تعتبر قضية تحديد شخصية “فرعون موسى” الذي ذكر في الكتب السماوية، من بين فراعنة مصر الذين سجلت الآثار المصرية تاريخهم، أحد أكثر القضايا التاريخية جدلا حتى الآن.
وانتشرت بهذا الشأن عشرات النظريات المختلفة، إلا أن رمسيس الثاني، يظل هو الشخصية الأقرب، الذي مالت كثير من الآراء إلى كونه هو فرعون موسى المقصود.
وكانت من أكثر هذه النظريات إثارة للانتباه، النظرية التي طرحها الدكتور رشدي البدراوي، في كتابه الهام “قصص الأنبياء والتاريخ”، والذي يحاول فيه الربط بين القصص الديني وما ورد عن الأنبياء في التراث، وبين الحقائق التاريخية التي تعتمد على الأدلة الأثرية الملموسة.
ويقول الدكتور البدراوي إن السبب في إثارة هذا الجدل حول قضية فرعون موسى، هو سكوت الآثار المصرية عن قصة خروج بني إسرائيل من مصر وغرق الفرعون، مرجعا السبب في ذلك إلى أن تلك الحادثة من وجهة النظر المصرية الفرعونية لا تزيد عن كونها فرار مجموعة من العبيد، وما كانت هذه بالحادثة التي تسجل على جدران المعابد، كما أنه من غير المعقول تسجيل فشل الفرعون في منع خروج بني إسرائيل فضلا عن غرقه أثناء مطاردتهم.
ويتمسك البدراوي في كتابه، بنظريته القائلة بأن فرعون موسى هو “رمسيس الثاني”، عارضا بعض النقاط الأساسية في قصة موسى، والتي قال إن تاريخ رمسيس الثاني يستوفيها بالكامل، كما تنطبق عليه كل الأوصاف التي ذكرت عن الفرعون في القرآن والتوراة والإنجيل، وهي الأدلة التي نعرضها في السطور التالية:
تسخير بني إسرائيل
يرى البدراوي أن رمسيس الثاني هو الفرعون الوحيد الذي كان لديه دافع قوي لتسخير بني إسرائيل وإنزال العذاب بهم، والسبب في ذلك يرجع إلى ما حدث في معركة “قادش” الشهيرة.
فقد قاد رمسيس حملة لإخضاع بعض الأراضي في الشام، إلا أنه تعرض لخدعة من قبل اثنين من “العابيرو” -وهم إحدى طوائف اليهود ولاحقا أطلق لفظ العبرانيين على اليهود ككل- كادت أن تتسبب في خسارته وتكلفه حياته، وبالرغم من عدم هزيمته، إلا أنه لم يستطع الحصول على الأراضي التي خرج من أجلها، بسبب تلك الخدعة، فقام بتوقيع معاهدته الشهيرة مع الحيثيين، والتي تعتبر أول معاهدة سلام موقعة في التاريخ.
ويضيف أن بني إسرائيل كانوا يتطلعون إلى الخروج من مصر إلى “الأرض الموعودة” في فلسطين، ولم يكن أمامهم -من وجهة نظر البدراوي- إلا عقد صفقة مع ملك الحيثيين بأن يساعدوه على هزيمة الجيش المصري. فينحسر نفوذ مصر عن فلسطين وتعطى لهم.
وتوصل رمسيس الثاني إلى هذا الاستنتاج وشعر أنه قد طعن في ظهره ممن آوتهم مصر وأطعمتهم وأكرمتهم على مدى عدة قرون، لذلك، وفور عودته من المعركة، بدأت حملة ضارية من التعذيب والتنكيل ببني إسرائيل، بلغت مداها بإصدار أوامر بذبح المواليد الذكور وترك البنات، كما سخرهم في أعمال قطع الحجارة ونقلها لبناء مدينته “بررعمسيس”.
الالتقاط من النهر
إن موسى هو من بني إسرائيل. وبنو إسرائيل كانوا يقيمون في أرض جاسان شرق الدلتا، وألقي في النهر ليلتقطه آل فرعون. فيجب أن يكون موقع الالتقاط شمالي موقع الإلقاء، لأن التيار يمشي من الجنوب إلى الشمال، وهو ما يراه منطبقا على قصر رمسيس الثاني.
