يعد الزلزال الذي ضرب مصر عام 702هـ – 1303م، أقوى زلزال تعرضت له مصر خلال العصور الوسطى، إلا أن شهرته لا تنبع فقط من قوته الكبيرة وما أحدثه من دمار هائل حتى أن المصريين هجروا منازلهم وفروا إلى الصحراء، ولكن لارتباطه في أذهانهم أنه جاء عقاب لهم من الله على ما فعلوه في نهار رمضان وما ارتكبوه من مخالفات شرعية بعدما تركوا الصيام والقيام وانشغلوا بالمغاني والحفلات الصاخبة!

في السطور التالية نحكي قصة هذا الزلزال وكيف أثر في حياة المصريين وكم الدمار الذي خلفه وكيف تسبب في مصرع الآلاف وتهدم العديد من المباني الأثرية وكان سببا في تغير شكل القاهرة حتى اليوم.

احتفالات النصر على المغول

قصة زلزال عام 702هـ، لا تبدأ من لحظة وقوعه بل قبلها ببضعة أشهر، وبالتحديد في الثاني من رمضان الموافق 19 أبريل 1303م، وهو اليوم الذي تمكن فيه السلطان الناصر محمد بن قلاوون من الانتصار على المغول في معركة “مرج الصفر”.

ونتيجة لهذا الانتصار، أقيمت الزينات والاحتفالات في القاهرة وأقيمت السرادقات من باب النصر إلى باب السلسلة بقلعة الجبل، وأصدر السلطان أوامره لجميع الأمراء في مختلف الأقاليم بإرسال كل من يستطيع الغناء أو تقديم فقرات احتفالية وأرباب الملاهي إلى القاهرة للمشاركة في احتفال النصر.
ويقول المؤرخون، إن تلك الاحتفالات شهدت العديد من التجاوزات حتى “تهتك الخلائق ومشى فيهم المنكر والأمور القبيحة” وانتشرت المحرمات في نهار رمضان وجاهر المشاركون بالمعاصي ولم يعد بيت في القاهرة إلا وشارك بشكل أو بآخر في تلك الاحتفالات بعدما “خرج الجميع عن الحشمة واستحسن الفضيحة”.

ويؤكد المقريزي أنه “حصل بالقاهرة ومصر في مدة نصب القلاع (السرادقات) والزينة من الفساد في الحريم وشرب الخمور ما لا يمكن وصفه، من خامس شهر رمضان إلى أن قلعت في أواخر شوال”.

كارثة تفاجئ المصريين فجرا

بعد ما انتهت الاحتفالات بشهرين تقريبا، وفي فجر يوم 24 ذي الحجة 702هـ/ 8 أغسطس 1303م، وقع زلزال كبير أفزع المصريين الذين كانوا نياما، ما كان سببا في هلاك العديد من البشر الذين لم يتمكنوا من الهرب وقضوا تحت الأنقاض.

ويقول المؤرخون الذين عاصروا تلك الظاهرة، أنهم لم يسمعوا بمثلها في سالف الأزمان حتى أطلقوا عليها “الزلزلة العظمى”، كما صاحب وقوع الزلزال هبوب رياح شديدة الحرارة أطلقت عليها المصادر المعاصرة “سموم تلفح فتشوي الوجوه حين تنفح”، وكان الوقت صيفا في شهر أغسطس، وهبت على الوجه القبلي “ريح سوداء مظلمة حتى لم ير أحد أحد قدر ساعة”.

ويقول المعاصرون أن الهزة الأرضية ظلت مستمرة قرابة بضع ساعة، فيما استمرت توابع الزلزال لمدة أربعين يوما، وهو ما دفع أهالي القاهرة إلى الخروج منها خوفا من رجوع الزلزال مرة أخرى، حيث خرج الناس إلى القرافة وأقاموا بها الخيام “وخرجت النساء حاسرات إلى الطرقات واجتمع العالم في الصحراء خارج القاهرة وباتوا ظاهر باب البحر بحريمهم وأولادهم”.

ولم يقتصر الزلزال على مصر والشام بل تعدى حتى وصل برقة وبلاد تونس وصقلية وقابس ومراكز ووصلت قبرص، أما الإسكندرية فكانت من أكثر المدن تضررا به، حيث “ذهب تحت الردم بها خلق كثير وطلع البحر إلى نصف المدينة وأخذ الجمال والرجال وغرقت المراكب”.

ويبدو من حديث المؤرخين أن الزلزال تسببت في حدوث تسونامي على شواطئ الإسكندرية وحتى وصل الموج إلى باب البحر وصعد بالمراكب إلى البر، وهو ما دفع سكان الإسكندرية للخروج من باب السدرة هاربين، ولما سكنت حركة الزالزل عادوا إلى مساكنهم.

زلزال غير وجه القاهرة

وتسبب الزلزال في سقوط العديد من المنازل والدور وتشققت الجدران وتهدمت مآذن المساجد والمدارس، حتى إنه لم يبق بيتا إلا وقد تهدم منه حائط أو وقع منه جانب وبقيت الأتربة والطوب أكواما أمام البيوت، فكانت وكأن العدو أغار على المدينة وخربها.

