كان تعامل السينما المصرية المباشر مع حرب أكتوبر من خلال عدة أفلام لا تخرج عن كونها أفلامًا للاحتفاء بمناسبة، كمن أراد تسجيل حضوره حتى وإن كان حضورًا باهتًا، تم تنفيذها عقب انتهاء الحرب كدليل على مشاركة السينما في الحدث لتُعرض في الذكرى السنوية الأولى لحرب أكتوبر، لكن بمنطق تجاري متعجل، وجاءت لتملأ تعطّش المصريين لرؤية مشاهد من النصر الذي لم يتمكنوا من رؤية لقطات حية له.

كان الاستثناء في سينما حرب أكتوبر في السبعينات فيلم أبناء الصمت، الذي التقط مجيد طوبيا خيط أحداثه من أكثر الأحداث غموضًا، واقعة إغراق المدمّرة الإسرائيلية إيلات يوم ٢١ أكتوبر ١٩٦٧، الحادث الذي لم يكن حادثًا حربيًا عاديًا، إذ كانت صفته السياسية توازي صفته العسكرية، واعتُبر كقنبلة هائلة فجّرت الموقف العربي والعالمي، وكان نقطة تحوّل في استراتيجية إسرائيل تجاه المناطق العربية المحتلة.

قبل غروب كل يوم، ومنذ يونيو ١٩٦٧، وبحرية العدو تأتي على مهل، لتتجوّل متهادية أمام شواطئ بورسعيد، وكان الأهالي والجنود يرونها، فلا يملكون غير كتمان الغيظ. وحدث أن جاءت التعليمات لقائد المنطقة المصري بإبلاغ العدو رسالة عاجلة بالكف عن هذه الجولات، وفهم القائد الأمر، ومن فوره جهّز أسرع زوارقه المدرعة وأرسله بالرسالة إلى مدمّرة العدو القادمة، وكانت الرسالة مكوّنة من صاروخين “بحر-بحر”، وكانت المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا النوع من الصواريخ في معركة بحرية.

وكما يذكر المؤرخ عبد العظيم رمضان في كتابه تحطيم الآلهة، فإن هذه الصواريخ لم تُشتهر إلا عندما استخدمها المصريون لأول مرة في تاريخها! فكأن الحادث نفسه هو الذي أبرز أهمية هذه الصواريخ أكثر مما أبرزت الصواريخ الحادث، لأن الاستراتيجية البحرية العالمية لم تتغير بسبب اختراع الصاروخ السوفيتي (ستايكس)، وإنما تغيّرت بسبب استخدامه بعد أن وُضع في الاختبار على يد القوات البحرية المصرية. وفي هذا الضوء يجب تقييم الحادث.

وانطلقا ليصيبا المدمّرة في الصميم، قبل أن تستدير لتهاجمه أو لتفرّ منه، وعاد الزورق سالمًا، تاركًا المدمّرة تغرق، بعد أن فهم العدو الرسالة، وقد بلغته.

وحدث ترقّب لردّ العدو، وجاء الردّ على السويس بعد يومين فقط، وفي تمام الساعة الثانية والنصف بعد الظهر، جاء الردّ الإسرائيلي بفتح نيران المدفعية على ميناء السويس، ومخازن البترول بها، وعلى معامل التكرير بالزيتية القريبة من المدينة. واشتعلت النيران لتمسك بالصهاريج، والمباني، والآلات، وجهاز التفحيم، ومصنع السماد، ولتظلّ مشتعلة عدة أيام، إلى أن استطاع رجال الإطفاء محاصرتها ومنعها من الانتشار أكثر مما التهمت من مبانٍ وقتلت من مدنيين.

ويبدأ تتر الفيلم بحريق معامل تكرير البترول، وتدور أحداثه في تلك الفترة الحرجة من أيام مصر أثناء حرب الاستنزاف، لتنتهي بالعبور في أكتوبر عام 1973.

ففيلم أبناء الصمت لا يعبّر عن حرب أكتوبر وكأنها حدث هامشي تم إقحامه على البناء الدرامي، وإنما يضعها في إطارها وفق تسلسل الأحداث التاريخية الحقيقية، وكنتيجة حتمية لصمود الشعب والجيش في مواجهة الهزيمة.

في الحرب لا وقت للحزن، يرى الجندي رفيقه يسقط فلا يملك حقّ البكاء عليه، ليس أمامه سوى أن يحمل سلاحه ويواصل القتال، ويخبرنا لاحقًا عن حكايات من استُشهدوا في سبيل النصر لنعرف مدى قربنا منهم.

وبقدر ما يشير أبناء الصمت إلى أسباب الهزيمة، بقدر ما يشير إلى أسباب الانتصار أيضًا. فنحن نرى الجبهة الداخلية في القاهرة تعاني من العزلة والتفكك والانتهازية، ممثلةً في رئيس التحرير الذي يجعل من ماضيه الثوري مبررًا لحاضره الملوّث، والممثلة التي تقدّم له جسدها ثمنًا لنشر أخبارها، بما في ذلك أخبار زيارتها الدعائية الكاذبة لجبهة القتال.

وفي الوقت نفسه نرى الجنود على شاطئ قناة السويس وهم يقاتلون وينتظرون يوم تحرير الأرض المحتلة، وهؤلاء الجنود أو أبناء الصمت هم أبناء البلد الحقيقيون الذين يمكن أن تلتقي بهم في كل مكان: شلبي الفلاح، ومحمود العامل في السويس الذي رفض أن يغادر مدينته، وأبناء الطبقة الوسطى من الجامعيين صابر ومجدي وماهر وسمير، ثم عوض الجندي الذي شهد يوم الهزيمة، ومعاناته النفسية الجاثمة على الشاشة من خلال كوابيس يراها ونراها معه نائمًا ويقظًا، حتى قدّر له أن يشهد العبور.

