك، لعب المسجد دورا محوريا في واقعية الحدث، حيث تقول المؤرخة الأمريكية سالي هاول في بحث لها بعنوان “التأسيس لكتابة تاريخ المسلمين الأمريكيين”، إن مسجد شارع القاهرة في معرض شيكاغو، كان أول مسجد معروف يبنى في أمريكا، وتضيف أن منظمي المعرض والقائمين على الجناح، كانوا يشجعون العمال المصريين وغيرهم من المسلمين المشاركين في المعرض ككل، على أداء الصلوات الخمس في المسجد يوميا ورفع الآذان في موعده حتى آذان الفجر! كطقس ديني يستطيع جذب الزوار للمشاهدة.
أما داخل “معبد الأقصر”، فكان يتم تنظيم موكب يضم موسيقيين وممثلين يرتدون ملابس كهنة إيزيس “جلد النمر”، وتقليد بعض الهتافات والحركات الشبيهة بمشاهد أوبرا عايدة، فيما كان يقوم العالم موسكوناس بإرشاد الزوار داخل المعبد وشرح الرسومات، وتعريفهم بالمومياوات الموجودة وبالتماثيل والتحف المصرية، والتحدث إليهم عن التاريخ المصري بشكل عام.
وبالرغم من سحر معبد الأقصر، وما كان يمثله من قيمة نادرة لعلماء المصريات في أمريكا الشمالية، إلا أنه لم يحظ بالاهتمام الذي لقيه ركوب الجمال بحسب مؤرخي المعرض! حيث كان الجناح مزدحما دائما بالزوار الراغبين في ركوب الحمير أو أخذ جولة فوق ظهر الجمل.
ويبدو أن المصريين رأوا أن الواقعية لن تكتمل إلا بالعراك الذي تحفل به الشوارع المصرية عادة، حيث كانت تقع بينهم مشاحنات ومشاجرات حقيقية بشكل يومي لأسباب شخصية، وهو ما دفع إدارة المعرض لتعيين حراس دائمين في شارع القاهرة لمنع الاقتتال بين سكانه، الذين لم يكن يردعهم وجود الزوار عن الشجار والصياح وتبادل اللكمات والشتائم!
بالإضافة إلى كل ذلك، كان هناك ركن خاص في شارع القاهرة للمصور الأرمني “جابرييل ليكيجيان” الذي كان يعد بمثابة المصور الخاص للحاشية الملكية المصرية في ذلك الوقت، حيث كان يقوم بالتقاط الصور وبيعها للزوار، وبفضل براعة ليكيجيان تم توثيق الحياة في جناح شارع القاهرة بشكل دقيق، وهو ما كان سببا في حصوله على جائزة التصوير الكبرى في معرض شيكاغو عقب انتهائه.
“الفعل الذي أفقد يوحنا رأسه”
كان يضم جناح شارع القاهرة مسرحا كبيرا بسعة 1500 مقعدا، أقيمت عليه عروض الأداء الفنية، والتي كان أهمها بالنسبة إلى زوار الشارع عروض الرقص الشرقي التي أدتها الراقصات اللاتي جلبهن بنجالو معه من القاهرة، وهي الرقصات التي أحدثت جدلا غير مسبوق في المجتمع الأمريكي، وشكلت انطباعه وتصوره للشرق حتى يومنا الحاضر.
فقد أحدثت هذه الرقصات صدمة للمشاهدين الأمريكيين الذين لم يكونوا قد شاهدوا هذا النوع من الرقص من قبل، بل إن البعض اعتبره خارج على أخلاقيات المجتمع الأمريكي في ذلك الوقت الذي لم يكن يستوعب مثل هذا النمط من رقص النساء، وهو ما دفع الصحافة الأمريكية للهجوم الشرس على راقصات شارع القاهرة، ويقول أورموش إن أحد الصحفيين الأمريكيين وصف تلك العروض بقوله “مشاهدة هذه العروض لليلة واحدة سوف تحرمكم الشعور بالسلام النفسي لأشهر قادمة”، فيما أطلق صحفي آخر على هذه الرقصات اسم “الفعل الذي أفقد يوحنا المعمدان رأسه” -في إشارة إلى قصة سالومي الشهيرة- فيما حاول بعض المثقفين الأمريكيين فهم تلك الرقصات في عام 1893 كما لو أنها أشبه برقصات النوادي الليلة التي نعرفها حاليا في أمريكا.
