يعد فيلم مغني الجاز “The Jazz Singer”، الذي أنتج عام 1927، أحد أهم الأفلام في تاريخ السينما الأمريكية والعالمية بشكل عام، ليس لقيمته الفنية فقط، ولكن لقيمته من الناحية التقنية وتأثيره على كل الأفلام التي جاءت من بعده، حيث كان بمثابة نقلة استثنائية في مستقبل السينما وقت عرضه، كما يعتبر الكثيرون جملة “أنت لم تسمع أي شيء بعد” التي ينطقها بطل الفيلم أثناء الأحداث واحدة من أشهر الجمل في التاريخ السينمائي.
فيلم “مغني الجاز” الذي أخرجه “ألان كروسلاند” وأنتجته شركة “ورنر براذرز”، هو أول فيلم طويل ناطق يتضمن حوارا متسلسلا منطوقا ومتزامنا، وليس فقط خلفية موسيقية مسجلة كما كان شائعا في تلك الفترة، وتبلغ مدة عرض الفيلم 89 دقيقة، وتكلف إنتاجه قرابة 422 ألف دولار أمريكي، بينما حقق أرباحا وصلت إلى 3.9 مليون دولار في الولايات المتحدة وحدها، و2.6 مليون دولار على المستوى العالمي.
ونتيجة للتأثير الكبير الذي أحدثه الفيلم في مسيرة السينما الأمريكية، فقد اختير في سنة 1996 من قبل مكتبة الكونجرس الأمريكي للحفظ في سجلات الأفلام الوطنية للولايات المتحدة على اعتبار أنه عملا “ثقافيا وتاريخيا أو ذا قيمة جمالية”، كما اختير بعدها بعامين في التصويت الذي أجراه معهد الفيلم الأمريكي كأحد أفضل الأفلام الأمريكية في كل العصور، حيث احتل المرتبة التاسعة والتسعين.
بدايات الفكرة
في عام 1917 كان المؤلف سامسون رافايلسون لازال طالبا، حيث حضر عرضا مسرحيا لرواية “روبنسون كروز” الشهيرة، وشاهد خلال العرض الممثل “آل جولسون” -وكان لايزال في بداياته الفنية- وهو يقوم بالغناء وقد صبغ وجهه بالأسود، وهو ما ألهم رافايلسون لاحقا لتأليف قصة قصيرة بعنوان “يوم الغفران” عن شاب يهودي، مستلهما فيها قصة حياة جولسون الحقيقية، ذلك الشاب اليهودي ذو الأصول الروسية الذي استهواه الفن ولمع في مسارح الولايات المتحدة.
بعدها بسنوات حوّل رافايلسون القصة إلى مسرحية عرضت في أحد المسارح بميدان التايمز في سبتمبر عام 1925 وحققت نجاحا ملحوظا، ونتيجة هذا النجاح سعت شركة ورنر براذرز للحصول على حقوق تحويل المسرحية إلى فيلم سينمائي وتم التعاقد مع المطرب والممثل “جورج جيسيل” لأداء الدور الرئيسي بالفيلم، لكن عندما اكتشف جيسيل أن الفيلم سيكون ناطقا بالكامل، اعتبر أن ذلك مبرر لطلب زيادة أجره، حيث كانت الأفلام الناطقة شيء نادر في ذلك الوقت، وكان ظهور يتحدث طوال أحداث الفيلم بمثابة مجهود إضافي يستحق عليه أجرا أكبر!
كما اعترض جيسيل على نهاية الفيلم الأصلية ورفض أدائها مطالبا بتغيير تلك النهاية، وهو ما دفع المنتجون مع تعثر المفاوضات بين الطرفين إلى عرض الدور على آل جولسون -صديق جيسيل المقرب- الذي كان سببا في إلهام مؤلف الفيلم بقصته الأصلية، وتوقعوا أن شعبية جولسون التي كانت قد ازدادت في ذلك الوقت سيكون لها عاملا أساسيا في نجاح الفيلم، وبالفعل وقع جولسون عقدا لأداء الدور مقابل 75 ألف دولار أمريكي في مايو 1927، وهو لا يدري أنه سيلعب أهم فيلم في تاريخه الفني بأكمله.
تقنية غير مسبوقة
قبل فيلم “مغني الجاز” كانت هناك محاولات لإنتاج أفلام ناطقة، ولكنها كانت قصيرة وتم إنتاجها بشكل رديء وبأصوات غير واضحة أو مشوشة.
وكان أقصى مستوى تقني وصلت إليه السينما الناطقة حتى ذلك التاريخ، هو عرض الأغاني مع أداء حركي للمغني توحي بأنه يغني فعليا، وكانت هذه التقنية سهلة نسبيا، إلا أن تسجيل الجمل الحوارية وعرضها بشكل متزامن مع حركة شفاه الممثلين كان لايزال أمرا غاية في الصعوبة وهو ما نجح فيه فيلم “مغني الجاز”.
وبالرغم من اعتبار فيلم “مغني الجاز” أول فيلم ناطق بالشكل المتعارف عليه، فإن الجمل التي ينطقها الممثلون بشكل متزامن مع حركة شفاههم وأدائهم لا يتعدى مجموعها دقيقتين طوال أحداث الفيلم، وباقي الجمل الحوارية هي جمل غير متزامنة أو أغاني يؤديها الأبطال (الفيلم تضمن 6 أغاني) أو جمل يتم عرضها في اللوحات التوضيحية كتابة والتي كانت شائعة في السينما الصامتة حتى ذلك الوقت.
