في عام 2014، في غرب العراق وتحديداً في منطقة الرمادي، هجرت فاطمة خالد أرضها مُجبرة خشية على حياتها بعدما سيطر تنظيم داعش الإرهابي على المنطقة. فقدت فاطمة زوجها أثناء الحرب، لم يكن أمامها سوى ترك أرضها ومواشيهم للحفاظ على حياتها.
بعد سنوات من انسحاب داعش من المنطقة عادت فاطمة برفقة أولادها الثلاث الذين أفقدتهم الحرب أطرافهم، لاستعادة أرضها الزراعية لتجد نفسها أمام الحرب الجديدة وهي شُح المياه.
تشير التقارير إلى أن ما يصل إلى 90% من إجمالي مساحة العراق مهددة بالتصحر، وأن 45% من الأراضي الزراعية في البلاد تواجه الجفاف وتدهور الأراضي. كما أن المعدلات السريعة والمرتفعة لفقدان الحقول الصالحة للزراعة مقلقة ويمكن أن تدفع العراق إلى حافة أزمة أخرى.
يقول الخبير المختص في القضايا البيئية والتغيرات المناخية خالد سليمان، إن عدة عوامل تقف وراء هذا الوضع الحرج للتصحر ومنها تملح الأرض بسبب قلة الأمطار من جهة، ومن جهة أخرى بسبب نقص التدفق المائي من نهري دجلة والفرات وكذلك صعود اللسان الملحي نحو المناطق الجنوبية أي ليس هناك قوة كافية لدفع مياه البحر في منطقة شط العرب، وكذلك فقدان الغطاء النباتي بسبب تغير المناخ والتوسع العمراني.
تُعتبر العراق من أكثر الدول التي تعاني من أزمة مائية حادة، وفقا لأطلس مخاطر المياه التابع لمعهد الموارد العالمية ومقره واشنطن العاصمة، فإن العراق من الدول التي تعاني من إجهاد مائي تصنيفه عالي إذ يصل لـ 3.13. إذ يصل نصيب الفرد من المياه إلى 4.427 لتر/يوم عام 2015، لتمثل انخفاض أكبر من خمسة لتر عن عام 2014 الذي وصل حصة الفرد الواحد من المياه الصالحة للشرب مـــن 9.466 لتر/ يوم، وذلك وفقا لتقرير خطة التنمية العراقية.
وفقا للمعهد الوطني للشئون الدولية (Chatham House)، فإن العراق كانت من الدول ذات الوضع الجيد فيما يتعلق بالمياه بسبب نهري دجلة والفرات حتى عام 1970. لكن بعد ذلك العام، فقدت البلاد حوالي 40% من مياهها.
كان هذا بسبب السياسات المتبعة في دول الجوار (خاصة تركيا) تجاه العراق، كما كان لارتفاع درجات الحرارة وانخفاض معدلات هطول الأمطار أثر خطير على خزانات العراق التي يتبخر منها حوالي 8 مليارات متر مكعب من المياه يومياً.
تدفع فاطمة ومثيلاتها أعباء التغيرات المناخية في العراق، إضافة إلى السياسات المتبعة من دول الجوار المتمثلة في تركيا وإيران، إذ يقومون بقطع تدفق المياه من نهري دجلة والفرات القادمة إلى العراق ثاني أطول نهر في جنوب غرب آسيا. فاطمة التي دفعت ثمناً غاليا للحرب بخسارة زوجها، تدفع ثمن أكبر بتصحر أرضها وموت مواشيها بسبب ملوحة المياه، لا تجد دخلا آخر تنفق به على أطفالها الذين فقدوا أطرافهم في الحرب.
عام 2020 تناقص الإيراد السنوي لنھر دجلة والذي يمثل كمية المياه الواردة الى العراق عند الحدود التركية إلى 11.44 مليار متر مكعب من المياه، بعدما كان 31.29 مليار متر مكعب في 2019.
وكذلك تناقص إجمالي كمية المياه الواردة من روافد نهر دجلة وهم (الزاب الاسفل والزاب الأعلى والزاب العظيم وديالي) إلى أكثر من النصف عام 2020، حيث وصل إجمالي المياه الواردة إلى 29.39 مليار متر مكعب من المياه بعدما كان 76.52 في 2019.
كل ما نزرعه يموت هكذا يصف مهيب أحمد المشهد في مدينة البصرة بالعراق، يعيش مهيب ورفاقه على الزراعة، لا مهنة لهم غيرها ولكن في السنوات الأخيرة تحولت أرضهم لصحراء قاحلة تماماً وفقدوا قدرتهم على إعطاء مصروفات العائلة. نزح مهيب واخواته مثلهم مثل كثير من العراقيين إلى المدينة بحثاً عن أي وظيفة تؤمن قوت عائلاتهم.
