انتقل صالح خالد وأسرته إلى مدينة البيضاء في منطقة الجبل الأخضر في ليبيا، بعدما دُمر منزله في طرابلس العاصمة الليبية. لم يكن صالح الوحيد فالكثير من الليبيين لجأوا للاحتماء من ويلات الحرب في منطقة الجبل الأخضر الهادئة.
صالح الذي هرب من المعارك والصراع بين الميليشيات المسلحة والأجهزة السياسية، عمل كمزارع في منطقة الجبل الأخضر حتى يستطيع الإنفاق على عائلته ولكن وجد نفسه في مواجهة حرب أخرى وهي: التغيرات المناخية والزحف البشري على المنطقة وقطع الأشجار بغرض الاستثمار فيها.
يواجه صالح الثلاثيني سنوياً أمطار غزيرة ولكن في السنوات الأخيرة تحولت تلك الأمطار إلى فيضانات وسيول ضخمة تأكل الأخضر واليابس في طريقها وتجرف الجزء العلوي من التربة مما يفقدها خصوبتها وجودتها فيتراجع الانتاج.
تتداخل تأثيرات التغير المناخي مع بعض العوامل البشرية في منطقة الجبل الأخضر. إذ يقول قاسم محجوب أحد سكان المنطقة :”في السنوات الأخيرة تعرضت المنطقة إلى قطع كبير للأشجار اضافة إلى بناء عشوائي في طرق ومسارات الأمطار السنوية مما أدى إلى فيضانات وسيول ضخمة نجم عنها خسائر بشرية واقتصادية للمنطقة”.
تعتبر منطقة الجبل الأخضر، أكثر منطقة رطوباً في ليبيا إذ تتعرض لأمطار سنوية أكثر من المناطق الآخرى في ليبيا، تصل أحيانا إلى 600 ملم مقارنة بـ 50 ملم في المدن الأخرى.
تقع منطقة الجبل الأخضر في شمال شرق ليبيا، تتميز بتنوع حيوي واسع في الغطاء النباتي فيوجد بها من 75 -80 %من النباتات الليبية و 50 %من مجموع عدد النباتات المتوطنة.
كما يوجد بالمنطقة أكثر من 100 نوع نباتي يستخدم على نطاق واسع في العلاج الشعبي، إضافة لما لها من قيم اقتصادية مثل إنتاج العسل أو الصناعة.
في الفترة بين 2001 و 2020 فقدت ليبيا 273 ألف هكتار من غطائها النباتي وهو ما يمثل 4% من مساحة أراضيها، وكانت المنطقة الأولى المسؤولة عن هذه الخسارة بنسبة 54% هي منطقة الجبل الأخضر الليبية حيث فقدت وحدها 147 ألف هكتار في الفترة ذاتها.
نجم عن ذلك زيادة في الانبعاثات الدفيئة (مكافئ ثاني أكسيد الكربون) في نفس الفترة 22 مليون طن.
يقول د. محمد علي خليفة، رئيس قسم الغابات والمراعي بكلية العلوم الطبيعية بجامعة عمر المختار، إن آثار تغير المناخ في منطقة الجبل الأخضر تتمثل في تذبذب في كميات الأمطار، فأصبحت الدورة المطيرة غير معروفة زمنياً ومكانياً، ونجم عن ذلك اعصارات، لا نفهم أسبابها.
يردف: وكذلك السيول فهي ظاهرة جديدة ومستحدثة في الجبل الأخضر، هناك أمطار موسمية ونعرف مساراتها وكيف تبدأ وكيف تنتهي وهذا طبيعي.ولكن في الثلاث سنوات الماضية أصبحت غير متوقعة وتأخذ منحى أخر.
يوافقه الرأي الناشط البيئي وعضو هيئة تدريس بجامعة عمر المختار، عبدالسلام أقويدر، إذ يقول تتباين كميات الأمطار الهاطلة من عام لآخر وهذا هو الوضع الطبيعي والذي يعتمد على عدة عوامل من أهمها مدى تأثير المنخفضات الجوية وقربها من المحطات إضافة إلى أمطار تيارات الحمل ولكن بصفة عامة تتجه الأمطار في المنطقة إلى التناقص بمرور الزمن.
