الجو العام حينها كان حاراً، فنحن الآن في إحدى ليالي صيف 1961، حينها جلس الرجل العجوز يستمع إلى كثير من أغاني الجيل الجديد؛ جيل عبدالحليم حافظ وشادية ونجاة وفوزي وغيرهم، شعر بكثير من الحزن على حال الأغنية، لم يطق أن يصمت كثيرًا، قالها لنفسه بصوت عالٍ: لابد أن أتكلم، لابد أن أشكو بدلاً من الموت غيظًا.
تناول الرجل الستيني الذي أنهكه المرض سماعة التليفون الأرضي، أدار قرصه العجيب، فأجاب الطرف الآخر وهو صحفي: ألو
العجوز: ألو.. أنا صالح عبدالحي.. أريد مقابلتك غدًا.
كان الشخص الذي هاتفه العجوز هو الصحفي الهمام حسين قدري، الذي اندهش من مكالمة العجوز صاحب الماضي المجيد.
جاء الغد، وذهب حسين قدري ليلتقي صالح عبدالحي، أسطى من أسطوات الغناء في الزمن الذي ولّى، سهرا سويًا، كان الصحفي يحاول أن يظفر بمذكرات المطرب الكبير ليقدمها في الإذاعة بصوته، إذ كان يعتبر أن ذلك نصرًا سيظفر به، وسيتفاخر به أمام أباطرة الإذاعة حينها، وأمام أساتذة المهنة.
خرج بالفعل حسين قدري من اللقاء بصفحة واحدة من مذكرات صالح عبدالحي، ولكنها كانت صفحة في منتهى القسوة والعنف، واحتوت آرائه في العديد من المطربين والساسة ورموز المجتمع والناس والسلطة، الأمر الذي جعل الإذاعة المصرية بالطبع ترفض إذاعة ما احتوت عليه الصفحة الوحيدة، وتصبح طي الكتمان، عدا بعض الأشياء التي كتبها حسين قدري بعد وفاة صالح عبدالحي بنحو 6 سنوات.
ظلت تلك الصفحة في درج الصحفي، يطالعها يوميًا، يضحك ويبكي معها، حتى مع وفاة صالح بعدها بعام واحد (سنة 1962) كان ينظر إليها متمنياً لو جاء الوقت الذي يسمح بنشرها، وقد كان.
يقول صالح عبدالحي في صفحة مذكراته تلك:
10 يوليو سنة 1961
النهاردة الصبح، ولأول مرة في حياتي من 40 سنة، من يوم ما مات أبويا، بكيت، بكيت من غير دموع. قلبي بقى يبكي والدموع عاصياني ومش راضية تنزل. الولد محمد ابن أخويا دخل عليّ الصبح يجري وهو فرحان وسعيد وكأنه جاي يبشرني ببشرة هايلة، ويقول لي: عمي.. عمي.. مكتوب في مجلة
“الإذاعة” إنك هتغني يوم الاتنين الجاي في الراديو.
أخذت المجلة من إيده وحطيتها جنبي من سكات، عنده حق محمد يفرح لما يشوف اسمي مكتوب قدام غنوة ربع ساعة في برنامج “مع الشعب”، ربع ساعة دي أصلها الأيام دي تبقى كتير، أصله صغير ماشافش أيامي ومحضرهاش، يا سلام على الدنيا، لا بتخلي العالي يفضل عالي، ولا بتخلي الواطي يفضل واطي.
من خمس سنين وأنا قاعد مطرحي ما باقومش، كنت فين والعيا فين يا صالح؟! الروماتيزم هدني وخلاني بقيت واحد تاني خالص غير صالح عبدالحي اللي الناس تعرفه.
أنا دلوقت مجرد “ذكريات صالح عبدالحي”.. “ماضي صالح عبدالحي”، وكل ما افتكر الحاضر اللي أنا فيه وأزعل علشان نفسي، أهرب إلى الماضي، اللي كنت فيه وأعيش شوية مع صالح عبدالحي القديم.