أول جملة متزامنة نطقها بطل الفيلم، والتي أصبحت من علامات السينما الأمريكية لاحقا كان يقول فيها “انتظر لحظة، انتظر لحظة، أنت لم تسمع أي شيء بعد”، وهي الجملة التي صدمت الجمهور الذي شعر بالحماسة الشديدة وهو يشاهد لأول مرة شخصا يتكلم عبر الشاشة بهذا الوضوح، حيث لم يكن يتصور أحد أن مثل هذه التقنية يمكن تحقيقها يوما، وهي الجملة التي كانت أحد العوامل الرئيسية في نجاح الفيلم جماهيريا.
قصة غير تقليدية
تدور أحداث الفيلم حول شخصية “جاكي رابينوفيتز” -آل جولسون- الشاب اليهودي الذي يتحدى تقاليد عائلته المتدينة ويصر على احتراف الغناء حيث يخالف طموح والده -الممثل وارنر أولاند- الذي كان يسعى أن يتفرغ ابنه للعمل في المعبد الموجود بالجيتو اليهودي في مانهاتن، إلا أن جاكي يقوم يقوم بأداء بعض الأغاني الشعبية في حديقة مخصصة لتناول البيرة، وهو ما يدفع والده لعقابه بشدة، فيقرر جاكي الهرب من منزل أسرته، ويتعرف على فتاة -الممثلة ماي مكافوي- ويقرر الارتباط منها، وبعد عدة سنوات يحقق جاكي نصيبا من الشهرة بغنائه لأغاني الجاز بعدما غير اسمه حتى يخفي أصوله اليهودية، إلا أن طموحه المهني يصطدم في نهاية المطاف مع حبه لعائلته وتقاليده.
فأثناء استعداد جاكي لبطولة أحد المسرحيات في برودواي والتي يتوقع أن تكون بداية انطلاقته الحقيقية للشهرة، يقع والده مريضا ويطلب منه أن يذهب مكانه لأداء الصلوات في المعبد في احتفال يوم كيبور اليهودي أو ما يعرف بـ”يوم الغفران”، ويصبح جاكي مخيرا بين أمرين إما أن يتجاهل طلب والده وهو على فراش الموت ويختار الشهرة أو أن يستجيب لوالده ويضحي بمستقبله الفني.
وعندما يصعد على المسرح في برودواي لأداء أحد البروفات، تأتي إليه أمه -الممثلة أيوجيني بيسرير- لتطلب منه أن يعود لوالده ويستجيب لطلبه، ولكن عندما تراه لأول مرة على خشبة المسرح تبكي وهي تقول “إنه ينتمي إلى هذا المكان.. إذا كان الله يريده في بيته لكان احتفظ به هناك، إنه ليس ولدي بعد الآن، إنه ينتمي إلى العالم كله”.
وفي يوم الافتتاح، وأثناء انتظار الجمهور لرفع الستار يتم إخبارهم أن المسرحية لن تعرض في ذلك اليوم، حيث يقرر جاكي في اللحظات الأخيرة الاستجابة لطلب والده وأداء الطقوس في المعبد حيث يسمع أبيه صوته وهو على فراش الموت، وفي نهاية الفيلم نكتشف أن جاكي استطاع أن يوفق بين الاثنين معا، حيث يظهر في المسرح وهو يغني لأمه.
نجاح ساحق
في يوم السادس من أكتوبر 1927، تم عرض الفيلم لأول مرة في المسرح الرئيسي في مدينة نيويورك، تزامنا مع احتفالات عيد الغفران اليهودية لتتناسب مع فكرة الفيلم، وكانت ملصقات الفيلم وأفيشاته مكتوب عليها جملة تحت أسماء الأبطال “سوف تشاهدهم وتسمعهم معا”.
وبعد نهاية العرض الأول انطلق الجمهور في حالة من الهياج الشديد والسعادة غير الطبيعية وهم يهتفون باسم بطل الفيلم ويحاولون الوصول إليه والسلام عليه معلنين عن نجاح ساحق للفيلم ولتلك التقنية، ومعلنين كذلك عن بداية حقبة جديدة ستغير وجه السينما في العالم أجمع.
أحد الصحفيين الفنيين كتب في مجلة واسعة الانتشار حينها يقول “عندما سمعت جملة جولسون الأولى.. أدركت فجأة أن نهاية الدراما الصامتة تلوح في الأفق”، وقد كان على حق، حيث تسببت التقنية الجديدة في نهاية عصر السينما الصامتة وبداية حقبة سينمائية مغايرة تماما.
وفي الحفل الأول لجوائز الأوسكار الذي أقيم في مايو عام 1929، تم تكريم الأفلام التي تم إصدارها في الفترة ما بين أغسطس 1927 ويوليو 1928 حيث لم تكن مشمولة بالمسابقة، واعتبر أنه من غير العادل وضعها في منافسة مع الأفلام التي أنتجت بعد يوليو 1928 والتي كانت شهدت تطورا كبيرا في عملية الصوت والحوار، حيث كانت معظم الشركات السينمائية لا تنتج سوى أفلام ناطقة في هذا التوقيت بعد نجاح “مغني الجاز”، لذا تم الاكتفاء بمنحه جائزة تكريمية نظير النقلة التي أحدثها الفيلم في صناعة السينما.
لاحقا تم إنتاج ثلاث نسخ جديدة من الفيلم، في عام 1952 من بطولة داني توماس وبيجي لي، وفي عام 1959 تم إنتاج نسخة تلفزيونية من الفيلم بطولة جيري لويس، وفي عام 1980 من بطولة نيل دايموند ولوسي أرناز.
وحتى اليوم، يعتبر الكثيرون فيلم “مغني الجاز” واحدا من أكبر النجاحات في تاريخ هوليود والسينما العالمية ككل.