يعتبر مبنى “بيت التأمين” الذي أقيم في شيكاغو عام 1885 بمثابة أول ناطحة سحاب في العالم، وكان يتكون من 10 طوابق يبلغ إجمالي طولها 42 مترا، وبعدها بقرابة 30 عاما، شهدت مدينة نيويورك ثورة في عالم بناء ناطحات السحاب لذا اعتبرت المدينة الرائدة في مجال المباني العملاقة في العالم، حيث كان يعتبر أي مبنى يتجاوز المائة متر أو يتكون من 15 طابقا بمثابة ناطحة سحاب.

ولكن مهلا، فقبل ظهور ناطحات السحاب في شيكاغو ونيويورك بمئات السنين، عرف العرب ناطحات سحاب شبيهة رغم بساطة وبدائية تقنيات وأدوات البناء المستخدمة في ذلك الوقت، حيث شهدت العمارة الإسلامية تطورات مذهلة عقب انتشار الإسلام في مختلف بلدان العالم القديم، خاصة في مدن الفسطاط ورشيد، ومدينة شبام في اليمن.

التطور المعماري في المدن الثلاثة السابقة، كان من الإبداع لدرجة أن العرب استطاعوا تشييد مباني سكنية عملاقة أشبه ما تكون بـ”ناطحات سحاب” بمقاييس تلك العصور القديمة، وهو ما يمكن اعتباره بمثابة النواة الحقيقية للناطحات العملاقة التي عرفها العالم لاحقا.

مدينة الفسطاط

كانت مدينة الفسطاط، هي نواة العمارة الإسلامية في أفريقيا، حيث شيدها عمرو بن العاص عقب دخوله إلى مصر عام 21 للهجرة، وشهدت هذه المدينة تطورات سريعة في مبانيها المعمارية، خاصة “الدور” أو المباني السكنية كما نطلق عليها الآن، حيث كانت مباني ضخمة ومثيرة للدهشة، حتى أن المنبى السكني الواحد كان يقطنه المئات من السكان!

وكانت هذه المباني العجيبة، مثار إعجاب كل الرحالة الذين زاوا مصر في القرون الأولى للهجرة، ففي القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي، زار الرحالة المقدسي مدينة الفسطاط، ووصف مبانيها بقوله إنها تتكون من 4 و5 طوابق حتى أنها كانت تشبه “المنابر” في طولها، وكانت تتسع هذه المباني لمائتي سكان في بعض الأحيان.

أما ابن حوقل فيقول في كتابه “صورة الأرض”، بعدما زار الفسطاط في فترة زمنية لاحقة، إن بها منازل تتكون من 5 و6 و7 طوابق! وكان معظم هذه المباني يبنى من الطوب، وغالبا ما يكون أسفل المبنى غير مسكون.

فيما يقول الرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي زار الفسطاط بعد ذلك بنحو ثلاثة أرباع القرن، أن بها بيوتا مكونة من 14 طابقا! وبيوتا من 7 طوابق، 14 طابقا أي أنها كانت نطاحات سحاب حقيقية حتى بمقاييس العصر الحديث!

ويرى الدكتور أيمن فؤاد سيد في كتابه “القاهرة.. خططها وتطورها العمراني” أن أقصى ارتفاع وصلت إليه دور الفسطاط هو 7 طوابق، أما قول ناصر خسرو بأنها وصلت إلى 14 طابقا، فيرجح فؤاد سيد أن خسرو وصف هذه المباني من الخارج دون أن يدخلها، حيث أن هذه المساكن كانت مرتفعة الأسقف ومضاءة مثل منازل مدينة رشيد الباقية إلى الآن، والتي بكل طابق منها صفان من الشبابيك واحد فوق الآخر، مما يوحي لمن يراها أن كل صف من الشبابيك يمثل طابقا مستقلا.

وسواء كانت دور الفسطاط وصلت من الضخامة حتى بلغت 14 طابقا أو فقط 7 طوابق، فهو رقم ضخم قياسا لما كانت عليه التقنيات الفنية المتاحة في ذلك الوقت المستخدمة في عملية البناء، مع العلم أنه حتى المباني ذات الطوابق السبع كانت ذات أسقف عالية حتى يمكن بناء صفين من الشبابيك فوق بعضهم البعض ما يعني أن طول المبنى نفسه كان شاهقا في كل الأحوال.

