الاغتيالات أسلوب قديم في الصراع السياسي، مارسه الأقدمون بطرق عدة، وتاريخنا العربي الإسلامي يعرف كثيرًا من حالات الاغتيال القديمة، وأبرزها بالتأكيد الاغتيالات التي تمت لبعض الخلفاء الراشدين بسبب خصومة سياسية ودينية.

فيقتل أبو لؤلؤة المجوسي، عمرًا بن الخطاب، لأنه -وفق رأي أهل السنة والجماعة- كان مجوسياً من عبدة النيران، إذ قتل عمر بغضًا في الإسلام وأهله، وحبًا للمجوس، وانتقاما للكفار. ويقتل عبدالرحمن بن ملجم، عليًا بن أبي طالب، لأنه كان من الخوارج، الذين جمعهم به خلاف سياسي حاد.

وبرعت طائفة «الحشاشين» التي ظهرت في أواخر الدولة العباسية، وعهد السلاجقة في فارس، في مسألة الاغتيالات، حتى أنها انتهجت هذا النهج لأكثر من قرنين من الزمان. وفي العصر الحديث كانت الاغتيالات أسلوبًا يمارسه الكثيرون بتدبير من دولٍ وأجهزةٍ لاغتيال شخصيات سياسية تنتمي إلى دول أخرى معادية.

فيما دأبت أجهزة مخابرات دول معادية على اغتيال شخصيات علمية لإجهاض أي محاولة تقدم وإنجاز، كعملية اغتيال الدكتور يحيى المشد في يونيو 1980 مثلاً، التي اعترفت بها إسرائيل والولايات المتحدة رسميًا، من خلال فيلم تسجيلي مدته 45 دقيقة، عرضته قناة «ديسكفري» الوثائقية الأمريكية تحت عنوان «غارة على المفاعل»، وتم تصويره بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي.

وتناول الفيلم تفاصيل ضرب المفاعل النووي العراقي عام 1981، وفي هذا السياق كان لا بد للفيلم من التعرض لعملية اغتيال يحيى المشد في الدقيقة 12:23، باعتبارها «خطوة تأمينية ضرورية لضمان القضاء الكامل على المشروع النووي العراقي».

وذكر الفيلم أن الموساد «استطاع اختراق مفوضية الطاقة الذرية الفرنسية، واستطاع تحديد شخصية عالم مصري بارز وهو يحيى المشد، وعرضت عليه المخابرات الإسرائيلية الجنس والمال والسلطة مقابل تبادل معلومات حول المفاعل، وعندما وجد الموساد أن المشد لا يهتم بالتعاون معهم قرروا القضاء عليه».

سنوات قليلة للخلف

عملية اغتيال المشد كانت ضمن سلسلة من العمليات خطط لها جهاز الموساد الإسرائيلي، ومن بينها عمليات أخرى لم تتناولها الصحف بشكل كبير وقتها ومن دون التطرق إلى أية تفاصيل مهمة وخاصة، وهي محاولات اغتيال عبدالحليم حافظ، التي ذكرها مقربون منه في كتبٍ للتأريخ عن حياته، وصارت في طي النسيان.

يُقال إن عبدالحليم حافظ تعرض لثلاث عمليات اغتيال، كان أحدها في لندن، والثانية في بيروت، والثالثة في المغرب، لكنه نجا من العمليات الثلاث، حيث رأى الموت بعينيه في واحدة، بينما الأخريتان يُقال إنهما مرتا من دون أن يشعر، بل أبلغ عنهما بعد انتهاء الأمر بفترة طويلة.

ما السبب؟

مسألة وضع مطرب أو فنان على قائمة الاغتيالات من قبل دولة معادية، أمر غريب نسبيًا وغير منطقي، لكن اسم حليم كان شهيرًا لسبب بسيط، وهو أنه كان يغني كثيرًا من الأغنيات الوطنية، وقد وصل بمرحلة الصدق إلى أن يكون تأثيره متجاوزًا مصر، إلى كل من ينطق اللغة العربية في الشرق الأوسط.