ففي أول حكمه كانت العاصمة في طيبة، ولكنه بعد سنوات أنشأ عاصمة جديدة سماها “بر رعمسيس”، ومكانها حاليا قرية “قنتير” بمركز فاقوس محافظة الشرقية، على مصرف بحر فاقوس الحالي والذي كان مكانه الفرع البيلوزي للنيل، وكان يقع قصر رمسيس الثاني بهذه المدينة، شمالي أرض جاسان التي كان يسكن فيها بنو إسرائيل.
وعلى هذا، يرى البدراوي، أن أم موسى وضعت طفلها في صندوق وألقته في مياه النيل، على الشاطئ المواجه ببيوت عمال بني إسرائيل في أرض جاسان، وانطلق الصندوق شمالا مع حركة المياه، تدفعه ريح خفيفة حتى دخل المجرى الذي يغذي البحيرة التي يقع على شاطئها قصر الفرعون رمسيس الثاني في عاصمته الجديد “بررعمسيس”، واحتجزت سيقان نبات البردي الصندوق في الوقت الذي كانت امرأة رمسيس الثاني “إست نفرت” جالسة قرب البحيرة ورأت الصندوق، فأمرت جواريها بإحضاره.
التوجه إلى مدين
عند فرار موسى من مصر بعد مقتل المصري، لماذا لم يذهب إلى أرض فلسطين وكان بها فلول من بقايا الهكسوس؟ كما كان بها العابيرو وهم يمتون بصلة ما إلى بني إسرائيل وكان من الطبيعي أن يلجأ إليهم. فلماذا فضل الذهاب إلى أرض مدين؟
ويجيب البدراوي في هذا الخصوص، بأنه بعدما قتل موسى الرجل المصري، وخرج من مصر هاربا، كان يعلم أن الطريق إلى فلسطين عليه حراسة مشددة فلا سبيل إلى سلوكه، وحتى لو أفلح في اجتيازه فإن يد فرعون ستطوله في فلسطين.
أما لو ذهب إلى أبعد من ذلك إلى سوريا أو أرض أمورو، فإن حليف رمسيس الثاني، ملك الحيثيين الذي وقع معه معاهدة السلام، كان سيعمل على إعادة موسى إلى مصر طبقا لبنود المعاهدة، وهو السبب الذي دفع موسى للاختباء في مكان قصي بعيدا عن أيدي فرعون وحلفاؤه، وهو أرض مدين.
فرعون ذو الأوتاد
فرعون موسى وصف في القرآن الكريم بأنه “فرعون ذو الأوتاد”، ويجب تقديم تفسير مقنع لهذا الوصف في أي نظرية تطرح حول فرعون موسى.
وفي هذا الخصوص، يقول البدراوي، بحثا عن المعنى المقصود بالوتد إن هناك رأيين، الأول أن يكون مقصود بها الأعمدة، وفي هذه الحالة ينطبق الوصف على رمسيس الثاني، كونه أكثر الفراعنة إقامة للأعمدة في المباني التي أقامها، والتي كانت منتشرة في كثير من أقاليم مصر.
وهناك رأي آخر، يرى أن الأوتاد، مقصود بها المسلات، فالمسلات تشبه الأوتاد المقلوبة، أو يمكن القول أن الأوتاد تشبه المسلات المقلوبة، وفي هذه سينطبق الوصف أيضا على رمسيس الثاني، حيث أنه بنى وحده 35 مسلة، وهو عدد أكبر من عدد المسلات التي بناها باقي فراعنة مصر مجتمعين، وبذلك حق وصفه بـ”فرعون ذو الأوتاد”.
ادعاء الألوهية
فرعون موسى ادعى الألوهية (فحشر فنادى. فقال أنا ربكم الأعلى). وهو ادعاء فعلي للألوهية. ويجب على النظرية أن تقدم إثباتا لهذا ولا يكفي أن يقال إنه نسب نفسه للآلهة. فجميع الفراعين بدءا من الأسرة الخامسة كانوا يدعون أنهم من نسل الآلهة.
ويرد البدراوي على هذه النقطة بقوله، إن رمسيس الثاني تصور نفسه “ابنا حقيقيا” للإلهة إيزيس ورضع منها فعلا، كما أظهر المصريين وهم يتعبدون له وكأنه آله، كما في لوحة “قارع الطبول”، بل وصل به الأمر أنه كان يتعبد لنفسه! إذ وضع نفسه بين آلهة وادي السبوعية، وحشر نفسه بين تماثيل الآلة داخل معبد أبو سمبل بنفس الحجم حتى تتعامد الشمس على وجه التمثال.