يرى أقويدر أن الخطر يكمن في تغيير سلوك الأمطار ففي حالة هطول الأمطار بشكل مستمر وبشدة كبيرة إذ يؤدي هذا يؤدي إلى تشبع التربة بالماء، وانعدام قدرتها على استيعاب كميات أخرى الأمر الذي ينتهي بهذه الكميات الكبيرة إلى جريانها على سطح الأرض مكونة سيول جارفة ويزداد الأمر خطورة في حالة وجود المنحدرات كما هو الحال في مناطق الجبل الأخضر.
من وجه نظر أقويدر أن تدخل الإنسان أدى إلى تحويل شكل الأرض من خلال إنشاء بعض المباني والوحدات السكنية بشكل عشوائي وغير مدروس مما تسبب في إحداث خلل في ميل الأرض، كما أن سد مجرى هذه السيول وعدم الاهتمام بمجاري صرف مياه الأمطار اضطرها للبحث عن مسار آخر لينتهي بها الأمر سيول جارفة تجتاح المناطق السكنية مسببة اضرار .
التغيرات التي طرأت على غابات الجبل الأخضر على مر السنين
تعرضت الكثير من المناطق في ليبيا إلى سيول جارفة أخرها سيول قرية تناكس في أكتوبر 2021 أدت إلى تدمير المنازل وجرف العديد من السيارات. كما أدت الفيضانات في 2019 إلى تدمير المنال وفقدان حياة شخصين، وفي عام 2018 بشكل غير متوقع اجتاحت السيول منطقة البياضة لتغمر اغلب منازل المنطقة مسببة أضرار وخسائر مادية. وفي نوفمبر 2020 أعلنت حالة الطوارئ القصوى من قبل مديرية الأمن بالجبل الأخضر نتيجة ارتفاع منسوب مياه الأمطار وحدوث السيول والذي ادى الى خسائر مادية فقط كما أعلنت المديرية.
خسائر السيول لا تقف عند التربة فقط، إذ يقول رئيس قسم الغابات والمراعي بجامعة عمر المختار، محمد خليفة، أن السيول الجارفة تتسبب في خسارة المزارعين والفلاحين حيواناتهم الداجنة والتي تعتبر مصدر دخلهم الوحيد.
النباتات النادرة في طريقها للإنقراض
تقع في منطقة الجبل الأخضر الكثير من النباتات والأشجار النادرة التي لا تنمو إلا في هذه المناطق، وتستخدم في الأغراض الطبية.
يقول الناشط البيئي عبد السلام أقويدر، إن الخطورة في النباتات النادرة أنها منحصرة في رقعة واحدة من العالم وفي منطقة الجبل الأخضر. إذا أي تغير في المناخ سيؤدي إلى تغير في احتياجات هذا النبات مثل احتياجه من مياه الأمطار ودرجات الحرارة وغيرها من المتطلبات البيئية الأخرى، وبالتالي سيؤدي ذلك إلى تدهور حالة هذا النبات ومن ثم انقراضها.
بسبب التغيرات المناخية والعوامل البشرية، خسرت منطقة الجبل الأخضر ما يقارب من 60% من الغطاء النباتي للنباتات والأشجار المتوطنة (النادرة) وفقاً للدكتور محمد علي خليفة.
وبسبب ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف وزيادة هطول الأمطار شتاء، زادت الآفات والحشرات والتي لها دور في تعفن وموت الأشجار، مما جعل الفلاحين يغيرون نشاطهم الزراعي إلى نشاط سياحي.
يرى خليفة أثر ذلك على إنتاج عسل النحل الذي يعتمد على أشجار Arbutus pavari الموجودة فقط في منطقة الجبل الأخضر، مما أدى إلى تدنى الإنتاج بسبب تغير موسم الأزهار والإنتاج الزهري، وكان لذلك مردود مباشر اقتصادي على مربي النحل.