ونتيجة هذا الجدل، سعت بعض سيدات المجتمع الأمريكي إلى إغلاق جناح شارع القاهرة بسبب عروض الرقصات الشرقية التي كانت تقام يوميا من العاشرة صباحا وحتى العاشرة مساء، وشكلن جمعية نسائية لهذا الغرض، وبعدما تقدمن بعدة بلاغات للشرطة، فشلت مساعيهن، حيث اعتبرت الشرطة أن العروض الشرقية لا تخالف القانون ولا تخالف ضوابط المعرض، وليس بها ما يستدعي التدخل.
فيما لم يستعبد أورموش أن تكون عملية إثارة الجدل حول الرقصات الشرقية بشارع القاهرة والادعاء بأنها “رقصات فاحشة تخالف أعراف المجتمع الأمريكي المحافظ!” مجرد جزءا من حملة إعلامية مدبرة بعناية تهدف إلى زيادة الإقبال على مشاهدة العرض، ومما يؤكد رأيه، أن الصحافة الأمريكية التي لم تتوقف عن انتقاد عروض الرقص، لم تتوقف أيضا عن نشر التقارير الإخبارية بانتظام عن تفاصيل الحفلات في مسرح شارع القاهرة وكتابة نقد فني للبرنامج الاستعراضي الذي كان يقام بشكل يومي سواء سلبا أو إيجابا!
ويقول الكاتب والمخرج الفرنسي برنار سوبل، في كتاب له بعنوان “التاريخ المصور للفوديفيل”، أن الراقصة فريدة مظهر كانت نجمة عروض مسرح شارع القاهرة نتيجة تأثيرها الضخم على زوار الجناح، حتى أطلق عليها لقب “ليتل إيجيبت”، كاشفا أنها لم تكن مصرية، بل كانت من أصول سورية، وكانت ترقص في المعرض العالمي وعلى رأسها شمعدانات مضاءة، مضيفا أنه تعاظم تأثير هذه الراقصة حتى قيل أنها السبب في إنقاذ معرض شيكاغو من الإفلاس!
فيما تشير شذى يحيى إلى أن الرقصات التي قدمت في شارع القاهرة عام 1893، رسخت صورة نمطية في العقل الجمعي للأمريكيين عن الشرق، كما أدخلت في الثقافة الأمريكية العديد من المصطلحات التي حُمّلت بإيحاءات ومعان بذيئة ومهينة مثل الهوتشي كوتشي “Hochy-Khoochy” وهي تحوير لهشك بشك، والشيك أند شيمي “Shake and shimmy” أو الهز والتمايل وكذلك المصطلح الأشهر البيلي دانس “Belly-Dance” أي رقص البطن أو المعدة وهو الاسم الإنجليزي الذي اصطلح عليه لتعريف الرقص الشرقي.
إديسون والمومياوات المضيئة
“شارع القاهرة” كان أنجح أجنحة المعرض الكولومبي العالمي على الإطلاق، سواء من حيث عدد الحضور أو المكاسب المادية، فخلال ستة أشهر هي مدة المعرض، كان هناك أكثر من مليونين وربع المليون شخص قد دفعوا ثمن تذاكر لمشاهدة الشارع، وكان ثمن التذكرة حينها 10 سنتات، ما دفع القائمين على الجناح لرفعها إلى 25 سنتا، إلا أن ذلك لم يؤثر على الإقبال.
وتوافد على الشارع الكثير من الشخصيات الأمريكية الشهيرة، مثل الروائي الشهير مارك توين وكثير من السياسيين، بالإضافة إلى المخترع توماس إديسون الذي سعى لاستغلال نجاح شارع القاهرة في الترويج لاكتشافه المبتكر في ذلك الوقت “المصباح الكهربائي”، حيث أبرم اتفاقا مع بنجالو ليقوم بوضع مجسمات مضيئة للمومياوات المصرية داخل “معبد الأقصر” لجذب الزوار وتعريفهم باختراعه.