الحال لا يختلف في منطقة الجبايش، شرق مدينة الناصرية بالعراق، إذ يضطر خالد كنعان للنزوح كل 4 أشهر بحثاً عن المياه الصالحة للشرب لمواشيه الأربع التي تمثل ثروته الوحيدة. سبق وفقد خالد واحدة من خرافه بسبب المياه ذات الملوحة العالية.
يفاقم المشكلة في العراق هو تذبذب كمية الأمطار التي تسقط على عموم المحافظات العراقية وارتفاع درجات الحرارة التي تصل إلى مستويات قياسية؛ حيث شهد العام الماضي أعلى درجة حرارة في بغداد بلغت 52 درجة مئوية. ارتفع متوسط درجة الحرارة السنوية بمقدار 1-2 درجة مئوية بين عامي 1970 و2004، مما أدى إلى تفاقم حالات الجفاف. وفقًا للحكومة العراقية، أصبح متوسط هطول الأمطار السنوي أقل قابلية للتنبؤ به منذ سبعينيات القرن الماضي وانخفض بنسبة 10% في العشرين عامًا الماضية على مدى العقود الثلاثة الماضية.
يقدر العلماء تراجع هطول الأمطار بنسبة 25% في العراق بحلول عام 2050، مما سيزيد من حدة التصحر وندرة المياه. تسبب ارتفاع درجة الحرارة أيضًا في زيادة التبخر، مما قلل من مستويات المياه المتاحة بشكل أكبر.
وفقا لتقرير خطة التنمية الوطنية العراقية فإن حوالي 4095377 دونم من الأراضي العراقية مهددة بالتصحر، أكثرها في محافظة نينوى وحدها بحوالي 33851 دونم.
وتبلغ مساحة الأراضي الصحراوية بالفعل 507675 دونم، والأراضي المتملحة حوالي 50378 دونم، والكثبان الرملية حوالي 5147 دونم، والأراضي المتصحرة بالفعل حوالي 60852 دونم.
يقول الخبير المختص في القضايا البيئية والتغيرات المناخية خالد سليمان، التصحر سوف يؤثر على حياة الفلاحين ومربي الماشية لأن لن يتبقى أي شئ من المواد الطبيعية أو المياه. يبرهن ذلك على أن مربي الماشية، إذا افتقدت مناطقهم لغذاء الحيوانات، فإنهم يبيعون الحيوانات ويتجهون للمدن وبالفعل في العراق حاليا ظهرت الهجرة الريفية إلى المدن بسبب قلة المياه وقلة المراعي، وبسبب ارتفاع درجات الحرارة.
أفادت منظمة الهجرة الدولية التابعة للأمم المتحدة في عام 2019 أن 21،314 عراقياً نزحوا داخلياً في محافظات العراق الجنوبية والوسطى بسبب نقص المياه الصالحة للشرب. وبالرغم من أن الزراعة تساهم بأقل من 5% من الإجمالي منتج محلي، يعمل بها ما يقرب من ثلث العراقيين الذين يعيشون في المناطق الريفية ويعتمدون على الزراعة.
يتسبب الضغط على المياه والتصحر في الصراع بين القبائل في المحافظات الجنوبية مثل ميسان وذي قار. كما أن تكرار الجفاف، هو بالفعل المحرك الرئيسي للصراع المحلي حيث أفادت الأمم المتحدة في عام 2013 أنه تم تسجيل حوادث مواجهات شبه يومية، بما في ذلك الاشتباكات أو المرافعات الكلامية، في 38 موقعًا في بغداد وحدها. وكانت هناك صراعات على المياه بين العرب والأكراد والتركمان في كركوك.
يرى سليمان أن الحلول تكمن في سياسات بيئية حديثة، فيما يخص الري ومصادرة المياه، وإعادة تشجير المناطق التي يغطيها التصحر ولا يغطيها الغطاء النباتي، و إدارة الأحواض المائية والري بشكل حديث، ناهيك عن إجراء اتفاقات إقليمية مع كل من سوريا وتركيا باعتبارهم دول المنبع (نهري دجلة والفرات).
يتشارك فلاحو سوريا، مآسي فلاحي العراق بسبب التصحر والتغيرات المناخية الشديدة التي تصيب البلاد.
عندما تحول الحرب الفائض إلى عجز!
في محافظة الحسكة الواقعة تحت سيطرة الإدارة الكردية، شمال شرق سوريا، يشكو عبد الباقي محصول القمح هذا العام، فاعتاد في السنوات السابقة أن يدير حياته العائلية بعوائد بيع المحصول، أما هذا العام لم ينمو المحصول من الأساس بسبب الجفاف وعدم وجود مياه لريه.
عبد الباقي ليس الوحيد، حيث أكدت البيانات الصادرة عن وزارة الزراعة والإصلاح السورية تراجع إنتاج القمح في البلاد حيث بلغ 900 ألف طن، بينما تقدر الحاجة المحلية بمليوني طن.