ومن المباني التاريخية الهامة التي تضررت بسبب هذا الزلزال جامع عمرو بن العاص حيث تشققت جدرانه وانفصلت أعمدته بعضها عن بعض، كما وقع سقف الجامع الأزهر وتشققت مئذنته، فيما تضرر بشكل بالغ جامع الحاكم بأمر الله عند باب الفتوح وسقطت المئذنتين والجدران وكان هو أكثر مبنى تأثر بسبب الزلزال، كما سقطت مآذن جامع الصالح طلائع وبعض جدرانه.

وفي الإسكندرية هدمت أكثر الأبراج والأسوار بالمدينة، وسقط جانبا كبيرا من منارة الإسكندرية حيث انشقطت وهدم أعلاها، كما سقطت أجزاء كبيرة من السور الشمالي للإسكندرية، كما تفطرت صهاريج المياه التي تغذي مدينة الإسكندرية بالمياه العذبة، وتسبب في عرقلة التجارة وأتلفت أموالا وبضائع عظيمة للتجار.

كما تدمرت مدن بأكملها في مصر، مثل سخا بالغربية حيث سقطت جميع دورها ولم يبق بها جدار قائم، كما تدمرت مدينة أبيار بالمنوفية وكذلك قريتين بالشرقية وخربت أكثر دمنهور بالبحيرة حيث لم يبق بها بيت عامر، ومدينة قوص في الصعيد.

وتقطعت الجسور التي كانت تمتد فوق نهر النيل بطول البلاد، ما تسبب في غرق الأراضي الزراعية التي تحميها هذه الجسور من ماء الفيضان مما ترك أثره السلبي على الإنتاج الزراعي.

عقاب إلهي

عنده وقع هذا الحادث الاستثنائي، عده المصريون أنه عقاب من الله على ما اقترفوه من معاصي ومنكرات، لذا كان من الطبيعي أن يلجأوا مجددا إلى الله لكي يزيل عنهم هذه الغمة.

فأخذ الناس في القنوط والدعاء والتقرب إلى الله حتى يرفع عنهم الزلزال، وذكر المؤرخون أن المصريين قضوا ليلة الجمعة وصباحه حتى إقامة صلاة الظهر وهم عاكفون في المساجد بين الأنقاض وأقاموا ليلتهم ويومهم واقفين يبتهلون إلى الله تعالى ويتضرعون.

وكما كان السلطان هو الآمر بإقامة هذه الاحتفالات التي اعتبرها المصريون سببا رئيسيا في وقوع الزلزال، كان عليه أن يتخذ قرارا بمثابة تكفير عما اقترفه، لذا دعا السلطان الناس إلى صيام ثلاثة أيام تقربا إلى الله حتى يخفف عنهم ما هم فيه بسبب الزلزلة، فرجع الناس إلى الله بالدعاء والاستغفار والتسبيح والصلاة.

كما اتخذ السلطان قرارا بإجبار الأمراء على المساهمة في عملية إعادة إعمار المساجد والجوامع والمدارس التي تضررت نتيجة الزلزال، وأن يشاركوا في تلك العملية من أموالهم الخاصة، وتم تقسيم عملية الإعمار كالآتي: الجهات التي تتبع السلطان مباشرة تم الإنفاق عليها من مال السلطان الخاص والمنشآت التي تتمتع بالأوقاف تم الإنفاق على ترميمها وإعادة بناءها من ريع هذه الأوقاف، فيما قام الأمراء بترميم الكثير من الجوامع والمدارس التي تهدمت وكذلك منارة الإسكندرية كل حسب منصبه.

واستمر المصريون مقيمين في القرافة خائفين من العودة إلى منزلة خشية عودة الزلزلة مرة أخرى، خاصة وأن المؤرخين يؤكدون أن توابع الزلزال استمرت أربعين يوما، تمثلت في هزات خفيفة أو سقوط جدار هنا أو مبنى هناك، ولم يعد المصريين إلى منازلهم إلا بعدما تأكدوا أن الغمة قد انكشفت، ومن اللافت أنهم وجدوا منازلهم قد نهبت من قبل اللصوص، بعدما تركوها فجأة بكل ما فيها وفروا بأرواحهم.

وهكذا انتهت أزمة الزلزال، الذي من فرط شدته وتأثيره في حياة المصريين في تلك الفترة، أن العامة اتخذته بداية لتاريخ شعبي خاص، فكانوا يؤرخون أحداثهم الشخصية بهذا الزلزال فيقولون حدث كذا قبل الزلزلة بعام أو بعد الزلزلة بعامين.

المصدر: دراسة بعنوان (زلزال عام 702هـ/1303م وأثره في مصر المملوكية) للدكتور سيد محمود محمد عبدالعال مدرس التاريخ الإسلامي بكلية آداب جامعة الفيوم.