وبسبب شارع القاهرة، بات بنجالو واحدا مِن أكثر مَن أثّروا في فنون الأداء في أمريكا الشمالية، فبمفرده وخلال عدة أشهر، شكل رؤية جماعية لدى الأمريكيين عن الشرق وفنونه، ونتيجة لعروض بنجالو الناجحة بكل تأكيد، ظهرت له تأثيرات على الفنون الأمريكية اللاحقة، حتى أنه ظهر مصطلح “ميدواي” Midway في اللغة الإنجليزية للإشارة إلى بعض الفنون الشبيهة بالرقص الشرقي وما كان يقدم في شارع القاهرة، حتى أن البعض يعتبر أن الفنون الأدائية في أمريكا اختلفت بعدما تأثرت بعروض شارع القاهرة، فالموسيقى والرقص في أمريكا لم يعودا كما كانا عليه قبل وصول عروض جناح “شارع القاهرة”.
المثير للدهشة، أن العناصر الرئيسية الموجودة في الجناح المصري، كان من الممكن أن تعثر عليها في أجنحة شبيهة، إلا أن شارع القاهرة ظل هو الوجهة الرئيسية لزوار “ميدواي بلايزانس”، فمثلا كانت هناك العديد من العروض الشرقية والإسلامية مثل العروض الجزائرية والتونسية والفارسية والمغربية، وكان من الممكن أن تشهد إقامة صلاة المسلمين في القرية التركية وحضور عرس شرقي في القرية التركية أيضا، إلا أن جناح القاهرة ظل مستحوذا على اهتمام الزوار بشكل كبير ولا يقارن.
ويرجع أورموش أسباب هذا النجاح مقارنة بالأجنحة الشبيهة، إلى عدة عوامل، منها أن الجناح لم يكن مجرد استنساخ لبعض المباني الفردية المميزة، بل كان شارع متكامل، مما أعطى انطباعا للزوار بأنهم انتقلوا في الزمن إلى العصور الوسطى نفسها، بالإضافة إلى أن القاهرة تحديدا كانت أغنى مدينة إسلامية وشرقية في العصور الوسطى من جميع الجهات الثقافية والفنية لذا كان استنساخها بهذا الشكل له جاذبيته وسحره الخاص، أما العامل الثالث فكان يتمثل في أعداد المصريين الكبيرة الذين كانوا يتجولون في الشارع طوال اليوم ويتصرفون ببساطة وتلقائية وكأنهم يمارسون أعمالهم اليومية الطبيعية، وهو ما ساهم إلى حد كبير في منح الزوار إحساسا بأنهم داخل القاهرة بالفعل وليس مجرد جناح للمحاكاة، هذا بخلاف العروض الجذابة التي كانت تقام فيه والتي كان يصعب أن تجدها مجتمعة في أي مكان آخر.
وبعد هذه الرحلة الطويلة، لم يتبق سوى معرفة مصير هؤلاء المصريين وكيف انتهى بهم الحال بعد نهاية المعرض العالمي، هل عادوا إلى مصر، أم قرروا الإقامة الدائمة في بلاد العم سام مثلما فعل غيرهم من المشاركين في الأجنحة الأخرى، وتأسيس أولى الجاليات الأجنبية الشرقية في الولايات المتحدة؟
البحث عن 300 مصري في أمريكا!
عندما سافر بنجالو إلى الولايات المتحدة كان بصحبته 175 مصريا ما بين رجال ونساء وأطفال، ولكن بحلول افتتاح المعرض وبدء نشاط الشارع، تضاعف عدد سكان الشارع ليصبح قرابة 350 شخصا، ويظهر من هذا أن بنجالو ربما استعان بمشاركين من أجنحة أخرى للإقامة في شارع القاهرة، وربما أرسل لاستقدام مشاركين آخرين من مصر بعد النجاح الذي لمسه، المهم أن الشارع كان يقيم فيه عدد ضخم من المصريين بعد افتتاحه.
أول من غادر جناح شارع القاهرة من المصريين، هم قادة الإضراب الذي نفذه سكان الشارع في منتصف فترة إقامة المعرض، وهي واقعة تكشفها البروفسيرة تاشا فوردرستراس من معهد الدراسات الشرقية بجامعة شيكاغو في تصريحات بمجلة “The seen” المهتمة بتاريخ الفن، حيث تقول إن المصريين المشاركين في الشارع قرروا في أحد الأيام الإضراب عن العمل نتيجة المعاملة السيئة من قبل بنجالو، وطالبوه بتحسين أوضاعهم المادية والتعامل معهم بشكل أفضل.
