سيظل اختفاء تابوت الملك المصري منكاورع، لغزا محيرا لن يحله سوى نجاح محاولات البحث عن التابوت في أعماق البحر الأبيض المتوسط، والعثور عليه، بعدما غرق مع سفينة بريطانية أثناء محاولة نقله من مصر إلى المتحف البريطاني بلندن عام 1838، ليصبح منذ ذلك التاريخ، أهم كنز غارق على مستوى العالم لم يعثر عليه حتى الآن.

رسم يوضح شكل هرم منكاورع قديما في الفترة التي اكتشفت فيها حجرة الدفن

التنقيب عن الآثار بالبارود!

في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وصل إلى مصر باحث إنجليزي يدعى “ريتشارد وليام هوارد فايس”، وهو سياسي كان عضوا في البرلمان الإنجليزي كما سبق له العمل بالجيش لفترة.

تعاون فايس مع مهندس إنجليزي آخر يدعى “جون شاي بيرينج”، لإجراء عمليات تنقيب عن الآثار المصرية في هضبة الأهرامات بالجيزة، وكانا يستخدما البارود والمتفجرات في عمليات التنقيب، وهو ما كان سببا في توجيه انتقادات حادة لأعمالهما من قبل علماء المصريات في السنين اللاحقة.

حقق “فايس” بعض الإنجازات أثناء عمليات بحثه، حيث تمكن من اكتشاف أربع غرف داخل الهرم الأكبر، أطلق عليها أسماء مجموعة من أصدقائه (ويلنجتون، نيلسون، السيدة أربوثنوت، كامبل)! وفي إحدى هذه الغرف عثر على الدليل الوحيد تقريبا الذي يربط الهرم الأكبر بالملك خوفو، حيث عثر داخل غرفة كامبل على خرطوشة منحوتة في أحد الجدران قرب السقف مكتوب عليها اسم الملك خوفو.

تعرض “فايس” للانتقادات من قبل علماء آخرين بعدما نشر كتابه عن اكتشافاته في منطقة الأهرامات، حيث اتهم بسرقة الأفكار والفرضيات العلمية التي وضعها علماء آخرون ونسبها لنفسه بعدما قام بتطبيق هذه الفرضيات على أرض الواقع.

كما اتهم بالقيام هو ومساعده “بيرينج” بتزوير العديد من الكتابات داخل الغرف الأربعة التي عثر عليها في الهرم الأكبر، بهدف إعطاء قيمة أكبر لاكتشافه، ومن بين هذه الكتابات التي زورها خرطوشة الملك خوفو التي يعتمد عليها في إثبات نسبة الهرم الأكبر إلى خوفو، -بحسبما يقول زكريا ساتشين في كتابه “stairway to heaven”- خاصة وأن هناك شبه اتفاق بين علماء المصريات أن المهندس بيرينج مساعد فايس قام بإضافة بعض الكتابات على الجدران الداخلية لهرم دهشور والتي لاتزال موجودة حتى اليوم، أي أن تهمة التزوير ثابتة بحقهما.

الإنجليزيان ريتشارد فايس (يمين) وجون بيرينج (يسار)

التابوت المتحرك

في عام 1837، أثمرت اكتشافات “فايس” عن العثور على حجرة الدفن الرئيسية داخل هرم “منكاورع”، والتي وجد داخلها تابوت من البازلت يبلغ وزنه قرابة 3 أطنان، مؤكدا أنه تابوت الملك “منكاورع” باني أصغر أهرامات الجيزة، والذي يعد الملك الخامس من ملوك الأسرة الرابعة.

كانت مقاييس التابوت الملكي تبلغ 244 سم طول و91 سم عرض و89 سم ارتفاع، ولم تكن عليه أي كتابات هيروغليفية، ولكن كان مزين بنقش شبيهة بواجهة قصر أو مبنى ملكي.

وبالقرب من حجرة الدفن، عثر “فايس” على شظايا خشبية من تابوت تحمل اسم منكاورع -موجودة حاليا في المتحف البريطاني- وهيكل عظمي جزئي لسيدة ملفوف بقطعة خماش خشن.

وأشارت الدراسات اللاحقة أن التابوت البازلتي الذي عثر عليه، كان بديلا للتابوت الأصلي الذي يعتقد أنه اختفى لأسباب مجهولة، وأن التابوت البازلتي صنع في مرحلة لاحقة وتحديدا في عهد الأسرة السادسة والعشرين (الأسرة السايسية)، فيما أرجع فحص الكربون عمر العظام التي عثر عليها في قطعة القماش الخشن إلى فترة متأخرة وتحديدا في العصر القبطي خلال القرون الميلادية الأولى، فيما لم يتم العثور على مومياء الملك نفسه.

