هل سألت نفسك يوما، أين يوجد قبر شيخ المؤرخين المصريين، تقي الدين المقريزي؟ هل فكرت يوما في التوجه لزيارة هذا القبر وقراءة الفاتحة على روح الرجل الذي حفظت لنا كتاباته أحوال مصر الإسلامية وباتت مصدرنا الأول في معرفة تاريخ قاهرة الدنيا وحسناء الزمان؟!

إن كنت فكرت في ذلك فعلا، فيؤسفني أن أصدمك، وأخبرك أنه لم يعد هناك قبر للمقريزي كي تتوجه لزيارته، بل الأسوأ، أنه لم يعد هناك جثمان من الأساس حتى يكون هناك قبر، بعدما داس بلدوزر الجهل رفات هذا المؤرخ الجليل وبدده كأن لم يكن!

الإعداد للجريمة

في عام 1999، لم تكن مواقع التواصل الاجتماعي قد ظهرت بعد، حتى يتم تنظيم حملة لمواجهة كارثة تاريخية وثقافية وإنسانية، كان يستعد مسؤولو محافظة القاهرة حينها للإقدام عليها.

ففي هذا العام، كثرت الأقاويل حول نية المحافظة، إزالة مساحات واسعة من ترب باب النصر، المواجهة لسور القاهرة الشمالي، لتوسيع الطريق الرابط بين الدراسة وباب الشعرية، عبر شارع البنهاوي وامتداده بشارع جلال، وربطهما بشارع المنصورية، لتسهيل حركة المرور، وبدأت الجرافات تتحرك داخل الشارع وتقوم بتوسعته على استحياء.

وبعد عدة أشهر، خرجت بعض الأصوات التي لم يلتفت لها أحد، كتبت مقالة هنا، وتقرير هناك، للتحذير من كارثة، ستترك أثرا في جبين القاهرة لا يمحى، وهو أن توسعة الشارع بالطريقة المعلن عنها، تعني حتما إزالة “حوش الصوفية”، والذي يحوي جثامين عددا كبيرا من المتصوفة والزهاد، إلى جوار 14 عالما من أعلام الصوفية‏ والفقه والحديث والتفسير والتاريخ والاجتماع، تركوا بصماتهم على مر التاريخ المصري، أشهرهم على الإطلاق تقي الدين المقريزي وعبدالرحمن بن خلدون رائد علم الاجتماع!

دراسة تاريخية

وفي شهر أبريل من عام 2001، خرجت الكاتبة الصحفية سناء صليحة بمقال أشبه بجرس إنذار، تحذر فيه من الإقدام على هذه الجريمة التي لن يغفرها لنا التاريخ، ففي الوقت الذي تحتفي فيه دول العالم برجالها الذين أسسوا حضارتها، وتحول مقار إقامتهم وأماكن دفنهم إلى مزارات سياحية يتفاخرون بها أمام الأجيال الشابة، نتهاون نحن ونهين أسلافنا وعلمائنا أمثال المقريزي وابن خلدون بهذه الطريقة.

الكاتبة انتقدت إهمال تسجيل العديد من الآثار الهامة، بل وإخراج عدد لا حصر له من المباني ذات القيمة الأثرية والمعمارية من سجلات الآثار ومن ثم هدمها لتقام بدلا منها مساكن أو طرق أو أي مبان أخرى أيا كانت.

صليحة أكدت أن دراسة أثرية أجريت قبل عشر سنوات حينها، على حوش الصوفية في جبانة باب النصر، كشفت أن الحوش الذي تزيد مساحته على فدانين ويقع خارج باب النصر، كان مقبرة لصوفية خانقاة سعيد السعداء والخانقاة البيبرسية، كما كان مقبرة لعلماء مصر المشاهير أمثال ابن خلدون والمقريزي وقاضي القضاة برهان الدين إبراهيم بن محمد بن بهادر الغازي المعروف بابن زقاعة وقبر شرف الدين الدمياطي‏، بالإضافة إلي الطرابلسي وعبدالرحمن بن عوف وابن هشام وابن الملقن وغيرهم.. ولكن -ولأسباب مجهولة- ظل الحوش خارج سجلات الآثار وبالتالي، لم يواجه مسؤولو الحي أي مسائلة قانونية عندما قرروا إزالته.

نداءات صليحة وآخرين، من بينهم ممثلين عن منظمات أجنبية، لفتت أنظار المسؤولين أخيرا، ولكن، وبدلا من أن يوقفوا عملية التوسعة لدراسة الأمر، سارع أحد مسؤولي قطاع الآثار الإسلامية حينها، لينفي وجود حوش الصوفية في هذا الموضع، زاعما أنه يقع في منطقة مقابر الخلفاء، وهو ما يعني أن المسؤول الأثري لم يقرأ الخطط التوفيقية لعلي باشا مبارك ولا تحفة الأحباب للسخاوي ولا كتاب التذكرة التيمورية لأحمد باشا تيمور –وهي مؤلفات كان لابد أن يطلع عليها بحكم عمله- والتي تؤكد جميعها أن الحوش كان موجود خارج باب النصر مباشرة!

