يعد النوع الأكثر شيوعا لخرائط المدن حاليا هو “خرائط جوجل”، والتي يتم تصويرها من أعلى حيث تبدو لقطة الكاميرا متعامدة فوق المباني تماما، وهي خرائط لا يمكن الحصول عليها إلا عبر الأقمار الصناعية، حيث تساعد تلك الخرائط الزوار الجدد لأي مدينة في التعرف على مخططها بالكامل والاتجاهات فيها، إلا أن المفاجأة أن هذا النوع من الخرائط لم يظهر فقط مع اختراع الأقمار الصناعية، حيث سبقنا إليه الفنان والمخترع الإيطالي ليناردو دافنشي قبل ما يزيد على خمسمائة عام، بخريطة لازالت تثير حيرتنا حتى الآن!
فقد استطاع دافنشي رسم خريطة تعرف حاليا بـ”خريطة دافنشي” لمدينة إيمولا الإيطالية، بتقنية رسم شبيهة بتقنيات التصوير الجوي التي تلتقطها الأقمار الصناعية، وهي خريطة رسمها في أواخر سنواته، ولكن قبل أن يبدأ في رسم لوحته الأشهر “الموناليزا”، فكيف استطاع ليوناردو أن يرسم هذه الخريطة المحيرة؟!
في عام 1502، توجه دافنشي للإقامة تحت رعاية السياسي سيزار بورجيا، وهو جنرال ورجل دولة له طموح سياسي كبير، حتى أنه كان أحد الذين ألهموا “ميكافيلي” لكتابة مؤلفه الشهير “الأمير”، حيث عمل دافنشي لدى بورجيا بوصفه مهندسا عسكريا.
وكان بورجيا الذي استطاعت قواته دخول مدينة “إيمولا” يرغب في الإحاطة بكل تفاصيلها حتى يستطيع تحصينها عسكريا، لذا قام بتكليف دافنشي برسم خريطة للمدينة تساعده في الإلمام تفاصيل “إيمولا”.
وفي سبيل رسمه لهذه الخريطة، استخدم دافنشي تقنيات مسح متطورة بالإضافة إلى خياله الفني الفذ، ليخرج خريطة شديدة الشبه وبمقاييس دقيقة كتلك التي نجدها في الخرائط التي تصورها الأقمار الصناعية على موقع جوجل إيرث.
الخريطة تعتبر حاليا خطوة إلى الأمام في تطور رسم الخرائط، حيث حولت رسم الخرائط من مجرد فن يعتمد على الإبداع والخيال، إلى وسيلة معلوماتية دقيقة تعتمد على القياس يمكن الاستفادة منها عمليا.
فقبل خريطة “إيمولا” كانت الخرائط ترسم بزوايا “عين الطائر” من أعلى ولكن ليس بمسقط رأسي، وكان راسمو الخرائط لا يلتزمون الدقة في مقاييس الأماكن ونسب المباني والشوارع وما إلى ذلك، وكان يتم التركيز على إظهار الخريطة في شكل جمالي فني أكثر منه في شكل علمي معلوماتي دقيق.
أما خريطة دافنشي فقد أظهرت تناسب شديد الدقة بين المسافات وأحجام المباني وتناسق واضح طبقا للمنظور الأفقي الذي التزمه في الرسم.
ويعتقد العلماء الذين اهتموا بتحليل “خريطة إيمولا” والبحث في كيفية قيام دافنشي برسمها، أنه استخدم بوصلة لتحديد الاتجاهات بدقة في المدينة، واتخذ من مكان محدد في المدينة نقطة ارتكاز قاس عليها قرب وبعد المسافات والمباني من تلك النقطة ليضبط القياس، وكانت هذه النقطة هي قلب المدينة، لذا فقد رسم الخريطة داخل دائرة كبيرة.
كما يعتقد البعض أيضا أنه استخدم وسيلة قياس مثل الحبال أو القياس بالخطوات لحساب مساحة المدينة الكلية، ما سهل عليه عملية رسم النسب بدقة.
ونتيجة ابتكاره وذكائه الحاد، استطاع دافنشي أن يرسم تلك الخريطة قبل مئات السنين من اختراع الأقمار الصناعية التي أثبتت صحة ودقة حساباته، حيث يمكن ملاحظة الشبه الشديد بين خريطة دافنشي وبين خرائط جوجل للمدينة ذاتها، هو شبه لا يصل إلى مرحلة التطابق بنسبة 100%، ولكنه شبه شديد كافي لإثارة ذهولنا.