وفي معبد “أبي سمبل” تظهر صورة رمسيس الثاني مؤلها، برأس صقر، أي أنه في هذه الحالة يمثل إله الشمس. ومكتوب بجوارها: “رمسيس الإله الأكبر”، ويظهر في رسم آخر في صورة إنسان ولكن على رأسه قرص الشمس ومكتوب تحتها “رمسيس الإله الأكبر رب السماء”!
وتدل هذه الأمثلة، أن رمسيس الثاني قد أله نفسه أثناء حياته وبذلك يكون هو القائل: “أنا ربكم الأعلى”، والقائل “ما علمت لكم من إله غيري” وهو دليل يقوي من فرضية أن يكون رمسيس الثاني هو فرعون موسى، الذي كان شغوفا بتخليد ذكراه وتمجيد نفسه، ولذلك بنى عددا كبيرا من المعابد والقصور والمسلات والتماثيل أكثر من أي حاكم آخر سبقه.
فرعون واحد وليس اثنان
زعمت بعض النظريات، أن فرعون موسى المذكور في الكتب السماوية، ليس شخصا واحدا، بل شخصين، أحدهما شهد عملية التسخير، والثاني جاء من بعده، وهو الذي طارد موسى وغرق في النهر.
إلا أن البدراوي يرى، أن العبرة تكون أبلغ لو أن الفرعون الذي غرق يكون هو نفسه فرعون التسخير. عما إذا مات فرعون التسخير ميتة طبيعية وكان الغرق من نصيب خلفه، فإذا اتسعت حياة أحد الفراعين بحيث تشمل الأمرين معا كان في ذلك غنى عن افتراض فرعونين، وهو الأنسب.
وهو ما ينطبق على رمسيس الثاني، حيث نصب فرعونا وهو لايزال في سن المراهقة، وكان واحدا من أطول الحكام الذين جلسوا على عرش مصر طوال تاريخها، بعدما حكمها قرابة 67 عاما متواصلة، وتوفي وهو في التسعين من العمر.
وهي فترة طويلة، كافية لكي تستغرق كل الأحداث التي شهدتها قصة موسى وبني إسرائيل في مصر، ليصبح فرعون موسى شخصا واحدا فقط، هو من قام بالتسخير، وهو نفسه من طاردهم وغرق في مياه البحر خلفهم.
تدمير آثاره
يقول القرآن الكريم عن فرعون موسى (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).
ويرى البدراوي، أن معنى هذه الآية، أن الآثار التي أقامها فرعون موسى، لحق بها دمار كبير، أكثر مما لحق بأي من آثار غيره من الفراعين، وهنا، نجد تلك الآية تتناسب بشكل كبير مع ما شهدته آثار رمسيس الثاني في حياته وبعد مماته.
فقد كان رمسيس الثاني أكثر الفراعين رغبة في تخليد اسمه وذكراه، فأقام عددا هائلا من الآثار، من معابد بها مئات الأعمدة، وأقام المسلات عددا يفوق ما أقامه الفراعين مجتمعين وصنع لنفسه عددا كبيرا (حوالي 100) من التماثيل، منها حوالي 30 بالغة الضخامة، هذا بخلاف ما تحطم وما لم يستدل عليه، بخلاف مئات بل آلاف الصور والنقوش التي تمثله في عربته وحروبه أو يستعرض الأسرى أو يعاقبهم.
ويقول البدراوي، أنه لو فحصنا هذه الآثار لوجدنا معظمها قد تهدم ولم يبق منه إلا بعض قطع من الحجارة عليها اسم رمسيس الثاني لتدل على أن أثرا ما كان له في هذا المكان. ولعلها كانت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يبقى عدد قليل من هذه الآثار سليما بعض الشيء لندرك عظم ما شيد وضخامة التماثيل التي صنعها. إذ لو دمرت بالكامل لاندثر ذكره ولم يستدل عليه، حتى أن معبد أبو سمبل الكبير تعرض لدمار ملحوظ في حياة رمسيس الثاني نتيجة زلزال شديد ضرب منطقة النوبة، وبذلك ينطبق عليه وصف الآية القرآنية (ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون).