وهو ما دفع أثريون آخرون، للأسف كانوا خارج المناصب الرسمية، بالإضافة إلى أثريين شبان وعلماء، حتى أهالي المنطقة، للخروج والتأكيد على أن حوش الصوفية المدفون فيه المقريزي وابن خلدون يقع بتربة باب النصر، بل إن “الحفارين” الذين يعملون بالمقابر أكدوا أنهم تاورثوا عن أسلافهم في هذه المهنة، أن مشاهير العلماء مدفونين بحوش الصوفية.

بل إن الدكتور صالح لمعي عضو المجلس الدولي للآثار خرج حينها، ليؤكد أن الحوش لا يضم علماء فقط، بل يضم أيضا شخصيات تاريخية مثل السلطان برقوق، الذي أصر أن يدفن مع الزهاد في حوش الصوفية لعل الله يرحمه بفضل هؤلاء العارفين.

قضي الأمر

وجاء تأكيد المسؤولين بنتيجة صادمة، أنه سواء كانت المنطقة المذكورة بها حوش الصوفية أو لا، فإن الأمر قد قضي في كل الأحوال، لأن عملية الإزالة تمت بالفعل ضمن عمليات التوسعة الأولى للشارع!

ليكتشف الجميع أن نداءاتهم كانت بلا طائل، وأنها جاءت متأخرة، واكتشفوا أنه بدلا من أن تقوم المحافظة بنقل الرفات -أيا من كان أصحابها- إلى مكان آخر مراعاة لحرمة الموتى، قررت الإسراع وتدميرها بالكامل ومساواتها بالأرض!

وأن البلدوزرات خرجت قبل أيام وشقت قبر صاحب كتاب “المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار” الذي سجل فيه كل آثار القاهرة وحفظ لنا تاريخها، وعاثت الآلات فسادا في رفاته ليتناثر هو وغيره من العلماء والصالحين بين الحطام والخراب، ويختفي كأن لم يكن..

ولم يتمالك الكاتب والشاعر الكبير فاروق جويدة نفسه بعدما علم بالخبر، وخرج يبكي رفات الأجداد على صفحات مقال له بالأهرام، مذهولا من أن يتم تسجيل مقبرة “أبو حصيرة” كأثر تاريخي على مساحة ثلاثة أفدنة بدمنهور، في الوقت الذي ننهش فيه رفات هؤلاء العلماء ونلقي بهم تحت عجلات آلات الحفر والهدم!

ونشر مع المقال صورة للأنقاض أمام بوابة النصر، وكتب أسفلها “تحت هذا الردم يرقد رفات إبن خلدون والمقريزى بعد إزالة مقبرة كل منهما”!

وتساءل جويدة: “أين قدسية الموتى؟ وأين حرمة العلماء وأولياء الله الصالحين؟! والغريب أن الجهة المقابلة للحوش خالية تماما وكان من الممكن توسيع الشارع منها دون المساس برفات الموتى”، ولكن لا حياة لمن تنادي.

نصب تذكاري!

وطالب الشاعر الكبير بضرورة البحث عن المسؤول عن هذه الجريمة ومحاسبته، وأن يتم وضع نصب تذكاري مناسب في الشارع على سبيل الاعتذار لهذه القامات، يكتب عليه “هنا يرقد أئمة الصوفية ونخبة من علماء مصر وأوليائها الصالحين.. هنا قبر ابن خلدون والمقريزي”.

ولكن للأسف، حتى ذلك لم يحدث، ربما لأن من أقدم على هذه الفعلة، لم يشأ أن يضع علامة تذكره كلما مر من هذا الطريق بجريمته!

فماذا كان سيكتب المقريزي لو أنه عايش هذه اللحظة، وشهد الجرافات وهي تهدم مقابر هؤلاء العلماء وتسويها بالتراب؟!

فلربما كتب عن المسؤول عن تلك الجريمة، ما كتبه في الأمير جهاركس الخليلي، الذي نبش قبور الخلفاء الفاطميين وأسرهم وألقى برفاتهم في المزابل لكي يبني فوق مقابرهم خانه الشهير “خان الخليلي”، حيث قال “واتفق للخليلي في موته أمر فيه عبرة لأولي الألباب… حيث قتل وترك على الأرض عاريا وسوءته مكشوفة، وقد انتفخ وكان طويلا عريضا إلى أن تمزق وبلي، عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم”.