رسم يسجل لحظة العثور على حجرة الدفن وداخلها تابوت منكاورع

تدمير بهدف الإنقاذ!

في عام 1840، نشر فايس كتابا بعنوان “عمليات فايس”، نشر فيه تفاصييل اكتشافاته في منطقة الأهرامات، وبرر فيه لماذا قرر إخراج التابوت من الهرم ونقله من مصر إلى بريطانيا بقوله “بما أن التابوت الحجري كان سيتعرض للتدمير إذا ما بقي داخل الهرم، لذا فقد قررت إرساله إلى المتحف البريطاني”، ولم يوضح لماذا اعتقد أن التابوت سيتعرض للتدمير إذا بقي داخل الهرم؟! ولكنه كان عذرا شائعا يقدمه المستكشفون الأجانب لنقل الكنوز التي يعثرون عليها خارج مصر، بمعنى آخر كانت حيلة لسرقة الآثار المصرية وتهريبها، وللأسف كانت حيلة ناجحة جدا في تلك الفترة.

عندما حاول “فايس” ومساعدوه إخراج التابوت من الهرم، وجدوا صعوبة بالغة في تنفيذ خطتهم بسبب ضيق الممر الواصل إلى حجرة الدفن، وهو ما دفعهم لتدمير وتخريب بعض الأحجار داخل الهرم لتوسيع الممر وخلق مساحة أكبر تساعد على نقل التابوت وإخراجه، وأثناء عملية النقل العشوائية تلك، تعرض التابوت لأضرار كثيرة أثناء نزعه بالقوة باستخدام البكرات، كما تم كسر غطاء التابوت لرفعه وهو ما تسبب في سقوط أجزاء عدة منه عثر عليها في حجرة الدفن وفي أماكن أخرى داخل الهرم، وهو ما لا يمكن اعتباره محاولة لإنقاذ التابوت بأي حال من الأحوال.

وأخيرا تمكنوا من انتزاع التابوت وإخراجه قبل أن يتعرض للتدمير الكامل، ليصل خارج الهرم ويتعرض لضوء الشمس لأول مرة منذ 4 آلاف وثلاثمائة عام، حيث يعتقد أنه نقل لاحقا فوق أحد المراكب النهرية داخل نهر النيل حتى وصل إلى الإسكندرية.

الممرات الضيقة داخل الهرم لم تمنع من سرقة التابوت

الرحلة الأخيرة

في الإسكندرية، قام “فايس” بتوزيع الكنوز المصرية التي ينوي نقلها إلى إنجلترا على سفينتين، وفي يوم 20 سبتمبر 1838، تحركت سفينة تجارية شراعية إنجليزية، يطلق عليها “بياتريس” من أمام شواطئ الإسكندرية وعلى ظهرها تابوت الملك المصري “منكاورع” وبعض القطع الأثرية الأخرى، في رحلة تبلغ قرابة 100 ميل بحري، في طريقها إلى ميناء ليفربول الإنجليزي بهدف إيصال التابوت إلى المتحف البريطاني، بينما تم إرسال باقي القطع الأثرية على متن سفينة أخرى.

بعد عدة أيام، وصلت السفينة “بياتريس” إلى شواطئ مالطا للتزود، وفي يوم 13 أكتوبر تحركت من مالطا في طريقها إلى ليفربول، حيث شوهدت السفينة للمرة الأخيرة، بينما يقول “فايس” في كتابه، إن السفينة بعد مغادرتها مالطا توقفت مرة أخرى في ميناء “ليجورن ليفورنو” في شمال غرب إيطاليا، قبل أن تختفي قبالة مدينة قرطاجنة في جنوب غرب إسبانيا، نتيجة عاصفة شديدة، ليستقر تابوت الملك المصري في قاع المتوسط منذ ذلك الحين وحتى الآن.