ولم توضح فوردرستراس تفاصيل أكثر عن هذا الإضراب والأسباب التفصيلية له ولا أسماء من شجع المصريين على الاحتجاج والمطالبة بحقوقهم، إلا أنها تكتفي بالقول أن بنجالو بعدما احتوى تلك الأزمة غير المتوقعة، قرر الانتقام من قادة الإضراب وأعادهم إلى مصر قسرا.
أما عقب انتهاء المعرض، فترجح أغلب المصادر أن الغالبية العظمى من المشاركين المصريين قرروا الاكتفاء بما حققوه من مكاسب وأجور والعودة إلى أهاليهم في مصر، مستفيدين من المبالغ المالية التي أودعت لدى الحكومة المصرية للتكفل بمصاريف إعادتهم.
وتقول شذى يحيى، إن طبيعة الحياة في الولايات المتحدة في ذلك الوقت لم تكن تشجع المصريين على الاستمرار والإقامة فيها، خاصة البسطاء منهم الذين لم يحصلوا على أي قدر من التعليم ولم يجيدوا سوى اللغة العربية، كما أن أمريكا لم تكن غنية كما هي اليوم حتى يحلم المصريون بتحقيق حياة أفضل فيها، بالإضافة إلى ذلك فإن الولايات المتحدة كانت شديدة العنصرية في تلك الحقبة وهو ما لم يكن ليتحمله المصريون بطبيعتهم، لذا كان خيار العودة إلى مصر هو القرار الذي اتخذه أغلب المشاركين.
إلا أن ذلك لم يمنع قلة من المشاركين المصريين في غالب الظن من الاستمرار في الولايات المتحدة، حيث كشف معرض أقيم بمتحف شيكاغو للتاريخ في عام 2019 عن تاريخ المسلمين بالولايات المتحدة، أن عددا من المسلمين المشاركين في المعرض العالمي بشيكاغو عام 1893 استقروا في أمريكا وشكلوا أولى الجاليات المسلمة هناك، ما يجعل من غير المستبعد أن يكون بعض المصريين كانوا من بين هؤلاء.
فيما يكشف أورموش أن اللبنانيين-السوريين الذين جلبهم بنجالو من قرية عين بورداي بالقرب من جبل لبان، للاستعانة بهم في الجناح المصري، لم تتوقف مشاركتهم على المعرض فقط، بل استمروا في أمريكا بعد نهاية المعرض، وأنشأوا في نهاية المطاف كنيسة هناك.
أما بالنسبة إلى الراقصات فكان الوضع مختلف تماما، حيث شجعهن النجاح الكبير الذي حققنه والشهرة الواسعة التي اكتسبنها، على الاستمرار وجني ثمار هذا النجاح.
وتقول شذى يحيى، إنه بعد انتهاء المعرض أكمل بنجالو مع راقصاته عروضهم في جولات مع المعرض العالمي عبر أنحاء أمريكا، فتوجهوا غربا إلى سان فرانسيسكو حتى عام 1895، ثم شرقا إلى نيويورك في خريف السنة نفسها، حيث قدموا عروضهم في سيرك “بارنوم وبايلي” الشهير، ومع الوقت بدأت أعداد الراقصات تتناقص حيث عادت معظم الراقصات إلى مصر وقد حملن معهن أموالا قدرت بـ300 دولار أمريكي، ساعدتهن على مواصلة نشاطاتهن الفنية في مصر.
أما فريدة مظهر، فكانت واحدة من الراقصات القلائل اللاتي عشن في أمريكا حتى وفاتهن، حيث انفصلت عن مجموعة بنجالو في نيويورك بعدما أتاها عرض للرقص في كازينو كبير هناك، وفي وقت لاحق تزوجت من صاحب مطعم يوناني يعيش في شيكاغو، كما تعاقدت مع شركة إديسون على إنتاج أفلام ترويجية قصيرة تقدم فيها رقصاتها.
وتختتم شذى بقولها، إن فريدة حافظت على صورتها كفنانة محترمة ومؤدية لفن شرقي مبهر في مدينة شيكاغو، حتى باتت تعتبر كقامة ثقافية للمدينة، ودعيت للرقص وهي في الثانية والستين من عمرها عام 1934 ضمن احتفالية أقامتها شيكاغو بمناسبة مرور مائة عام على إنشائها، قبل أن ترحل عام 1937 حيث شيعتها شيكاغو في جنازة مهيبة ومسيرة صامتة.
* نشر هذا التقرير في مجلة “أخبار الأدب” المصرية بعدد يوم الأحد 8 مارس 2020.