الواقع دائما أغرب من أي خيال، فمهما بلغ خيالنا من شطحات وحلق في أفق اللامعقول، يأتي الواقع ليفجئنا بما لم يخطر على قلب أو عقل أعتى مؤلفي السينما ومخريجها وأكثرهم جنونا.

إلا أن هذه المرة، تأتي المفاجآت التي تتغلب على أي فيلم رعب قد تكون شاهدته يوما، من قلب التاريخ البعيد، وبالتحديد من منتصف القرن الخامس الهجري، في زمن الخليفة الفاطمي المستنصر بالله.

في تلك الحقبة، شهدت مصر فترة عرفت في كتب التاريخ بـ”الشدة المستنصرية”، اجتمعت فيها عدة مصائب على المصريين، مجاعة وأوبئة وفتنة طاحنة، حولت حياتهم إلى جحيم، وحولتهم هم أنفسهم إلى كائنات غريبة، كائنات أشبه بأبطال أفلام “الزومبي” وآكلي لحوم البشر ومصاصي الدماء!

وهذه ليست مبالغة، حيث نقلت العديد من المصادر التاريخية، مشاهد غاية في الغرابة والعنف من تلك الحقبة، لم تشهد مصر مثلها طوال تاريخها الممتد لآلاف السنين.

الشدة المستنصرية

في مطلع عام 454هـ، اندلعة فتنة كبيرة بين جنود الخليفة المستنصر الذي فشل في السيطرة عليهم، وبالتزامن مع هذه الفتنة، شهدت مصر نقصا كبيرا في مياه النيل، تسبب في قلة الطعام وارتفاع أسعاره وجفاف الكثير من الأراضي الزراعية، وبالتبعية انتشرت الأمراض والأوبئة، ومع استمرار الفتنة وتواصل الاقتتال بين الجنود، تحولت مصر إلى ما نسميه حاليا بـ”دولة منكوبة”.

ويقول المؤرخ تقي الدين المقريزي عن الشدة المستنصرية في كتابه “اتعاظ الحنفا”، إن الغلاء اشتد على المصريين، وقلت الأقوات في الأعمال، وانتشر الفساد والضرر، وكثر الجوع، وانتشر قطاع الطرق والسلب والنهب.

بل إن عمليات السلب امتدت إلى القصور الفاطمية التي نهبت تماما وأفرغت خزائنها، حتى أن الجنود سرقوا شواهد القبور التي دفن فيها الخلفاء السابقين في “تربة الزعفران” -خان الخليلي حاليا- وكانت محلاة بالذهب والأحجار شبه الكريمة، ووصل الأمر بالخليفة الفاطمي أن باع ثيابه إلى الجنود بهدف إخماد ثورتهم، إلا أن ذلك لم يفلح في تهدئتهم.

ومن شدة الغلاء، كان يباع كوب الماء الواحد بدينار، وبيع رغيف خبز في زقاق القناديل “كما تباع التحف” فبلغ سعره 14 درهما، ووصل الأمر إلى أن تم بيع حارة كاملة مقابل طبق خبز، بما يعادل رغيف مقابل كل منزل “فعرفت تلك الحارة بعد ذلك بحارة طبق”!

ونتيجة لهذه الأوضاع، تفشى الموت بين المصريين، فكان المنزل الواحد إذا مات فيه شخص، ماتت باقي أسرته في نفس اليوم أو الليلة، حتى عجز الناس عن موارات الأموات فصاروا يحفرون المقابر الجماعية، حتى تمتلئ بالرجال والنساء والأطفال، ثم يهال عليها التراب.

ويقول المؤرخ عز الملك المسبّحي، الذي عاش أيام الدولة الفاطمية في مصر، أن تفشي الموت، تسبب في فناء ثلثا سكان مصر، حتى بارت الأراضي نتيجة عدم وجود من يفلحها “وقيل كان الرجل يمشي من جامع ابن طولون إلى باب زويلة لا يرى في وجهه إنسانا يمشي في الأسواق”.

تطور مرعب

ثم تتطورت الأوضاع بشكل مرعب خلال الشدة المستنصرية ، في البداية، أكل الناس “جيف الحيوانات” هربا من الجوع، ثم بدأوا في ذبح وأكل الحيوانات التي لا تؤكل من الأساس، مثل القطط والكلاب، حتى بات الكلب الواحد يباع بخمسة دنانير ليؤكل، ثم انتقل الأمر إلى ما يمكن اعتباره فيلم من أفلام مصاصي الدماء، حيث بدأ المصريون في أكل بعضهم بعضا!

وفي هذا يقول ابن إياس في كتابه “بدائع الزهور”: “ثم اشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولا ينكر ذلك عليه أحد من الناس. وصار الناس في الطرقات إذا قوي القوي على الضعيف يذبحه ويأكله”.

فيما يقول المقريزي “وكان بمصر طوائف من أهل الفساد قد سكنوا بيوتا قصيرة السقوف قريبة ممن يسعى في الطرقات، فأعدوا سلبا وخطاطيف، فإذا مر بهم أحد شالوه في أقرب وقت، ثم ضربوه بالأخشاب وشرحوا لحمه وأكلوه”.

وأورد المقريزي قصتين كمناذج للمآسي التي شهدتها مصر في أيام الشدة المستنصرية ، تقول الأولى أن الوزير جاء يوما على بغلة فأكلها مجموعة من الناس، فأمر الوزير بشنقهم عقابا على جريمتهم! وفي اليوم التالي، اجتمع أناس آخرون وأكلوا جثث المشنوقين من شدة الجوع.

ويحكي عن سيدة كانت تقول “أنا ممن خطفني أكلة الناس في الشدة”، تقصد الشدة المستنصرية.

وتقول قصة هذه السيدة، التي لا تختلف كثيرا عن أفلام الرعب في أوقاتنا الحالية، إن أحدهم خطفها وأدخلها بيتا فيه سكاكين وآثار دماء، ثم قيدها وبدأ في تشريح أفخاذها وهي تصرخ ولا أحد يسمعها، ثم أوقد الفحم وبدأ يطهي اللحم الذي قطعه من جسدها ويأكله! وبعدما أكل، شرب حتى سكر فسقط مغشيا عليه، قبل أن تتمكن السيدة من فك وثاقها وتخرج من الدار وهي تزحف والدماء تسيل من جسدها، ثم أخبرت الناس بأمر الرجل آكل لحوم البشر، فتوجهوا إليه وقتلوه.