في سبتمبر من العام الماضي 2020 أيدت المحكمة الإدارية العليا في مصر حكما سابقاً، بمنع إقامة الاحتفال بمولد الحاخام اليهودي أبو حصيرة، في محافظة البحيرة. كما أمرت المحكمة بشطب الضريح المدفون فيه الحاخام من قائمة الآثار الإسلامية والقبطية، رافضة طلباً بنقل رفاته إلى إسرائيل، استنادا إلي أن القدس أرض محتلة.
وأبو حصيرة هو يعقوب بن مسعود، حاخام يهودي من أصل مغربي، عاش في القرن الـ19، وينتمي إلى عائلة يهودية كبيرة هاجر بعض أفرادها إلى مصر ودول أخرى، وبقي بعضهم في المغرب.
لماذا صُنع لـ”أبو حصيرة” مولد؟
كان مولد أبو حصيرة يُقام منذ عام 1907، في أواخر أيام السنة الميلادية من كل عام، في معبد يهودي في قرية “ديمتوه” بالبحيرة، وكان يحج إليه مئات اليهود، خصوصاً من المغرب وفرنسا وإسرائيل.
وتحكي الروايات – التي لم يُستطيع من التأكد منها – أن أبا حصيرة مولود في العام 1807، وسافر من المغرب إلى فلسطين لزيارة الأماكن التي يدعي اليهود أنها مقدسة لديهم، وقيل إن السفينة التي كانت تقله غرقت قبل أن تصل إلى الأراضي الفلسطينية، وغرق كل ركابها عدا أبو حصيرة.
أغلب الروايات المشهورة عبر المصادر المعلوماتية المفتوحة على الإنترنت، تقول إنه بسط حصيرته على سطح الماء، وأخذ في السباحة حتى وصل إلى سوريا، ومنها إلى فلسطين، وزار حائط المبكى، وبعد أن انتهي من أداء طقوسه قرر العودة إلى المغرب سيراً على الأقدام، وبينما وهو في الطريق، وتحديداً في قرية “دمتيوه” بالبحيرة، مات في 1880، وقالوا إنه أوصى وهو يموت بأن يُدفن في مصر.
روايات أخرى منشورة في تحقيق صحفي على صفحات مجلة روزاليوسف سنة 1995 للكاتبة الصحفية وفاء شعير، التي التقت ببعض اليهود الذين كانوا يحيون الاحتفال بمولد أبو حصيرة، إذ أكدت أن سيدة أخبرتها بأن أبو حصيرة عندما بلغ الـ75 جاء إلى مصر، فمرض بالإسكندرية، وأنبأ الجميع بيوم موته.
من الروايات الأخرى عن الرجل، والتي روتها “بنيت حسان” التي كانت مشرفة على إقامة الاحتفال بالمولد، أن أبو حصيرة لما مرض أتاه الطبيب، فقال له إنه سيموت يوم الجمعة الساعة الثانية عشرة، وأنه اشتهر بأنه كان يصطحب حصيرته معه للصلاة، حتى أنه كان يفرشها على بحر الإسكندرية.
أبوحصيرة.. مسلم
الرواية الإسرائيلية ظهر من يهدمها تماماً، حيث قدم المحامي المصري مصطفى رسلان ما يؤكد أن “أبو حصيرة” ما هو إلا رجل مسلم وليس يهودياً، وذلك بتقديمه شجرة عائلته التي قدمها له بعض المسلمين من المغرب، إلى المحكمة التي حكمت في 2016 بإلغاء مولد أبوحصيرة، وهو حكم من أول درجة.
بينما أدلى الحاج محمد أبو حصيرة، عميد عائلة “أبو حصيرة” الفلسطينية في غزة، بحوار صحفي لصحيفة “الشرق الأوسط” في 2001، زاعماً بأن ضريح أبو حصيرة الموجود لمصر يعود لجد العائلة الفلسطينية بغزة، ولا علاقة لليهود به، قائلاً “أنا الأكبر سنا في عائلة أبو حصيرة، أنا مولود عام 1901، وأعلم هذه الحقيقة كما تعرفها عائلة أبو حصيرة، فنحن عائلة فلسطينية مسلمة، وهنالك مجرد تشابه أسماء مع عائلة أبو حصيرة اليهودية المغربية، ولكن قبر جد العائلة أبو حصيرة في مصر يعود للعائلة الفلسطينية المسلمة، وليس للعائلة اليهودية”.
أبو حصيرة المودرن
وشأن أبو حصيرة، هو نفس شأن كثير من الأساطير المنسوجة حول كثير من الأولياء أصحاب الكرامات، فقد ظهر في المغرب، بدايات القرن العشرين حاخام من مواليد العام 1890، يدعى أنه أبو حصيرة الحديث، وكان اسمه بابا سالي.