ولكن متى تم وضع عبدالحليم على قائمة الاغتيالات كشخص غير مرغوب فيه وجوده من قبل الموساد؟

يعود تاريخ هذا الوقت إلى سنة 1970، وتحديدًا بعد آخر احتفال بعيد ثورة يوليو، وهو الحفل الذي أقيم بمدينة الإسكندرية، وأحيته السيدة أم كلثوم، ولكن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر أمر حينها بإقامة حفل آخر على وجه السرعة بعد يومين فقط من حفل كوكب الشرق، على أن يحييه عبدالحليم حافظ، لمعرفته بالحماس الذي يوقده العندليب في نفوس المصريين، إذ كان ناصر يعتبر حليم، ثروة قومية، وسلاح مهم وفعال ومؤثر، لاسيما أنه لعب دورًا هامًا جدًا في إلهاب حماس المصريين بعد هزيمة 1967، إذ كانت أغاني عبدالحليم «يا أهلاً بالمعارك» تذاع بشكل مستمر في الإذاعة وبين نشرات الأخبار والبيانات العسكرية.

ربما يعرف الكثيرون أن الإسرائيليين في هذا الوقت كانوا يعرفون كل كبيرة وصغيرة عن الفن المصري، بل كانوا يسمعون أم كلثوم وعبدالحليم، ويعرفون جيدًا دورهما في حفلات تبرعات المجهود الحربي التي كانت كوكب الشرق والعندليب يقيمونها في كثير من الدول. لكن ما لم يكونوا يعرفونه هو الأمر الذي كان يشعل حماس المصريين من أجل النصر، على الرغم من الضربات المتتالية التي كان يشنها الإسرائيليون على مناطق عديدة في الداخل المصري، ومن بينها على سبيل المثال الهجوم على مدرسة بحر البقر، والتي راح فيها أطفال مصريون أبرياء.

«كيف يقتنع المصريون بهذا البكباشي، ونحن أذقناه الهزيمة. كيف يتماسك هذا الشعب بهذه الدرجة، حتى أنهم لا يعترفون بهزيمة يونيو؟» هذه كلمات قالها موشي ديان في إحدى اجتمعات الكنيست، وفقًا لما ذكره خالد محيي الدين في إحدى مقالاته التي نقلها عن وسائل إعلام عبرية، فقاطعته رئيسة الوزراء جولدا مائير التي طلبت من مدير مكتبها جلب حقيبتها، وقالت للجميع: «أنا لدي الدليل على إشعال الحماس. هنا في هذه الحقيبة»، وأخرجت كاسيت بحجم اليد، وعندما أشعلته، انطلقت منه أغنية «يا بلادي لا تنامي». وبعد أيام تقدم رئيس جهاز الموساد بحافظة تضم تاريخ ميلاد عبدالحليم حافظ، وعدد أغنياته، وتاريخ حياته، وأرقام السيارات التي يركبها، وخريطة الحفلات التي قام بها، وسيقوم بها خلال فترة قادمة، وطلب من الدولة العبرية أن يتم التخلص منه.

سر الصفحة 211

في كتاب «السجل القذر للموساد» تكشف إحدى المنظمات السرية في إسرائيل والتي تحمل اسم «أبناء سلام»، وتحديدًا في الصفحة 211، صورة صغيرة لعبدالحليم حافظ، ومحاولة اغتياله في المغرب أثناء إحيائه حفل جلوس الملك الحسن، على العرش عام 1972، حيث كانت الخطة تعتمد على بعض الجماعات المعارضة لحكم الملك الحسن، وتمولها بعض الجمعيات اليهودية، حيث كان من المعتاد جلوس العندليب في إحدى الكافتيريات القريبة من الفندق الذي يقيم فيه، وتم وضع عبوة ناسفة في حقيبة سوداء كان يحملها شخص يجلس في ذات الكافيتيريا انتظارًا لحضور العندليب.

