إذا كنت قد سمعت عن السينما الصامتة، فلابد أنك سألت نفسك يوماً: “هل كان الفيلم الصامت مفهوماً بالضرورة لكافة الجمهور؟”، الإجابة بالتأكيد متفاوتة بين الـ”نعم” والـ”لا”، لا سيما إذا كان الفيلم مصنوعاً في بلاد غير بلادك، وضمن ثقافة تختلف عن ثقافتك.

وإذا كان الحديث عن مصر، باعتبارها الرائدة عربياً في صناعة السينما وعروض السينماتوجراف، فإن عدداً هائلاً من الأفلام الأجنبية “الصامتة” قد عُرض على الجمهور المصري طوال سنوات “صمت” السينما، إلا أن الكثيرين لم يفهموا ما كان يناقشه الفيلم.

مفهماتي السينما الصامتة

احتاج المصريون إلى ما يشبه بالمترجم ليترجم لهم الأعمال التي يرونها، فنشأت مهنة “المفهماتي”، وهو الرجل الذي يقوم بدور الراوي لما كان يعرض من أفلام صامتة.

والراوي في تاريخ الفنون الشعبية هو الشخص الأهم في العروض كافة، هو الذي يحكي حكايات أبوزيد الهلالي والزناتي خليفة في السير، وهو الذي كان يوضح للجمهور “المستخبي” من عروض خيال الظل.

صار الراوي في السينما “مفهماتي”، يقول محمود علي في كتاب “فجر السينما في مصر” إن هذا الشخص في الغالب لا يجيد القراءة أو الكتابة، كان شخصاً في العادة من طراز العمالقة، في يده عصا يشير بها إلى شاشة العرض ليفهم المتفرجين أحداث الفيلم.

وينقل علي في كتابه المهم جزءً من كلمات “المفهماتي” عندما كان يشرح للناس مشهداً، فيقول “أهو ده الحارس اللي عاوز يخـ.طف البنت الحلوة، شايفين إزاي أهو جاي يخلصها، وأهو الواد السجيع (هي في الأصل الشجيع، ولكن الشين كانت تُنطق سين عند كثير من أبناء الطبقة الشعبية في أوائل القرن الماضي) طالع جري علشان يحميها، وأهو الحرا مي وصل وهجم عليها علشان يخطـ.ـفها، لكن الواد السجيع وصل”.

وتلك الفقرة وردت، كما يذكر علي في عدد مجلة “دنيا الفن” الصادر في 24 فبراير 1948.

المفهماتي يمسك عصاه ويشرح للجمهور
المفهماتي يمسك عصاه ويشرح للجمهور

الملواني وأبودومة وأبوشفة

أما مجلة “الكواكب” ففي عدد 17 يونيو من العام 1950 فتقول إن من أشهر “مفهماتية” السينما الصامتة “أبوشفة” و”خليل الملواني” و”أبودومة”، ويظهر من الأسماء والصفات المذكورة آنفاً أن معظم من امتهن هذه المهنة من الفتوات، أصحاب الجسد العريض والصوت الجهوري، وكانوا يحصلون على 15 قرشاً عن الحفلة الواحدة، وكانت تكتب أسماؤهم بخط بارز في إعلانات الأفلام، وكان أغلبهم يشرحون الفيلم تحت تأثير مخد ر رخيص الثمن اسمه “المنزول”، وذلك حسبما ذكرت موسوعة التراث المصري عندما تطرقت لتلك المهنة.

تلك الوظيفة استمرت لفترة، وكانت منتشرة للغاية في مقاهي الأحياء الشعبية التي كانت تعرض أفلاماً أجنبية صامتة، كما كانت منتشرة في القرى والكفور المصرية التي دخلتها السينما، ولكنها بدأت في الخفوت التدريجي بعد أن استطاع الإيطالي ليوبولد فيوريللو أن يقدم ترجمة تلك الأفلام باللغة العربية لأول مرة وبصورة ناجحة في سينما أولمبيا حوالي سنة 1913، ومنها انتقلت إلى دور أخرى.

ترجمة الفيلم الصامت، أو شرحه بمعنى أدق باللعربية والفرنسية والإنجليزية، تحولت إلى أحد أساليب الدعاية وقتها، ونشأت بكثرة في الأماكن التي كانت تعرض أفلاماً في منطقة العباسية والظاهر والفجالة.

الترجمة كانت ترافق عرض الفيلم، في شكل لا يشبه ترجمة الأفلام حالياً، ولكنهم كانوا يكتبون الشروح على لوح من الزجاج، ويعرضونه على شاشة منفصلة. واستمر هذا الأمر لنحو 20 عاماً، حتى حل محلها جهازاً لطبع الأفلام كوحدة واحدة.

العرب والعالم

كثير من الدول العربية لم تشهد مهنة “المفهماتي”، ربما في السينما العراقية فقط، فيقول الصحفي والكاتب العراقي عامر بدر حسون، إن “المفهماتي” كان يظهر أمام الجمهور كي يطمئنه على مصير بطلة الفيلم التي اختطـ.ـفها الشر ير، إذ كان الجمهور يوجه لعناته للشر ير ويرمي الشاشة بما تحت يديه من وسائل الدفاع عن الحق، فإن “المفهماتي” هو الشخص الذي ينصح الجمهور بالهدوء والاطمئنان، لأن البطل سينقذ البطلة لوحده، ولا داعي لرمي الشاشة دفاعاً عن البطلة”.

أما خارج المنطقة العربية فكانت المهنة شهيرة للغاية في البلدان الأسيوية، وخصوصاً اليابان، التي لم يكن سهلاً عرض الأفلام الصامتة والأجنبية فيها دون “البينشي”، أو “المفهماتي”، وهو المسؤول عن شرح أحداث الفيلم للحاضرين، كما يقول الناقد إسلام السقا في مقال له، و”البينشي” يقرأ للجمهور الياباني العناوين الداخلية، ويتكلم على لسان الشخصيات، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، ويُلقي بعض الإضافات أحيانًا لإثراء تجربة المشاهدة.

كان هناك آلاف العاملين في هذه المهنة باليابان، حيث أسهموا في تأخير دخول الأفلام الناطقة إلى السوق اليابانية من نهاية عشرينيات القرن العشرين إلى منتصف ثلاثينياته تقريبًا، وذلك في محاولة منهم للحفاظ على مصدر رزقهم.

ظل “المفهماتي” موجوداً لفترة، نظراً لأن الكثيرين من الشعب المصري كانوا من الأميين الذين لا يقرأون أو يكتبون، لكنها انقرضت تماماً بعد صدور أول فيلم سينمائي ناطق، لتقتصر المهنة على بعض الأشخاص من الجمهور الذين يتطوعون بلا أجر لشرح الأفلام الأجنبية المترجمة للجمهور.