يتفق معه الناشط البيئي عبد السلام أقويدر، فيقول درجات الحرارة المرتفعة ايضا لها أثر اقتصادي يتمثل في التأثير على خلايا النحل في المنطقة حيث خفض نشاط النحل بسبب عدم مقدرته على جمع الرحيق الكافي خاصة في فترة الظهيرة وبالتالي انخفاض كمية العسل المنتجة.
ويضيف درجات الحرارة في منطقة الجبل الأخضر تتباين من حيث معدلاتها من حيث ارتفاع المنطقة. وقد تصل درجات الحرارة في بعض مناطق الجبل الأخضر إلى مستويات أعلى من المعدلات الطبيعية، في فصل الصيف تتجاوز فيها درجة الحرارة العظمى درجة 40 مئوية بالرغم من أنها مناطق جبلية مرتفعة، ولكن السنوات الأخيرة هو طول موجة الحر زادت مدتها من عدة أيام إلى عدة أسابيع.
يتجلى ذلك في حرائق الغابات كما يقول أقويدر، فيرى أنها أصبحت سمة من سمات فصل الصيف والتي تكرر حدوثها بشكل كبير خلال الأعوام الماضية خاصة في الأيام الحارة التي تسود فيها الرياح الجنوبية الجافة النشطة احيانا. ففي عام 2013 نشبت عدة حرائق كان أكبرها من حيث المساحة حرائق الوسيطة شحات بمساحة 5400 هكتار تلتها حرائق منطقة بطة و وادي حبون بمساحة 907 هكتار وايضا حرائق منطقة رأس الهلال بمساحة 250 والتي أدت إلى خسائر في الغطاء النباتي الطبيعي وخسائر أخرى في الممتلكات إضافة للقضاء على أنواع كثيرة من الحياة البرية وتدمير موائلها . ثم توالت احداث الحرائق في عدة اماكن كثير في الجبل الأخضر حتى هذا العام 2021.
هل الحرب فاقمت الوضع؟
يقول د. محمد علي خليفة، إن البعض يعتقد أن الحرب لا أثر لها على التغيرات المناخية في منطقة الجبل الأخضر وهذا بالطبع خاطئ، لأن الحرب أثرت على عامل مهم جدا وهو ضعف الدولة وتطبيق القانون وضعف الأجهزة الامنية وانتشار السلاح بين المواطنين، الأمر الذي جعل من الاعتداءات على الأشجار في ازدياد وبشكل غير مسبوق في الجبل الاخضر ولا أحد يستطيع ردعهم أو إيقافهم بسبب حيازتهم للأسلحة البيضاء والثقيلة.
كما أن المواطنين المالكين للأسلحة ايضا قاموا بانشاء سدود وغلق مجاري مائية في مناطق كثيرة بالجبل الأخضر، وذلك خارج سلطة القانون، مما أدى إلى السيول وكذلك تجريف الغابات وتحويل الاراضي الي غير صالحة للزراعة. وبالتأكيد كل هذه الأمور كان من الممكن السيطرة عليها لولا الحرب والنزاع.
يقول د. علي النعيمي، الأستاذ بجامعة عمر المختار، إن الحرب فاقمت معاناة السكان المحليين، فالعديد من العوائل خسرت رب الأسرة حيث استشهدوا في جبهات القتال، ولكن المتبقيين يواجهون حرب التغيرات المناخية، فمثلا منذ عامين فقد شخصين على الأقل حياتهم في سيول بمدينة البيضاء بالجبل الأخضر وفقدت أكثر من 450 عائلة منازلهم.
يقول خليفة الجبل الأخضر ليس غابة فقط، فهو نظام بيئي متكامل تكون من مئات السنين وموجود في بقعة محدودة في ليبيا لا يمثل 1% من مساحة ليبيا، وأي خسارة في هذا الهرم البيئي ستؤدي إلى تدميره وسيكون لها أثر مباشر على الإنسان، لذا يجب الحفاظ عليه وتفعيل القانون الليبي الذي يعاقب على قطع الأشجار وحرقها.
- هذا التقرير بدعم من مؤسسة Climate Tracker