اليوم ننجيك ببدنك
يقول البدراوي أن النظرية يجب أن تتضمن تفسيرا لقوله تعالى (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية)، إذ أن لدينا مومياوات كثير من الفراعين. والآية لتمامها واكتمال الهدف منها، لابد أن تكون واضحة محددة. فأي المومياوات هي الخاصة بفرعون موسى؟ وهل فيها شيء يمكن اعتباره آية؟
وفي ربطه لهذه النقطة برمسيس الثاني، يقول، إنه بعدما غرق فرعون، أنجاه الله ببدنه، فلفظته المياه على شاطئ البحر، حيث عثر عليه رجاله الذين لحقوا به بعدما علموا بهزيمة الجيش وغرقه، وقاموا بنقل الجثة وتحنيطها ومن ثم دفنها بالطريقة الملكية.
وبعد قرابة 3 آلاف عام، عثر على جثة رمسيس الثاني عام 1881 ضمن خبيئة الدير البحري، حيث تم نقل كل محتويات الخبيئة من جميع مومياوات الفراعين والأثاث الجنائزي، إلى المتحف المصري في بولاق.
وينقل البدراوي عن خبير الآثار إبراهيم النواوي قوله إنه في عام 1902، بعد نقل مومياء رمسيس الثاني قام بفك اللفائف لإجراء الكشف الظاهري على المومياء، والذي حدث هو أن اليد اليسرى للملك رمسيس الثاني ارتفعت إلى أعلى بمجرد فك اللفائف، وهي تبدو لافتة للنظر بالنسبة لغيرها من المومياوات.
وتظهر الصور اليد اليسرى وهي مرفوعة وهو وضع غير مألوف بالنسبة للمومياوات الأخرى التي بقيت أيديهم بعد فك اللفائف مطوية في وضع متقاطع فوق صدورهم، ومما قاله أحد علماء الآثار عند مشاهدته للمومياء: عجيب أمر هذا الفرعون الذي يرفع يده وكأنه يدرأ خطرا عن نفسه!
وهو تفسير محتمل لهذا الوضع الغريب لليد اليسرى لمومياء رمسيس الثاني، التي ربما هي يده التي كان يحمل بها درعه عند الغرق وحاول رفعها ليتقي بها موجة المياه المندفعة نحو بعدما بدأت مياه البحر في الانغلاق مجددا، وكانت لطمة المياه من الشدة وقبضة يده من القوة بحيث حدث تقلص في عضلات ذراعه الأيسر وثبتت ذراعه ويده على هذا الوضع، ولما غشيته المياه وفارقته الحياة ظلت يده على هذا الوضع!
ويرجح البدراوي أنه لعل كل أجزاء جسم رمسيس الثاني ارتخت بعد مرور 20 ساعة على الوفاة إلا يده اليسرى، فقد بقيت عضلاتها في الانقباض الذي كانت عليه لحظة الغرق، ولاحظ المحنطون ذلك، فلكما وضعوا الذراع إلى جانبه وضموها إلى صدره عادت لترتفع ثانية إلى هذا الوضع، فأحكموا ربطها إلى الصدر باللفائف التي كانت تلف بها الجثة، وظلت مربوطة إلى صدره قرون وقرون، وبعد كل تلك السنين، ولما عثر على الجثة في خبيئة الدير البحري، وفور فك الأربطة عن الجثة، فقزت اليد إلى الوضع الذي تيسبت عليه لحظة الغرق وهي ممسكة بالدرع ليحمي الفرعون نفسه من لطمة موجة المياه القادمة نحوه.
ويقول إنها ظاهرة فريدة لا يوجد لا مثيل في مومياوات الفراعين الآخرين، ولم يتمكن أحد من علماء الآثار تفسيرها ولا يستطيع الطب الشرعي أن يفسر لماذا لم يحدث الارتخاء في هذه اليد بالذات بعد الوفاة، وكيف احتفظت العضلات بخاصية الانقباض أو اكتسبت خاصية مطاطية بحيث تعيد اليد إلى هذا الوضع بعد ما يزيد عن ثلاثة آلاف سنة.
ويرى أن تلك الظاهرة هي الآية المذكورة في قوله تعالى “فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية. وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون”.