ولكن للأسف لم يتبق من تلك المباني الهائلة في مدينة الفسطاط سوى بعض الأطلال كما يظهر في الصورة التالية المأخوذة من موقع حفائر الفسطاط في منطقة “مصر القديمة” بالقاهرة، خاصة وأن مدينة الفسطاط تعرضت لأكثر من عملية تدمير على مدار تاريخها الطويل أضاع الكثير من معالمها الهامة.

مدينة رشيد

أما منازل مدينة رشيد بمحافظة البحيرة والمطلة على البحر الأبيض المتوسط، فكانت شديدة الشبه بالوصف الذي أورده المؤرخون القدامى عن مدينة الفسطاط، وهي منازل ظل أغلبها قائما إلى نهايات القرن التاسع عشر، ولم يبق منها إلا عدد قليل جدا حاليا، بالرغم من أنها شيدت في العصر العثماني.

وتميزت مباني مدينة رشيد العالية بأنها مبنية بالطوب “المنجور” متعدد درجات الحرق، بهدف عمل تكوينات زخرفية لإضافة لمسة جمالية على المباني، كما كانت تظهر به أحزمة خشبية توضع داخل الحوائط لتثبيت المبنى وتدعيمه.

ومن تلك المنازل كما يظهر في الصور، منزل ورثة الحاج إسماعيل رمضان، ومنزل حسين بك عرب كلي الذي تحول حاليا إلى متحف رشيد، ومنزل الجمل بشارع الدهليز والذي يتكون من 4 طوابق، وكذلك منزل الأمصيلي الذي يعد أحد أهم منازل رشيد الأثرية لما يتميز به من طراز معماري فريد وزخارف متميزة.

وبالرغم من أن منازل مدينة رشيد بنيت بعد منازل الفسطاط بعدة قرون، إلا أن مباني الفسطاط تميزت بالضخامة والطول واستيعابها لأعداد ضخمة من السكان.

مدينة شبام

إن كنت تعتقد أن ما قاله المؤرخون عن مباني مدينة الفسطاط والارتفاعات الكبيرة التي كانت عليها مجرد “مبالغة”، فلا تتعجل، حيث يمكن أن تشاهد دليلا حيا على قدرة العرب على بناء مثل هذه المباني في مثل تلك الأزمة البعيدة، هذا الدليل هو مباني مدينة “شبام” اليمنية الباقية حتى الآن.

وشبام هي مدينة أثرية تقع بمحافظة حضر موت اليمنية، بنيت منازلها من الطين، وتميزت بارتفاعها الشاهق الذي يمكن أن نطلق عليه بحق أنها كانت “ناطحات سحاب” حتى بمقاييس العصر الحالي.

واستطاعت المباني المصنوعة من التراب والتبن أن تصمد لسنوات طوال تجاوزت الـ600 عام حتى الآن، وهو ما كان سببا في ضمها إلى قائمة التراث العالمي عام 1985، حيث اعتبرت أقدم مدينة “ناطحات سحاب” في العالم.

وكانت هذه المباني الشاهقة، سببا في شهرة المدينة عالمية في مختلف العصور، حيث أطلق عليها سكان أوروبا “مانهاتن الصحراء”، بينما سماها أهل اليمن أنفسهم باسم “أم القصور العوالي”، حيث لا توجد أي مدينة باقية في العالم حاليا تشبه “شبام”.

وأرجع علماء الآثار السبب وراء قدرة مباني شبام على الصمود حتى الآن، بل والصمود لسنوات عدة في المستقبل، هو أن المعماري الذي قام بتشييدها حفر لها أساسا عريضا يصل عمقه إلى مترين تحت الأرض، ويتكون هذا الأساس من روث الماشية وطبقة من الملح وأعواد الشجر وطبقات من الرماد والحجارة، كما كان يرفع الأساس فوق سطح الأرض بارتفاع متر بغرض تدعيمه والتأكد من صلابته.

وإذا قدر لك أن تزور هذه المدينة يوما ما وسرت بين مبانيها، فسوف تشعر أنك تسير في مدينة خيالية بنيت في المستقبل بتقنيات الماضي!