رسم ثلاثي الأبعاد لشكل التابوت حسبما وصفه فايس

البحث في قاع البحر

خلال المائة وثمانين عاما الماضية، تمت العديد من محاولات البحث عن حطام السفينة “بياتريس” بهدف انتشال تابوت منكاورع، وهي المحاولات التي باءت جميعها بالفشل حتى الآن، في ظل اختلاف كبير بين العلماء على تحديد موضع غرق السفينة بدقة والمكان الذي يمكن العثور عليها فيه في قاع البحر بعد كل هذه السنين، وهو ما أسبغ على قصة غرق التابوت الكثير من الإثارة وزادها غموضا.

فالبرغم من أن الشائع أن السفينة غرقت قبالة سواحل مدينة قرطاجنة الإسبانية، إلا أن هناك نظريات أخرى تقول إن السفينة غرقت قبالة جبل طارق على الجانب الغربي من الساحل الإسباني، فيما ترى وجهة نظر أخرى أن السفينة غرقت في خليج بسكاي شمال إسبانيا، وآخرون يقولون إنها غرقت قبالة ساحل توسكان بإيطاليا، ويرى فريق آخر أنها غرقت فور مغادرتها لميناء مالطة أي أنها تقبع بالقرب من السواحل المالطية.

تعاون لم يتم

وعلى المستوى الرسمي في مصر، فقد أعلن في عام 2008، على لسان زاهي حواس، الذي كان يشغل منصب الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار حينها، عن إجراء مباحثات بين الجانبين المصري والإسباني لبدء عمليات بحث موسعة عن السفينة باستخدام أحدث التقنيات لانتشال التابوت الغارق.

وقال حواس وقتها، إن عمليات البحث ستتم بواسطة الغواصات بعدما تم تحديد مكان غرق السفينة عن طريق المعلومات التي نشرت في الصحف الإسبانية في العام الذي غرقت فيه، كما سيتم الاستعانة بروبوت مائي هو الأحدث في مجال التنقيب والغطس ومزود بأحدث أجهزة الاتصال والاستشعار وكاميرات ديجيتال عالية التقنية لانتشال التابوت حال العثور عليه.

وكشف رئيس المجلس الأعلى للآثار وقتها، إن مصر ستستعين بكل من مكتشف الآثار المصرية الغارقة الفرنسي “فرانك جوديو”، والمستكشف الذي عثر على سفينة تايتانيك الشهيرة “بوب بيلر”، والذي يمتلك غواصة تستطيع الوصول إلى أعماق كبيرة.

وبعدما تناقلت مختلف وسائل الإعلام العالمية هذه التصريحات، وبدأ الجميع في ترقب لحظة بدء عمليات البحث، توقف كل شيء دون أسباب واضحة، ولم تتم أي عمليات بحث مشتركة بين مصر وإسبانيا، كما توقف زاهي حواس عن الحديث عن عمليات البحث وكأن شيئا لم يكن! ولم يعرف ما آلت إليه المفاوضات أو الاستعدادات.

محاولة مجهولة النتائج

وفي 28 أغسطس 2013، عاد الحديث عن محاولات البحث عن السفينة، حيث نشر الكاتب إلإنجليزي-الكندي ديفيد جيبينز، الروائي والعالم المتخصص في البحث عن الآثار الغارقة، مقالا على موقعه الشخصي، يقول فيه إن العالم جاك هوارد وفريقه المتخصص يغوصون في أعماق البحر الأبيض المتوسط بحثا عن حطام السفينة بياتريس على أمل انتشال تابوت الملك منكاورع،

وتوقع جيبينز أن يكون التابوت لايزال في حالة ممتازة كونه من البازلت، مشيرا إلى أنه أقل عرضة للتأثر بمياه البحر المالحة من التوابيت المصنوعة من الحجر الجيري، متمنيا أن يتم إعادة التابوت إلى قلب هرم منكاورع إذا ما عثر عليه يوما، إلا أنه منذ ذلك التاريخ الذي نشر فيه جيبينز مقاله، لم يتم الإعلان عن تفاصيل عمليات البحث التي قام بها فريق هوارد ولا النتيجة التي توصل إليها.

بياتريس.. السفينة الضائعة

ديفيد جيبينز، الذي يرى أن السفينة “بياتريس” هي أهم سفينة غارقة تحمل كنزا لم يعثر عليه حتى الآن، أجرى بحثا للعثور على أي تفاصيل عن السفينة ذاتها، فعثر على كثير من السفن التي كانت تحمل اسم بياتريس، إلا أنه عثر على واحدة قال إنها أقرب إلى أن تكون بياتريس التي غرقت وهي تحمل تابوت الملك منكاورع، حيث كان يملكها رجل يدعى “ويتشيلو” وقام ببنائها عام 1827 أي قبل غرقها بعشر سنوات، وكانت تقوم بنقل البضائع في المحيط الأطلسي بين كيبيك وإنجلترا بالإضافة إلى عملها داخل مياه البحر المتوسط.

