إن معرفة عدد الأشخاص الذين عاشوا في مصر القديمة قبل آلاف السنين، ومتوسط تعداد سكان الدولة التي شكلت أقدم حضارة في التاريخ، ليس بالمهمة السهلة على الإطلاق؛ فبالرغم من التنظيم الإداري الذي كانت تتبعه الدولة في ذلك الوقت وكم الوثائق والكتابات الغنية التي وصلتنا وكشفت لنا الكثير من جوانب الحياة، إلا أن المسؤولين المصريين في ذلك العهد البعيد، لم يتركوا لنا شيئا محددا يمكن أن يخبرنا عن تعداد الأشخاص الذين عاشوا في وادي النيل والدلتا، ولا حتى تعداد أي من المدن والمراكز السكانية الرئيسية بشكل دقيق.

وهو يستتبع البحث عن تعداد سكان مصر من خلال كتابات المؤرخين والتقديرات التي تعتمد على معلومات غير مباشرة لا تتناول تعداد السكان بشكل مقصود ولكنها تقدم لنا لمحة تقديرية لهذا التعداد.

المؤرخون القدامى

أوضح إشارات عن حجم تعداد سكان مصر في زمن الفراعنة، نجدها في كتابات المؤرخين القدامى، الذين كتبوا عن مصر قبل الميلاد وبعده بسنوات قليلة، مثل ديودور الصقلي وهيرودوت والمؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس.

حيث يقول ديودور الصقلي الذي عاش في القرن الأول الميلادي، في موسوعته “خزانة التاريخ”، إن عهد الملك أحمس الأول كان عهد ازدهار لم يسبق له مثيل في مصر، “حيث قدم نهر النيل خيراته للأرض فقدمت الأرض خيراتها لشعب مصر”، مشيرا إلى أن عدد المدن والقرى المأهولة في مصر خلال ذلك الوقت بلغ 20 ألف قرية ومدينة.

ويقول الصقلي في موضع آخر بموسوعته، إن الكثافة السكانية في مصر بشكل عام، كانت الأكبر في جميع مناطق العالم القديم المعروفة، مشيرا إلى أن عدد القرى والمدن تجاوز الـ18 ألف مدينة وقرية، وظل هذا العدد في ازدياد حتى وصل إلى 30 ألف مدينة وقرية في عهد بطليموس الأول، ناسبا إلى بعض الآراء قولها بأن تعداد السكان في مصر وصل إلى 7 ملايين نسمة.

أما المؤرخ يوسيفوس فلافيوس فيقول في كتابه “حروب يهودا”، إن عائدات الضرائب التي كانت يتم جمعها من مختلف أنحاء مصر التي كانت تمتد حدودها حتى أثيوبيا، تكشف أن تعداد سكانها يصل إلى 7.5 مليون نسمة، بخلاف سكان الإسكندرية.

بناء على هذه التقديرات، يمكن القول أن عدد القرى والمدن التي كانت مأهولة بالسكان في مصر القديمة بلغ حوالي من 20 إلى 30 ألف قرية، خلال الفترة من الأسرة السادسة والعشرين إلى العصر البطلمي، وكان متوسط تعداد السكان حينها ما بين 7 إلى 7.5 مليون نسمة (بخلاف سكان الإسكندرية).

أما فيما يتعلق بأعداد السكان قبل هذه الفترة، وبالتحديد في عصر رمسيس الثاني، أو أبعد في عصر خوفو أو في عهد مينا، فإن عملية التقدير تواجهها مشكلات عديدة.

جدارية مصرية قديمة
جدارية من مقبرة رخميرع، وزير الملك تحتمس الثالث

معادلة الأراضي الزراعية

لقد حاول الجغرافي الأمريكي كارل بوتزر (Karl Butzer) وضع فرضية لمعرفة تعداد السكان في مصر القديمة استنادا إلى بعض الشواهد الأثرية التي لاتزال موجودة حتى الآن، وهي فرضية يستخدمها حاليا الكثيرون في الإشارة إلى تعداد سكان مصر في حقب ما قبل الميلاد.

وتستند هذه الفرضية إلى حساب المساحة الإجمالية المحتملة للأراضي القابلة للزراعة في ثلاث مناطق رئيسية هي الوادي والدلتا والفيوم، ثم حساب حجم الأيدي العاملة التي تحتاجها هذه الأرض حتى تتم زراعتها ورعايتها بشكل دائم، ومن خلال تلك المعادلة يمكن حساب العدد التقريبي لسكان مصر.

باستخدام هذه الفرضية، التي لا يمكن إنكار اعتمادها على بعض التخمينات، خاصة فيما يتعلق بالمساحة الصالحة للزراعة وحجم الأيدي العاملة المطلوبة، فإن نتائجها سوف تكون كالتالي:

في عام 4000 قبل الميلاد، كان حجم الأراضي الزراعية في كل من وادي النيل والدلتا متساويا تقريبا، والذي يقدر بـ8 آلاف كيلو متر مربع، مع الإشارة إلى أن سكان الدلتا كانوا أكثر كثافة من سكان الوادي، أما في الفيوم فقد كانت حجم الأراضي القابلة للزراعة أقل بكثير حيث لم تتجاوز الـ100 كيلو متر مربع، وعلى هذا الأساس يصبح إجمالي سكان مصر في هذه الفترة تقريبا قرابة 350 ألف نسمة.

