المشهد الأول: جلست السيدة الأديبة على منصة صغيرة وُضعت لها في إحدى المكتبات الكبرى بالقاهرة لمناقشة عملها الروائي الأخير. كان بعنوان “الطنطورية”. تقاسيم وجهها كما لو كنت تعرفها منذ زمن طويل.

عرفناها في الأثر القريب، كمثقفة ومناضلة في فترة السبعينات، عندما كانت تدافع عن حق الفلسطينين في الدعم العربي، قبل وبعد معاهدة السلام التي أجرتها مصر مع إسرائيل. عرفناها أديبة تكتب الرواية كما لو كانت ترسم بكلماتها معاناة كثير ممن افتقدوا إلى الصوت المسموع. تلجأ للتاريخ للحديث عن الحاضر. وتستزيد في قراءة الحاضر لاستشراف المستقبل.

تحدثت السيدة يومها عن حياتها البسيطة. وعن روايتها الجديدة. وعن أعمالها المتفرقة. تحدثت بابتسامتها المعتادة عن الحياة والمستقبل، وعن قراءة حالمة للواقع العربي، أو كما وصفت للواقع العربي كما تود أن تراه.

المشهد الثاني: ميدان التحرير هو المكان. والزمان، أثناء ثورة 25 يناير من العام 2011. أسرة مكونة من ثلاثة أفراد. يحملون العلم المصري، يهتفون مع الهاتفين. يستمعون جملة من كل منصة. قليلون فقط ممن كانوا في الميدان يعرفونهم، بالكاد البعض يعرف الشاب الصغير ذو اللحية الخفيفة والشعر المرسل، من خلال برنامج أو اثنين ظهر فيها وكان يقول الشعر.

الرجل العجوز، يبدو مستمعاً جيداً لكل ما يُقال في الميدان، وكأنه كان يخشى ما حدث في الأيام التالية.

أما السيدة، فكانت السيدة التي جلست في المشهد الأول لتتحدث عن روايتها الجديدة. لكنها وقتها كانت تكتفي بتوزيع ابتسامتها على الحاضرين والشد من أزرهم. لكنها كانت تبادل من يعرفونها سلاماً حاراً وجملاً حماسية حول مفهوم الوطن وعشقه وقيمته.

المشهد الثالث: ربما يكون الزمن توقف عندما بثت المواقع الإخبارية نبأ وفاة السيدة رضوى عاشور في 30 من نوفمبر في العام 2014. وقتها تسابق الكثيرون في رثائها، وظل زوجها الشاعر الفلسطيني الكبير مريد البرغوثي صامتاً، وكذلك ابنها مُريد.

الموت غيب رضوى وكأنه غيب مشروعاً كبيراً من الحياة والحب والأمل. غيبها الموت قسراً عن محبيها ومريديها. تذكر الجميع وقتها “ثلاثية غرناطة”، تذكروا “حجر دافيء” و”رأيت النخل” وغيرها.

المشهد الرابع: مرت سنوات لتبقى رضوى عاشور حاضرة في المشهد بشكل أو بآخر. حاضرة بأعمالها أو بتذكر زوجها وابنها ومحبيها لها.

في يونيو من العام 2015، أي بعد وفاتها بأشهر قليلة، أقيم في القاهرة حفل توقيع لآخر كتاب لها، والذى حمل عنوان “الصرخة”، إحياءً لذكرى ميلادها، حيث اكتظت القاعة بالحاضرين، كما لو كانت رضوى عاشور حاضرة.

في هذا اليوم رثاها زوجها بقصيدة أسماها “رضوى”، فقال في جزءٍ منها:

يا زوجتى الغائبة

بعيداً أتوهم في ليلي أن النوم عميق

لكني أستيقظ كل صباح عند الفجر

فتطل مع الفجر قصيدة

تسألنى عنكِ

لا أبكي

أذهب لحظات لسريرك

تستيقظ منه قصيدة

وتقول “صباح الخير”

أما تميم، فلم يجد كذلك سوى الشعر ليتحدث عنها به، وبدأ بقصيدة “الكون قفل فجأة”، فقال:

رضوى عاشور إقتراح بوجود بشر أحسن

بسمتها بتقول يا ناس

جربتها وأمكن

لو يخذلوها أشوف

وش الصباح يحزن

وابوس إيديها أشوف

إيد الصباح تنباس

المشهد الخامس: يوم 26 مايو 2018، استيقظ رواد التكنولوجيا في الوطن العربي على صورة لرضوى عاشور في الصفحة الرئيسية لمحرك “جوجل”، احتفالاً بعيد ميلادها الـ 72، فكتب زوجها مريد البرغوثي على صفحته في موقع التواصل “فيسبوك” قائلاً “تصميم جول احتفاءً بعيد ميلاد رضوى عاشور اليوم جميل، البناء خلفها بناء الروايات التي كتبتها، الشجرة في القوس الأول من اليسار تشير إلى شخصية شجر من رواية أطياف، والرمان في القوس الثاني إلى ثلاثية غرناطة (وغرناطة تعني الرمانة)، والبلدة البحرية في القوس الثالث هي الطنطورة، إشارة إلى روايتها الفلسطينية الطنطورية، والنخلة في القوس الرابع إشارة إلى مجموعتها القصصية رأيت النخل، وصورتها ممسكة الكتاب كأيقونة في الوسط يحول البناء كله إلى بناء مقدس. لهم الشكر والمحبة، ولها ما لا يحيط به كلامي ولا عمري كله”.

عن رضوى

ولدت رضوى عاشور في العام 1946، ودرست اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وبعد حصولها على شهادة الماجستير في الأدب المقارن، من نفس الجامعة، انتقلت إلى الولايات المتحدة حيث نالت شهادة الدكتوراه من جامعة ماساتشوستس، بأطروحة حول الأدب الأفريقي الأمريكي.

وفي 1977، نشرت أول أعمالها النقدية، “الطريق إلى الخيمة الأخرى”، حول التجربة الأدبية لغسان كنفاني، وفي 1978، صدر لها بالإنجليزية كتاب “جبران وبليك”، وهي الدراسة النقدية التي شكلت أطروحتها لنيل شهادة الماجستير سنة 1972.

وفي 1980، صدر لها آخر عمل نقدى قبل أن تلج مجالي الرواية والقصة، والمعنون بـ”التابع ينهض”، حول التجارب الأدبية لغرب إفريقيا.

كانت أول أعمالها الإبداعية “أيام طالبة مصرية في أمريكا” في العام 1983، أتبعتها بإصدار ثلاث روايات منها “حجر دافئ”، والمجموعة القصصية “رأيت النخل”، وتوجت هذه المرحلة بإصدارها لروايتها التاريخية “ثلاثية غرناطة”، سنة 1994، والتي حازت، بفضلها، على جائزة أفضل كتاب لسنة 1994 على هامش معرض القاهرة الدولى للكتاب.

وفي 2007، توجت بجائزة قسطنطين كفافيس الدولية للأدب، ولكن بين كل أعمالها يظل كتاب “أثقل من رضوى” ذا طابع خاص، نظراً لكونه مقاطعاً من سيرتها الذاتية.