بالرغم من أن فترة حكمها لمصر لم تتعد 80 يوما، إلا أن التأثير الذي أحدثته شجرة الدر في الأحداث السياسية في التاريخ المصري كان لافتا، خاصة فيما يتعلق برد فعل المصريين على اختيارها لتكون سلطانة عليهم، حيث تحول موقفهم من الدعاء لها على المنابر وصك اسمها على العملة، إلى الخروج في احتجاجات منظمة تحولت إلى أعمال شغب للمطالبة بخلعها من الحكم كونها امرأة لا يصح أن تحكم المسلمين.
إخفاء وفاة السلطان
يقول تقي الدين المقريزي في كتابه “السلوك لمعرفة دول الملوك” إن شجرة الدر -واسمها الصحيح شجر الدر بدون التاء المربوطة- كانت جارية تركية الجنس وقيل أرمينية، اشتراها الملك الصالح نجم الدين أيوب وأصبحت ذات مكانة خاصة عنده، حتى أنها باتت لا تفارقه سواء في سفره أو إقامته، وولدت منه ابنا سمته “خليل” مات وهو صغيرا، ثم عظم تأثيرها عندما تولى نجم الدين السلطنة.
وفي ليلة النصف من شعبان عام 647هـ / 22 نوفمبر 1249م، توفي نجم الدين أيوب أثناء محاولات التصدي للحملة الصليبية السابعة بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا، فقررت شجرة الدر إخفاء خبر وفاة السلطان وأعلنت أنه مريض وأن الأطباء منعوا زيارته، ثم بدأت في ترتيب أمور الدولة وإدارة شؤون الجيش في ميدان القتال باسم السلطان، وفي الوقت ذاته أرسلت إلى توران شاه ابن الصالح بن الدين أيوب تطالبه بالقدوم إلى المنصورة على وجه السرعة لكي يعتلي العرش.
وخلال تقدم الجيوش المصرية بقيادة أمراء المماليك وإحرازهم الانتصارات ضد لويس التاسع، وصل تورانشاه وتم الإعلان رسميا عن وفاة السلطان، وسلمت شجرة الدر للسلطان الجديد مقاليد الأمور، إلا أن الشاب الصغير سرعان ما قرر التخلص من شجرة الدور وأمراء المماليك، حيث اتهم شجرة الدر بالاستيلاء على أموال أبيه، فخافت منه وفرت إلى مدينة بيت المقدس، كما كان يغار من أمراء المماليك بسبب الانتصارات التي أحرزوها ضد الصليبيين وسعى للقضاء عليهم.
وفي النهاية، اتفق الجميع على أنه يجب التخلص من السلطان الجديد، فقام أربعة من أمراء المماليك بقتله، في واقعة شهيرة، قيل فيها أن توران شاه مات غريقا جريحا محترقا!
جارية على عرش مصر
ويقول المقريزي في السلوك “فلما قتل تورانشاه، اجتمع الأمراء المماليك البحرية، وأعيان الدولة وأهل المشورة، بالدهليز السلطاني؛ واتفقوا على إقامة شجر الدر أم خليل زوجة الملك الصالح نجم الدين أيوب في مملكة مصر، وأن تكون العلامات السلطانية على التواقيع تبرز من قبلها، وأن يكون مقدم العسكر -قائد الجيش- الأمير عز الدين أيبك… وحلفوا على ذلك”، وأطلقت شجرة الدر على نفسها لقب “المستعصمية الصالحية، ملكة المسلمين، والدة الملك المنصور خليل أمير المؤمنين”.
في البداية، كان هنا تقبل محدود للأمر من قبل المصريين، حيث تم نقش اسم السلطانة الجديدة على العملة، كما بدأ بعض خطباء المساجد في الدعاء لها على المنابر في القاهرة والفسطاط، فكانوا يقولون “اللهم وأدم سلطان الستر الرفيع، والحجاب المنيع، ملكة المسلمين، والدة الملك خليل”، أو “واحفظ اللهم الجهة الصالحية، ملكة المسلمين، عصمة الدنيا والدين، أم خليل المستعصمية صاحبة الملك الصالح”.
** اقرأ أيضا: آخر كلمات طومان باي.. السلطان الذي بكاه المصريون
وبالرغم من أن شجرة الدر أخذت تتقرب إلى الخاصة والعامة من أهل الحكم والرعية في مصر حتى تتأكد من قبولهم لفكرة جلوسها على العرش، إلا أنها فشلت في كسب تأييدهم الدائم، حيث سرعان ما تغير الأمر.
يقول الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه “عصر سلاطين المماليك”، إنه بالرغم من أن شجرة الدر قامت بدور بطولي بعد موت نجم الدين أيوب خلال الحملة الصليبية، فإن الرأي العام في مصر لم يكن ليقبل بقيام امرأة على كرسي الحكم؛ إذ كان التراث السياسي للحضارة العربية الإسلامية قد استقر على أن يكون الحاكم رجلا، كذلك رفض الخليفة العباسي الاعتراف بالسلطنة الجديدة، واتسمت ردود أفعال الأيوبيين الحاكمين في بلاد الشام بالعصبية والضيق ورفضوا الاعتراف بهذا التتويج وحاولوا القيام بعمل عسكري للاستيلاء على مصر.
احتجاجات ضد السلطانة
وعندما تم إرسال طلب التفويض لها بالحكم إلى الخليفة العباسي المستعصم بالله في بغداد، رفض الخليفة تفويضها وأرسل رسالته الشهيرة التي قال فيها مخاطبا أمراء مصر “إن كانت الرجال قد عدمت عندكم اعلمونا حتى نسير إليكم رجالا…”.
ونتيجة لهذا ارتفعت الأصوات الرافضة لجلوس شجرة الدر على العرش، ويقول قاسم عبده أن المصريين عبروا عن غضبهم من خلال المظاهرات والاضطرابات التي انتشرت في جميع أنحاء القاهرة والفسطاط، مما اضطر المماليك إلى إغلاق بوابات القاهرة منعا لامتداد مشاعر السخط والغضب إلى المناطق الريفية في الأقاليم.
** اقرأ أيضا: زلزال عام 702هـ.. أخطر كارثة طبيعية ضربت مصر في عصر المماليك
ويضيف أن الخطب ألقيت في المجالس والمحافل ومن فوق منابر المساجد، كما ألفت الرسائل حول المصائب والكوارث التي يمكن أن تحل بالمسلمين إذا حكمتهم امرأة، وكتب الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، أبرز قادة الرأي في مصر آنذاك، رسالة شهيرة رفض فيها رفضا قاطعا تولي شجرة الدر للحكم، ومما قاله الشعراء في إنكارهم على تولي شجرة الدر السلطنة:
النساء ناقصات عقل ودين ** ما رأين لهنَّ رأياً سنيّا
ولأجل الكمال لم يجعل الله ** تعالى من النساء نبيّا
وأمام هذه الأوضاع، أدركت شجرة الدر ومعها أمراء المماليك الذين اختاروها للسلطنة، أنهم يحاولون السباحة ضد تيار جارف لابد وأن يغرقهم في طياته إن أصروا على مواجهته، وبعد ثمانين يوما من حكمها، قررت شجرة الدر التنازل بإرادتها عن الحكم لواحد من أمراء المماليك، وهو عز الدين أيبك التركماني الصالحي الذي تولى عرش البلاد تحت اسم “السلطان الملك المعز عز الدين أيبك” بعد زواجه رسميا من الجارية التي جلست على عرش مصر.