يقول د.رياض قره فلاح، أستاذ بقسم الجغرافيا بجامعة تشرين السورية، إن الأمن الغذائي في سوريا تراجع نتيجة اتساع الفجوة بين الإنتاج المحلي والاحتياجات الغذائية الداخلية.
يضيف أستاذ الجغرافيا أنه بسبب التصحر الناجم عن تغير الأحوال الجوية نحو الجفاف وتراجع الأمطار التراكمية وظروف الحرب، وكان القمح أبرز الزراعات المتضررة حيث انقرضت تسعة أصناف من القمح السوري المرغوب عالميًا حيث تتركز الزراعات الكبيرة مثل القمح والشعير في أرياف حلب ودرعا والحسكة ودير الزور، ومنعت ظروف الحرب أي فرص لبقاء هذه الزراعات أو استمرارها، وأصبحت المساحات الشاسعة الخصبة قاحلة، كما قامت القوى الخارجية الموجودة في المناطق الشرقية بحرق حجم كبير من المواسم الزراعية والأراضي المزروعة بالقمح، واستمرار ظروف الجفاف والحرب سيساهم في تفاقم المشكلة من حيث نقص الغذاء وارتفاع الأسعار.
ووفقاً للأمم المتحدة، فإن 80 بالمائة من الأراضي السورية معرضة للتصحر، حيث تشكل البادية 55% من مساحة سوريا وهي تعد مناطق جافة يقل معدل الهطول فيها عن 200 ملم.
يرى أستاذ الجغرافيا أن أهم أسباب التصحر في البادية السورية هو الرعي الجائر والمبكر والنوعي لبعض الأشجار والتعدي على الأشجار وقطعها بغرض التحطيب، وكذلك إزالة الغابات التي تعمل على تماسك تربة الأرض.
يضيف على تلك الأسباب د.رياض فلاح تكرار هبوب العواصف الغبارية بسبب ظروف الجفاف -خصوصا الصيف الماضي- وبعضها صنف شديد الخطورة، حيث بلغ عدد الأيام التي يرتفع فيها الغبار أكثر من 115 يوما في السنة وهذا يؤدي إلى امتداد وهجوم الرمال على الأراضي المعتمدة على الري المطري وهي الأكثر حساسية للانجراف، مما يساهم في توسيع مساحة الأراضي المغطاة بالرمال على حساب مساحة المراعي، وبالتالي انخفاض القدرة الإنتاجية للمراعي الطبيعية والغطاء النباتي إلى أقل من 32 كيلوغراماً للهكتار في المواقع المتدهورة، في حين أنها تصل في المراعي الجيدة إلى أكثر من 500 كيلوجرام. من الأسباب الأخرى من ضغط الحيوانات والآليات وبالتالي تفكيك التربة.
أثر كل ذلك سلباً على المزارعين، حيث يعاني قرابة مليون شخص معظمهم من الرعاة وصغار المزارعين من الفقر والجفاف، فتبعا للأمم المتحدة فإن نحو 59 ألفا من صغار المزارعين خسروا غالبية قطعانهم في حين خسر 47 ألف مزارع ما بين 50 و60% من ماشيتهم.
وبسبب افتقار موسم حصاد العام 2018 – 2019 بشدة إلى مياه الأمطار، نتج عن ذلك تراجع متوسط إنتاج المحاصيل بشكل ملحوظ سواء في المناطق التي تخضع للري أو في تلك التي تعول على مياه الأمطار، وهذا ساهم في فقد بعض المزارعين مصدر رزقهم لاعتمادهم على الزراعة كمصدر وحيد للدخل مما أدى نزوح آلاف الفلاحين إلى المدن وترك الأراضي الزراعية بسبب الجفاف.
يقول د. رياض فلاح، إن الحرب لم تساهم في تهجير الناس فقط بل أتت على الغابات بالحرق والقطع وإتلاف الأشجار المثمرة، وهذا ما هدد المناطق التي كانت خضراء بالتصحّر، وهو عبء يتطلب جهدا ووقتا لتلافيه، وتعرضت الثروة النباتية في سورية خلال سنوات الحرب لخسائر جسيمة طالت الملايين من الأشجار الحراجية والمثمرة، ولعل أسوأ ما تعرضت له هو الحرائق التي اندلعت نهاية العام الماضي، وكانت الأسوأ في تاريخ سوريا حيث احترقت أكثر من مليوني شجرة.
اختلفت الأضرار التي تعرضت لها الثروة النباتية في سوريا من الحرائق إلى القطع الجائر، إلى النزوح وغياب مصادر المياه، إلى هجرة أصحاب تلك الأشجار بسبب الحرب، ولكن الأكيد يدفع ثمن كل ذلك هو الإنسان.
هذا التقرير بدعم من مؤسسة Climate Tracker