فين أيام قبل محطة الإذاعة بتاعتنا دي ما تبقى موجودة، كانت فيه المحطات الأهلية، وبعدها جت المحطة الإنجليزية، أيام المحطة الإنجليزية دي كنت باغني ليلة واحدة كل أسبوع، وفي الليلة دي كنت أغني وصلتين كل وصلة 70 دقيقة في الدور الواحد، وكنت باغني الـ70 دقيقة دول بس تجاوزًا علشان وقت الإذاعة، يعني ماكنتش بدي الدور حقه، ولكن في الحفلات والأفراح كنت أغني الدور في ساعتين أو تلاتة، كنت أقف في الصيوان من دول وأغني من غير ميكروفون وقدامي 4000 نفر، اللي بعيد عني بيسمعني زي القريب وأحسن.
يوم افتتاح محطة الإذاعة بتاعة الحكومة غنيت أنا وعبدالوهاب وأم كلثوم كل واحد نص ساعة، غنيت أنا “ما هو إنت اللي جايبه لروحك بإيدك يا قلبي”، وده دور أصلاً بتاع “سي عبده”، اللي هو عبده الحامولي، مالحقتوش أنا، ولا حضرتش “ألمظ”، أصلها كمان ماتت قبله، لكن سمعت اسطواناته.
وغنيت أنا أول ما غنيت كان عمري 14 سنة، واتسجلت لي أسطوانات سنة 1920 في “بيضافون”، كانت الاسطوانة وقتها بريال، وريال زمان يعني جنيه دلوقتي، يا سلام، حتى الفلوس اتعفرتت.
أول اسطوانة سجلتها كانت “في مجلس الأنس المهني”، والمغني القديم زمان كان بيعتمد على صوته وبس، مش على المزيكا، لكن اللي بيغنوا دلوقتي بيعتمدوا على المزيكا لأن أصواتهم ضعيفة ما تقدرش على الحاجات اللي كنا بنعملها، وسمعت إن الأيام دي فيه واحد اسمه عبدالحليم حافظ بيقلدني وبيقول: “يا سيدي أمرك”، كلام فاضي، ولا فهمت هو عايز يقول إيه؟. سجن إيه وبتاع إيه؟ جاب الكلام ده منين؟
وسمعت من الناس معارفنا اللي بيزورونا عن واحدة بتغني اسمها شادية، ولّا فايزة أحمد، ولّا وردة الجزائرية، بيغنوا فين دول؟ في الراديو؟ ما سمعتهمش، ولّا اسمه إيه ده الأطرش! ولّا واحدة ست بتغني اسمها نجاة الصغيرة، اللي هي بتحبه ساكن قصادها، طبعاً، أمال عايزاه يكون ساكن فين؟ في البحر! الست دي أيوة أنا فاكرها، شفتها مرة، كنت معزوم في فرح ابن محمد عبده صالح “القانونجي”، قلت له يا عبده هات لي هنا حد من اللي بيغنوا أحسن مش سامعهم، راح جاب لي الست اللي اسمها نجاة الصغيرة، قعدت جنبي، بيني وبينها كام كرسي، وغنت، حاولت أسمع هي بتقول إيه، مقدرتش، رحت مقرب الكرسي بتاعي علشان أسمع بس هي بتقول إيه؟ برضه مسمعتش حاجة!
دلوقت مش بسمع راديو خالص، يا دوب التمثيليات، محاضرات، قرآن، لكن أغاني لأ؛ علشان الأغاني الأيام دي بقت عجب، الغنوة خمس دقايق على بال ما الواحد ياخد نفسه تكون الغنوة خلصت، أغاني النهاردة مونولوجات مش أغاني، فين الحاجات دي من أغانينا القديمة، يا سلام لما بسمع عبدالوهاب وهو بيقول: “يا ترى يا نسمة”، أو “يا جارة الوادي”، أو “سكت ليه يا لساني”.