وينتقل السيناريو بين جبهة القتال والجبهة الداخلية في القاهرة. ويذهب الجنود في إجازات قصيرة استعدادًا لعملية جديدة حيث نراهم في حياتهم العادية في القاهرة مع مجدي وخطيبته الصحفية نبيلة التي تكشف عن فساد صحافة تعمل لحساب السلطة، وفي تل العمارنة بالصعيد مع صابر، وفي مديرية التحرير مع محمود الذي لم يجد مفرًّا من مغادرة السويس بعد موت أمه في إحدى الغارات وتهجيرهم، وفي العملية الجديدة يستشهد مجدي. وهنا تأتي نهاية الفيلم مع بداية الانتصار.

لجأ السيناريو إلى كسر تسلسل الزمن والعودة لماضي الشخصيات؛ المرة الأولى من داخل الخندق فنرى محمود مع أمّه وزوجته الحامل في شهرها التاسع، وسمير مع خطيبته التي لا تدري كيف سيواجهان الحياة بجنيهات القوى العاملة القليلة، وماهر مع زوجته وابنته الصغيرة. والمرة الثانية عندما نشاهد هزيمة ٦٧ التي تطارد عوض في شكل كابوس، والثالثة ذكريات سمير في لحظة استشهاده، والرابعة عندما تقوم نبيلة بتحقيق صحفي مع زملاء خطيبها الذين كان يحدثها عنهم حيث نرى قصة استشهاده من خلال مشاهد متقطعة تتكامل في النهاية يرويها ماهر في المستشفى، ومحمود في مديرية التحرير، وصابر في قريته، وقائد الوحدة في جبهة القتال.

بعد استقباله مكالمة هاتفية لا نعلم فحواها يتوجه قائد الكتيبة إلى خندق الجنود مستدعيًا ماهر وسمير.

حصلوني-
مطلوب معلومات دقيقة عن مواقعهم الجديدة اللي ورا المعسكر الرملي، تطلعوا قبل أول ضوء، مدفعيتنا هاتضرب في الوقت دا.
وضبط النفس يا فندم-
انتهى-

معلّقين على الأمر بعد رجوع ماهر وسمير واطّلاعهم على خبر العملية القادمة:

كنت أجي أضرب يقولك عليك وضبط النفس، قال ضبط نفس قال، الواحد يضبط ساعة، يضبط حرامي، إنما يضبط نفسه طب فين؟

أهو معمل التكرير اللي ضربوه، كنت في أي مكان في السويس؟
أبص ألاقيه في الليل… في النهار… زي الفنار، كنت بحس جواه إني في بيتي.

واللي كان يقرا الجرايد ويسمع الإذاعة قبل النكسة كان يفكر:
إن إحنا تاني يوم هانكون في تل أبيب، ولا ملصقات الكاريكاتير اللي كانت على الحيطان، راسمين إسرائيل حشرة صغيرة تحت رجلينا.

سمعنا أصوات الشخصيات من خلال جمل الحوار، بساطتها وصدقها اختصرت الكثير من المشاعر والمعاني والصراع النفسي الذي عاناه الجنود أثناء حرب الاستنزاف والأوامر العسكرية بضبط النفس، وتضمّنت أحداث الحرب وتفاصيل العمليات السابقة دون إسهاب.

مشهدَا الخامس من يونيو والسادس من أكتوبر من أجمل مشاهد الفيلم من حيث تعبيرهما المكثّف عن معنى هذين اليومين في حياة المصريين. فإلى جانب الحركة البطيئة التي صوّرت شرود الجنود في الصحراء، استخدم عبد العزيز فهمي مدير التصوير الضوء واللون الذي أحال لون الرمال الصفراء إلى لون الحزن، واستخدم بليغ حمدي التيمة الشعبية للحن “يا بهية وخبريني على اللي قتل ياسين” ببطءٍ ثقيل كالعديد، معبّرًا تمامًا عن بطء حركة الجنود العائدين وثقل الهزيمة. وتحركت الكاميرا من اليمين إلى اليسار مع المنسحبين، ثم إلى اليسار لتعرض مقابر الشهداء في الصحراء، ثم إلى اليمين مرة أخرى كاشفةً مساحات من رمال الصحراء ليقوم المونتاج بالقطع البارع على مشهد رئيس التحرير والممثلة مدفونين في الرمال للاستجمام.

كان العالم يعتقد أن مصر بعد هزيمة يونيو ١٩٦٧ قد سقطت في هوةٍ ليس لها قرار، ولم يعد يحول بين إسرائيل وبين الوصول إلى قلب القاهرة قوة عسكرية ذات قيمة. وجاءت ضربة إيلات بمثابة باعثٍ معنوي متمثّل في حب البقاء، البقاء ليس بالمعنى المادي، وإنما بمعنى بقاء الشرف العسكري، حيث صنعته وطنية ضباط وجنود البحرية، حتى ولو كان في عملٍ انتحاري للثأر لهزيمتنا، وهو ما تمكّن جنودنا من تأكيده بعد ست سنوات في حرب أكتوبر ١٩٧٣.

ويبدأ مشهد أكتوبر والطائرات تقوم من مرقدها، والجنود يعبرون، ثم يصل المشهد إلى ذروته، والألوف تنتشر في سيناء، والعلم المصري يرتفع، ودماء جنودنا تختلط بالرمال، بعد أن شاهدنا حياتهم وعرفنا حكاياتهم بعيدًا عن ساحة القتال أحيانًا، وعلى الجبهة أحيانًا أخرى، لنرى أن أبناء الصمت هم أنفسهم أبناء النصر ودافعي ثمنه كاملًا.