كان موعد حليم التقريبي للحضور في الثالثة عصرًا، حيث كان يجلس نحو ساعة، وبعدها يذهب إلى قاعة البروفات، فقام الرجل بتجهيز ساعة صفر الانفجار في الرابعة وعشر دقائق. كان عبدالحليم في هذه اللحظات يرتدي ملابسه، لكن الجماهير التي علمت بوصوله احتشدت بالآلاف أمام الفندق، وتأخر وصول عبدالحليم إلى الكافيتيريا.

ومع هذا التأخر، بدأ الرجل يتصبب عرقًا ويدرك أن أمرًا ما قد حدث، وأن الخطة لابد من تغييرها فورًا، وبالفعل حمل الرجل حقيبته المفخخة قبل خمس دقائق فقط من موعد انفجارها، وتركها في الشارع، فانفجرت في الموعد المحدد وقتلت أسرة مغربية مكونة من أب وأم وثلاثة أطفال، وأنقذت حياة حليم.

مجموعة «أبناء سلام» قالت إن خطة الموساد قد فشلت، وخسر الجهاز الإسرائيلي نحو 250 ألف دولار أنفقها على هذه العملية الفاشلة.

عبدالحليم حافظ مع لك المغرب الراحل الحسن
عبدالحليم حافظ مع لك المغرب الراحل الحسن

أعز الناس

في المغرب كانت محاولة اغتيال أخرى، ذكرها المنتج الراحل مجدي العمروسي في كتابه «أعز الناس»، إذ يؤكد أنه حضر هو وفريد الأطرش ووديع الصافي والملحنان محمد الموجي وبليغ حمدي، الشاعر محمد حمزة، أحد حفلات عيد الشباب في المغرب، وانصرفوا في الثالثة عصرًا، وعند وصولهم إلى الطريق العام الذي يبتعد لحوالي 2 كيلو متر عن القصر، سمعوا طلقات رصاص.

وصل الجمع إلى الفندق الذي يقيمون به، عندما سألهم الموظفون «هل اغتيل الملك؟»، فأصيبوا بالحيرة والانزعاج والتوتر، أما مدير الفندق فزاد في توترهم عندما أخبرهم بأن شخصًا أخبره بأن الملك مات ومعه عبدالحليم حافظ.

العمروسي قال لمدير الفندق بأن عبدالحليم لم يكن مع الملك في الحفل، بل كان في الإذاعة، فأخبره مسؤول الفندق بأن هناك انقلاب قد حدث في البلاد، وأن قوات الانقلاب سيطرت كذلك على الإذاعة.

أصاب العمروسي وكل الحاضرين قلق كبير على حياة عبدالحليم، وأجرى المنتج الكبير اتصالا به في الإذاعة، فرد حليم وقال إن كل شيء طبيعي، نافيًا كلام مدير الفندق بوصول أي قوات لمبنى الإذاعة. وعندما طلب العمروسي من حليم أن يترك الإذاعة ويأتي إلى الفندق خوفًا على حياته، أصر عبدالحليم على الوجود.

وما هي ساعات حتى أعلنت الإذاعة نفسها خبر الانقلاب وموت الملك، هنا أدرك الجميع أن عبدالحليم ليس في مأمن، بل رجحوا أن يكون شر قد حدث له، وعندما أرادوا الاتصال به لم يفلحوا.

جلس الجميع في بهو الفندق، قلقون على حياتهم، وعلى حياة حليم الذي انقطعت أخباره تمامًا، إلا أن الخبر الذي نشرته إذاعة طنجة في وقت متأخر من الليل عن فشل الانقلاب، وأن صحة الملك بخير ونجاته من الموت بأعجوبة، قد هدأت كثيرًا من روعهم وخوفهم على صديق العمر، وثروة مصر الحقيقية.