لقد هاجر إلى إسرائيل في العام 1963، واكتسب شهرة واسعة النطاق في الأوساط الدينية هناك، واشتهر بكونه صانع معجزات. الأمر الذي جعله مكانا يزوره ساسة إسرائيل وقياداتها الحزبية، وبالأخص عشية انتخابات الكنيست.
وتعود المعتقدات الشعبية في إسرائيل لـ”أبو حصيرة” الحديث، أو بابا سالي، كما نشرها مركز الأبحاث الفلسطيني “مدار” للدرسات الإسرائيلية، بأن قوته كانت قادرة على تمكين المرأة العاقر، أو التي يتعسر حملها من الحمل، وكذلك قدرته على إشفاء المرضى من علاّتهم الصعبة، وأنه ينقذ الغارقين في المصاعب اليومية، وقد شاعت ظاهرة وضع بركته على زجاجات المياه التي كان يوزعها على المرضى الذين كانوا يستخدمونها للاستشفاء من أمراض مختلفة، وتحول مسكنه في بلدة “نتيفوت” في النقب إلى محج للمتدينين وللسياسيين الذين أرادوا كسب وده والتبرّك منه.
كما أن فرقاً رياضية كانت تأتي إليه للفوز ببركته قبل مشاركتها في الألعاب والمباريات الرياضية، وخلفت هذه الزيارات نوعاً من الهوس العام، الاجتماعي والسياسي، في داخل اسرائيل.
موالد يهودية أخرى في مصر
لقد أغلق الباب تماماً أمام احتفال اليهود في مصر بـ”أبو حصيرة”، وذلك بحكم محكمة، وبذلك يسدل الستار على أي احتفالات دينية لليهود كانت تقام في مصر، وخصوصاً الموالد.
ولكن هل كان اليهود في مصر يحتفلون بموالد أخرى؟. نعم، الباحث الفرنسي رينييه في دراسة كتبها عن “اليهود والموالد اليهودية” قال إنهم كانوا يحتفلون بثلاثة موالد، الأول في مصر القديمة، لشخص اسمه عزرا، والثاني في المحلة الكبرى لشخص اسمه حاييم الأمشاطي، والثالث هو لـ”أبو حصيرة”، وهو المعروف.
وحول احتفالات اليهود بمولد حاييم يقول رينييه إنهم كانوا يحتفلون به بالصلاة أولا، بعدها يدق كبيرهم عصاه على خشب هيكل وضعت فوقه أقدم توراة كتبها الأمشاطي بخط يده، ويصعد إلى الهيكل عشرة مصلين، ليقوموا بالصلاة، ويقف كل من في المعبد من الرجال، أما السيدات فلهن الحق في القيام أو الجلوس وقت الصلاة. وحاييم، قيل إن أصله كذلك من المغرب، وقدم إلى مصر في أواخر العصر الأيوبي. وكان مولده يحتفل به نحو 500 يهودي كانوا يعيشون في المحلة، وتحديداً في مناطق أبو القاسم والشوافعية ونقرة صبحة.
أما مولد عزرا، فيذكر المؤرخ عرفة عبده علي في كتابه “يهود مصر” إنه يعود لـ”عزرا الكاتب” أحد أجلاء أحبار اليهود، والمعبد الموجود باسمه في منطقة الفسطاط بمصر لقديمة يسمى أحيانا بمعبد الفلسطينيين، أو معبد الشوام، ويعرفه الباحثون واليهود المحدثين بـ”معبد الجنيزا” نسبة إلى مجموعة وثائق “الجنيزا” الشهيرة التي وجدت به عام 1890.
والمدهش أن المعبد في الأساس كان كنيسة تسمى “كنيسة الشماعين” وقد باعتها الكنيسة الأرثوذكسية للطائفة اليهودية، عندما مرت بضائقة مالية نتيجة لزيادة الضرائب التي فرضت عليها وقتها، وتحديداً في بداية الدولة الطولونية.
ويروي اليهود، وفقاً لعرفة عبده علي، أن هذه البقعة هي مكان كان النبي موسى (عليه السلام) قد استخدمه للصلاة بعد أن أصاب البلاد الطاعون، وتروي قصص أخرى أن النبي إيليا (إلياهو) كان قد تجلى للمصلين هناك أكثر من مرة، وأن المعبد يحوي رفات النبي إرميا، المختلف عليه في التاريخ.
في النهاية لم يذكر رينييه أو عرفة عبده علي أو المصادر المفتوحة، متى تحديداً ألغيت مظاهر الاحتفال بالمولدين اليهوديين الآخرين غير أبو حصيرة، مولد عزرا، أو بن عزرا، ومولد حاييم الأمشاطي.