أنا فيه ليا عندكم يا إذاعة 30 شريط من شرايطي القديمة، لا بتذيعوهم علشان تدوني فلوس ولا حتى بتذيعوهم ببلاش، حتى الشرايط اللي الإذاعة مشترياها مش بتذيعها غير كل كام شهر مرة، وفي إذاعة “مع الشعب” أخدتوا كل الحاجات دي ليه؟ واشتريتوها ليه؟ ودفعتوا فيها فلوس ليه؟ علشان ترموها في الأرشيف! هو يعني إنتو في نظركم إن المغنيين الجداد دول أحسن مننا، والقديم ده يتركن على الرف؟ ده تاريخ وتراث ومجد، لازم يفضل يُذاع على طول علشان الناس ماتنساهوش، حتى أمين عبدالحميد بتاع برنامج “أرشيف الأغاني” مش بيذيع حاجاتي، أمال فين القديم وفين الأرشيف بقى إذا كنتم مابتذيعوش الحاجات بتاعتي دي، يعني أنا لا طايل قديم ولا محصل جديد؟! حقه يا إذاعة، بطلوا ده واسمعوا ده!!
إلى هنا انتهت صفحة من مذكرات صالح عبدالحي، نشرها الصحفي حسين قدري في عدد 4 مايو من مجلة “الإذاعة والتليفزيون” سنة 1968.
وصالح مختلف على ميلاده، البعض يشير إلى أنها في 1896، وفقًا للسجلات الرسمية، لكن القريبين منه أكدوا أن سنة ميلاده كانت 1889، وهو ما يفسر وضوح معالم السن على وجهه في آخر صوره قبل وفاته، وربما نال منه المرض أكثر مما نال من آخرين، فجعله على هذه الحالة.
في كتاب “صالح عبدالحي.. فارس الطرب” للباحث محب جميل معلومات عن حياته الأولى، يقول إنه مولود في حارة درب الحلواني بالسيدة زينب، وأن أباه توفي قبل أن يبصر النور، فرباه خاله المطرب عبدالحي حلمي، الذي يعتبر النواة الأولى في تكوينه الموسيقي، ولكن وفاة الخال كانت صدمة له، فانتقل للعيش مع خاله الأكبر عبدالوهاب حلمي، وهناك تعرض لكافة صنوف العذاب والتي كادت إحداها أن تنتهي بقتله!
عاد صالح إلى أمه التي كانت قد تزوجت، فلم يستطع العيش معها، وتحت حاجة الفقر التحق بجماعة “الصهبجية” في المغربلين، وهم مطربين في الليل، وفي النهار كان لكل منهم أعماله، منهم من كان “مكوجي”، ومنهم من كان “صرماتي””، حتى جاءت اللحظة الفارقة في حياته، عندما غنى في منزل محمد باشا عرفي زوج الأميرة زبيدة شقيقة الخديوي عباس حلمي الثاني في منطقة حلوان، ومنها اكتسب شهرة، ليغني في بيوت الأسر الثرية في مصر.
انضم إلى فرقة منيرة المهدية، وغنى معها في مسرحية “توسكا”، وصار أحد أهم مطربي عصره مع أم كلثوم وعبدالوهاب، ولكنه وفي نهاية الخمسينيات لم يستطع أن يواكب رياح التغيير التي طرأت على الأغنية، فتراجع وهوى، وكان دائم الشكوى من حال الأغنية، فمات في 3 مايو سنة 1962، وخرجت الجنازة من منزله في حدائق القبة، ولم يسر فيها فنان واحد، بل لم تذع الإذاعة المصرية أغنياته حزناً عليه.
فمات صالح تاركًا مجموعة من الأغنيات المهمة والملهمة، ولكن تظل أهمها على الإطلاق “ليه يا بنفسج بتبهج وإنت زهر حزين”.