وفي الثالثة فجرًا عاد عبدالحليم إلى الفندق بهيئة غريبة جدًا، بملابس ممزقة متربة، وشعر مغبر، ووجه كله جروح، وعند وصوله أخبرهم بأنه يريد أن يأكل، ولما تناول طعامه وأصلح من هندامه، روى لهم الحكاية.

موت قريب.. ورصاصات لا تصيب هدفها

دخل على عبدالحليم أحد الأشخاص يحمل رشاشًا ويده على الزناد، وخلفه شخصين آخرين، وطالبه الشخص الذي يظهر وكأنه قائدهم أن يسير حليم أمامه، وبالفعل سار عبدالحليم أمامه ودخل به إلى إحدى غرف الإذاعة، وطالبه بأن يذيع البيان رقم (1) للانقلاب. سأله حليم لماذا اختاره هو وهو مصري، مؤكدًا «أكيد تعرف إن مفيش مغربي واحد مقتنع باللي بتعملوه».

حينها دفعه أحدهم في صدره حتى ارتطم العندليب بالحائط، ثم أخذه شاب آخر، وقال له إنه يغني كثيرًا للملك المغربي، وأنه لهذا سيذوق العذاب، ودفعه بالفعل بظهر البندقية. بعض من هؤلاء الأشخاص بدأ يتدخل من أجل رحيل حليم من الإذاعة، وما هي إلا دقائق حتى سمعوا أصوات طلقات الرصاص تدوي في الخارج معلنة أن قوات الجيش المغربي بدأت مواجهة أفراد الانقلاب.

بعد هذه المواجهة، نجح حليم بأن يحتمي بغرف وجدران، بل ونجح بعد أكثر من ثلاث ساعات كاملة من المواجهات أن يخرج إلى الشارع، قضى منها نحو نصف ساعة زاحفًا، حتى أن شخصًا مرافقًا له قد قتل نتيجة رفع رأسه فقط.

الطبيب الخاص بـ«عبدالحليم»، الدكتور هشام عيسى، في كتابه «حليم وأنا»، ذكر عن واقعة الاغتيال تلك أن العندليب كان يتواجد بالفعل داخل استوديو في الإذاعة لتسجيل أغنية يمدح فيها الملك، قبل أن يُفاجأ باقتحام أشخاص للمكان، وتقدم أحدهم إليه طالبًا منه قراءة نص بيانهم.

وقتها رفض «عبدالحليم» أن يذيع البيان، بينما هدده الضابط بالاغتيال للضغط عليه، رغم ذلك لم يرضخ له وأصر على موقفه، قائلاً: «أنا فنان لا أعمل بالسياسة، وأكره أن انخرط فيها»، لتُطلق عليه رصاصة، لكن لحسن الحظ أصابت أحد أفراد الأمن. بعدها اتجه الضابط إلى ملحن مغربي مرافق لـ«عبدالحليم» في الأستوديو، لينفذ الأخير رغبتهم، وظل «العندليب» محتجزًا في الداخل لمدة 6 ساعات، إلى أن نجحت قوات تابعة للملك الحسن من إحباط الانقلاب.

وبعد رحيل العندليب من المغرب، تبين أن وراء كل هذا جماعات يهودية، أرادت تنحية الملك المغربي، وقت وجود الوفد العربي هناك، وكأنها أرادت أن تضرب عصفورين بحجر واحد.

نجا عبدالحليم من محاولات الاغتيال تلك، والتي تكررت بشكل أو بآخر في بيروت ولندن، ليغني في آخر أيامه أغنيات انتصار حرب أكتوبر، معلنة انتصارًا كبيرًا لمصر، والعرب، والفن بشكل عام. حليم مات بسبب المرض، ولكنه شهد لحظات الانتصار، وشهد لحظات جني ثمار ما زرعه من حماس وقوة في نفوس المصريين جميعًا.