الحفاظ على هوية الشعوب وحمايتها من غزو الثقافات الأخرى، أصبح كالقبض على الجمر، إلا أن هناك مدينة عربية استطاعت التمسك بهويتها والحفاظ على لغتها العربية الفصحى حتى وقت قريب.
فعلى بعد حوالي 233 كم من العاصمة اليمنية صنعاء، احتفظت مدينة “زُبيد” بهويتها العربية الأصيلة، وظل سكانها يتحدثون اللغة العربية الفصحى، في الوقت الذي اختلطت فيه ألسنة الشعوب واندمجت الثقافة الغربية والشرقية معا، لتعد هذه القبيلة بمثابة آخر القبائل الناطقة بالفصحى.
واستعان أهل مدينة “زُبيد” التاريخية بعادة غريبة مع ضيوفهم، وهي التي ساعدتهم في الحفاظ على لغتهم الفصيحة، فكان الغريب الذي ينزل ببلدهم لا يسمحون له بالمكوث بينهم أكثر من ثلاث ليالٍ حتى لا يؤثر على لغتهم.
وقد ذكر الرافعي في “تاريخ آداب العرب”، أن أهل المدينة باقون على اللغة العربية من الجاهلية إلى اليوم الذي دون فيه كتابه، لافتًا إلى أن لغتهم لم تتغير بحكم أنهم لم يختلطوا بغيرهم من الحاضرة، واصفًا أهل المدينة بأنهم “أهل قرار لا يظعنون عنه ولا يخرجون منه”.
وفي قاموس مجد الدين بن يعقوب الفيروزابادي المتوفى بمدينة زبيد سنة 817هـ/ 1415م، ذكر أن هناك جبل باليمن اسمه “عكاد” قرب مدينة زُبيد وأن وأهله باقية على اللغة الفصيحة.
وقد زاد شرح الفيروزابادي، مرتضى الزبيدي الذي أقام بمدينة زبيد مدة طويلة فعرف بهذا اللقب، وتوفى سنة 1205ه، فقال إن أهل المدينة لا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليال خوفا على لسانهم.
وكانت مدينة “زُبيد” عاصمة اليمن من القرن الثالث عشر إلى القرن الخامس عشر، واتسمت بأهمية جمة في العالم العربي والإسلامي طيلة قرون من الزمن بفضل جامعتها الإسلامية.
وساكنوها ينتمون إلي قبيلة الأشاعر قوم الصحابي أبي موسى الأشعري الذي وفد على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، ثم خرج إلى قومه في تهامة في السنة العاشرة من الهجرة، ودعاهم إلي الإسلام فأسلموا وبني لهم جـامع الأشاعر نسبة إلي القبيلة فكان أول مسجد يبني في تهامة، وثالث مسجد يبني في اليمن بعد جامعي الجامع الكبير بصنعاء وجامع الجند في محافظة تعز.
وتعتبر مدينة زبيد من أشهر المراكز الفكرية العالمية ليس في اليمن فحسب بل على مستوى العالم الإسلامي، فالمدينة تضم حوالي 85 مدرسة علمية إسلامية كانت تضم كافة المدارس الفكرية والدينية التي تمثل المذاهب الإسلامية المختلفة.
ولا تزال بعض تلك المدارس موجودة بمسمياتها الحقيقة، ولا تزال المكتبات الخاصة بزبيد تضم دوراً من المخطوطات النادرة وأمهات الكتب في مختلف العلوم، وعبر تاريخها الطويل أبرزت فطاحل العلماء.