قبل قرابة مائة عام، شهد الريف المصري حادثة خطيرة اعتبرت أكبر حريق واجهته قرى الدلتا حتى الآن، بعدما التهمت النيران قرية “محلة زياد” في مركز سمنود بمحافظة الغريبة، وهو الحريق الذي لازالت آثاره باقية على جدران القرية حتى الآن.
ففي عصر أحد أيام عام 1934، تسبب أحد سكان القرية بدون قصد في إحراق منزل جيرانه أثناء زيارته لهم، حيث أمسكت النيران في “كوز ذرة” ألقاه بعيدا معتقدا أنه انطفأ، قبل أن يفاجأ سكان البيت بالدخان ينتشر في أرجاء منزلهم، إلا أن سرعة النيران لم تدع لهم فرصة لإطفاءها، فتركوها وفروا.
وبسبب قرب المنازل من بعضها البعض وامتلائها بالأخشاب وقش الأرز، امتدت النيران إلى جميع منازل قرية “محلة زياد”، للتحول القرية في ظلام الليل الذي أقبل عليهم خلال ساعات قليلة إلى كتلة من اللهب تضيء سماء الدلتا وسط صرخات الأبرياء الذين لم يجدوا مفرا من النيران وسط الظلام، وهو ما صعب من فرص هروب الأهالي الذين التهمهم اللهب واحدا تلو الآخر.
ويقول الباحث معتز أبو أحمد، في بحث له عن قرية محلة زياد، إن الحادث وقع في عهد الملك فاروق الأول، وكان عمدة القرية وقتها الحاج محمد شحاته عبيد “الشهير بعنتر”، لافتا إلى أن النيران انتشرت بعدما أمسكت في الطيور التي كانت على أسطح المنازل، والتي طارت من فورها فنشرت الحريق في باقي أرجاء القرية.
ويضيف أن من استطاع الهرب من النيران، لم يرحمه الدخان الذي صرعه خنقا، لينتهي اليوم وقد سقط مئات الضحايا، وحدث أن عروسة كانت في يوم صباحيتها حاولت الهرب من النيران فدخلت إلى حجرتها وأغلقتها عليها وأخذت تضع الأغطية والملابس على وجهها لتقيه من النيران والتشوه، فوجدت في اليوم التالي جثة هامدة بسبب الدخان الكثيف.
ونقلت الصحف في تلك الأيام، شهادة على لسان أحد شيوخ القرية الذي نجا من الحادث، أن النيران “هزت الأرجاء وأرسلت المدامع وأقضت المضاجع، فما هي إلا دقائق حتى تعددت الحرائق فأشتد الجزع وعلا الضجيج وارتفع الصياح”.
وكان لهذا الحديث وقع أليم في نفوس كل المصريين الذين تابعوا تفاصيله عبر الصحف، وخيمت حالة من الحزن الشديد على المجتمع المصري تحسرا على أهالي القرية المنكوبة، فانطلقت الدعوات للتبرع لإعادة بناء القرية، وكتبت الصحافة حينها إن الناس تسابقوا “الفقراء قبل الأغنياء إلى التبرع للمساهمة في إعادة بناء القرية البائسة المحترقة التي أضنى عليها الدهر وألتهمت النيران كل خيرها وطردت أهلها في عرض البر حفاة عراة جياعًا”.
ودعا مصطفى النحاس باشا زعيم حزب الوفد في ذلك والوقت -وكان في المعارضة- كل أنصاره ومؤيديه إلى التبرع لأنقاذ القرية، وكان على رأس هؤلاء السيدة “روزاليوسف” التي قررت بعد تسع سنوات من اعتزال التمثيل أن تعود إلى خشبة المسرح وتقدم مسرحيتها الشهيرة “غادة الكاميليا” على مدى ليلتين يخصص دخلهما بالكامل لمساعدة أهالي القرية المنكوبة.
وكان من الممكن اعتبار الحادث “ضارة نافعة” على القرية المنكوبة، ونقلة نوعية تاريخية في تطوير وتخطيط القرية المصرية في العهد الملكي عندما شرعت الحكومة في إصلاحها، إلا أن مشروع إعادة إعمار القرية تعثر ولم ينفذ منه إلا مرحلة وحيدة ثم تخلت الحكومة عن إكماله وتركت القرية للأهالي ليقوموا بأنفسهم بإعادة بناء منازلهم.
ففي البداية كانت تنوي الحكومة القيام بالبناء بدلا من الأهالي، ثم عدلت عن ذلك لكثرة ما تطلبته عملية البناء من نفقات، واكتفت بأن طلبت من الأهالي إعادة إعمار القرية على نفقتهم ولكن بشرط الالتزام بنماذج معتمدة في عملية البناء والتخطيط!
وكان تخطيط القرية -الذي لم ينفذ- مُنظّم فنيًا وصحيًا، عبر إقامة شوارع فسيحة بها ميادين صغيرة وميدان كبير، كما تضم التصميم مرافق عامة ومجموعة صحية وسوق تجاري ومكتب بريد ومجلس قروي ونقطة بوليس ومتزهات وملعب شعبي وحنفيات شرب وتوزيع عمومية، إلا أن شيء من ذلك لم يتم حينها، ولم تشهد القرية أي عملية تطوير إلا قبل سنوات قليلة ضمن عمليات التطوير المحدودة التي تشهدها قرى الريف بين الحين والآخر.
وإلى الآن، يمكن لزائري قرية “محلة زياد” اكتشاف آثار الحريق والذي باتت حكايته قصة شعبية خاصة بأهالي المكان يرونها جيلا بعد جيلا، عن يوم لم يروا مثلها أبدا.