أما في عام 3000 قبل الميلاد، فلم يكن هناك تغير كبير في مساحة الأراضي الزراعية، إلا أن الكثافة السكانية كانت أعلى في جميع المناطق مما كانت عليه قبل ألف عام، لذا يعتقد طبقا لفرضية كارل بوتزر، أن إجمالي عدد السكان في تلك الفترة وصل إلى 870 ألف نسمة.

بعض الفرضيات وضعت تقديرا لعدد سكان مصر القديمة قياسا على مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في كل عصر

بعد التاريخ السابق بحوالي 500 عام تقريبا، أي في عام 2500 قبل الميلاد (الدولة القديمة المتأخرة) شهدت الأراضي الزراعية في الدلتا زيادة أوصلتها إلى 9 آلاف كيلو متر مربع، وهو ما انعكس على الكثافة السكانية التي زادت في جميع المناطق، ليصل إجمالها إلى 1.6 مليون نسمة.

في عام 1800 قبل الميلاد، (بداية الدولة الوسطى) أدت الجهود الزراعية التي قام بها ملوك الدولة الوسطى إلى زيادة كبيرة في مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، وهو ما تسبب بالتبعية في حدوث ارتفاع في أعداد السكان، التي وصلت إلى قرابة 2 مليون نسمة، وفي عام 1250 قبل الميلاد (عهد رمسيس الثاني، الدولة الحديثة) وصلت مساحة الأراضي الزراعية إلى 10 آلاف كيلو متر مربع، واقترب بالتالي عدد السكان إلى 2.9 مليون نسمة.

أما في عام 150 قبل الميلاد (عصر البطالمة) فقد شهدت الأراضي الزراعية في مصر زيادة كبيرة، حيث بلغت مساحة أراضي الدلتا الزراعية 16 ألف كيلو متر مربع، والفيوم 1300 كيلو متر، وهو ما تسبب في حدوث زيادة ضخمة في عدد السكان، جعلته يصل إلى 4.9 مليون نسمة.

معادلة سكان المدن

طريقة أخرى تلم اللجوء إليها لحساب عدد السكان في مصر القديمة، وهي طريقة تعتمد على عدد التجمعات السكانية الرئيسية (المدن) حيث يوضع افتراض تقريبي لعدد السكان في كل مدينة بناء على مساحتها، ثم يضرب هذا الرقم في العدد الإجمالي للمدن.

وتعتمد الطريقة السابقة في تحديد عدد المدن ومساحتها وعدد المقيمين فيها، على نتائج أول تعداد سكاني أجري في مصر، كبداية يمكن الانطلاق منها، وهو التعداد الذي أجري في عام 1882، بافتراض أن عدد المدن في مصر خلال عام 1882 لم يكن يختلف كثيرا عن عددها في مصر القديمة، إلا أن المشكلة كانت تكمن في الكثافة السكانية التي كانت قطعا مختلفة بين الزمنين.

فرضيات أخرى حاولت تقدير أعداد سكان المدن فقط، قياسا على مساحة كل مدينة

ففي عام 1882 كانت هناك ست مدن مصرية ذات كثافة سكانية تصل إلى 3 آلاف نسمة لكل هكتار (2.38 فدان) وهي نسبة كثافة على الأرجح مرتفعة للغاية بالنسبة لتعداد السكان في مصر القديمة، حيث يعتقد بوتزر أن الكثافة السكانية في مدينة ممفيس مثلا خلال عصور مصر القديمة، لم تكن تتجاوز الـ200 فرد لكل هكتار.

في كل الأحوال، تصل تلك الطريقة إلى نتيجة مفادها أن سكان المدن -الحضر- في مصر القديمة كانت تتراوح أعدادهم ما بين 35 إلى 40 ألف نسمة في الدولة القديمة، ويرتفع هذا الرقم إلى 500 ألف نسمة في عهد رمسيس الثاني، وحوالي مليون نسمة في عصر البطالمة.

وبمقارنة هذا الرقم لسكان الحضر، مع الرقم الإجمالي لسكان مصر الذي اقترحه ديودور الصقلي، سنجد مثلا أن في عهد البطالمة كان سكان الحضر مليون نسمة، والإجمالي 7 مليون نسمة، أي بنسبة 1: 7، ولو طبقا هذه النسبة على باقي العصور، سنجد مثلا أن تعداد السكان الإجمالي في مصر في عهد رمسيس الثاني كان يتراوح ما بين 3 إلى 3.5 مليون مصري.

[نقلا عن كتاب The Complete Cities of Ancient Egypt للباحث Steven Snape، الصادر عام 2014]