وأضاف أن السفينة كانت تصنف على أنها سفينة درجة ثانية من الطبقة الأولى، وكانت تتمتع ببنيان جيد خاصة بعدما تم تعديلها لكي تستطيع حمل وتخزين الثلج، كما تم تدعيمها أكثر من مرة لتعيش فترة أطول، وهو ما لم يجد نفعا معها، كما يعتقد أنها كانت تحمل مدفع على متنها لاستخدامه حال تعرضت لأي هجوم من القراصنة الذين كانوا ينتشرون في البحر المتوسط في ذلك الوقت.

ونشر جيبينز صورة مرسومة لسفينة تدعى “بياتريس”، قائلا إنها ليست صورة السفينة الأصلية، ولكنها سفنية أخرى تحمل الاسم ذاته وكان لها نفس التصميم ولكن كان حجمها أصغر، إلا أنها تساعد على فهم شكل السفينة الأصلية.

رسمة لسفينة تدعى “بياتريس” شديدة الشبه بالسفينة الأصلية

تفاصيل غامضة

الغريب في قصة غرق السفينة “بياتريس” وعلى متنها تابوت الملك منكاورع، أن بها كثير من التفاصيل الغامضة التي لم تجد إجابة شافية لها حتى الآن، منها مثلا، أن “فايس” الذي عثر على التابوت داخل هرم منكاورع، أعد قائميتن أثناء وجوده في مصر تضم بيان بالآثار التي عثر عليها أثناء عمليات بحثه، قائمة بالقطع التي يستعد لإرسالها إلى إنجلترا وقائمة بالقطع التي تركها في مصر، ولكن المدهش أنه لم يورد ذكر التابوت في أي من القائمتين! ولا يعرف سبب واضح لذلك.

ومن الأشياء التي تثير علامات استفهام كثيرة أيضا، هو نجاة مالك السفينة من حادث الغرق بالرغم من أن الشائع هو وفاة جميع طاقم السفينة، حيث من الثابت أن المالك غادر مع السفينة من الإسكندرية في يوم 20 سبتمبر 1838، إلا أنه توفي بعد ذلك بعشرين عاما، فلماذا لم يكن على متن مركبته عندما أبحرت؟

كما أن هناك شكوك حول مصير طاقم السفينة نفسه، حيث تقول أحد النظريات إن الطاقم سبح حتى اليابسة فور تعرض السفينة للغرق، ما يعني أنها غرقت بالقرب من السواحل وليس في قلب البحر، إلا أنها نظرية لا تستند إلى أدلة قوية.

الأكثر غرابة، هو وجود نظرية تشكك في صحة رواية فايس بالعثور على التابوت من الأصل، وتقول إنه اختلق هذه القصة في كتابه لإعطاء أهمية خاصة لاكتشافاته، كما قام برسم نماذج التابوت اعتمادا على نماذج شبيهة صنعت في عصور سابقة ولاحقة لعصر منكاورع، مستندين إلى أن فايس لم يضع التابوت ضمن أي من القائمتين الذي أعدهما أثناء وجوده في مصر وقبل عودته إلى إنجلترا، ومن يعتقدون في هذه النظرية، يشير بعضهم إلى أن السفينة بياتريس تم إغراقها عمدا لإخفاء هذا السر، وبعضهم الآخر يرى أنه لم يكن هناك سفينة باسم “بياتريس” غرقت من الأساس بل إن قصة غرقها اختلقها فايس أيضا لإثبات مزاعمه وهو السبب في عدم العثور عليها حتى الآن.

وسيظل تابوت منكاورع لغزا كبيرا وحلما يسعى خلفه الكثيرون بهدف العثور على أقيم كنز غارق في العالم حتى الآن، مع العلم أنه لو عثر على السفينة بياتريس في يوم من الأيام، فسوف تثور أزمة حول ملكية هذه الكنوز وعلى رأسها التابوت، فالأمر معقد للغاية، ويتوقع أن يثير حينها أزمة قانونية دولية، فهي سفينة إنجليزية كانت تحمل أثارا مصرية مسروقة بشكل غير قانوني من قبل بريطانيين، وغرقت في المياه الأقليمية الإسبانية!