يعتبر الكثيرون أن “كفن تورينو” هو الأثر الأكثر قيمة في الدين المسيحي، وهو عبارة عن قطعة قماش من الكتان، يعتقد أنها كانت الكساء الذي كفن به السيد المسيح عند دفنه طبقا للمعتقد المسيحي.
وقد تناوب ملايين المسيحيين حول العالم على زيارة هذا الكفن ورؤيته داخل كاتدرائية سان جيوفاني باتستا في مدينة تورينو الإيطالية، والموجود بها منذ عام 1578، لإيمانهم أنه مبلل بالدم المقدس للسيد المسيح.
وظلت تلك القطعة من القماش سببا في حيرة العلماء الذين ظلوا لعقود لا يعرفون كيف تشكلت صورة الوجه الموجودة على القماش، والتي تظهر صورة رجل مذبوح والجروح القاتلة تغطي ظهره والعرق والدم، بالإضافة إلى ظهور علامات الثقوب كندب على يديه وصدره وحلقة من الدم تحيط برأسه.
إلا التقنيات العلمية الحديثة، فجرت في السنوات الماضية جدلا ضخما حول حقيقة ذلك الكفن، بعدما أكد تاريخ الكفن باستخدام الكربون، أنه صنع بعد ميلاد السيد المسيح بأكثر من ألف عام!
ويقول وثائقي بعنوان “كفن دافنشي”، إن الألغاز حول تلك القطعة من القماش بدأت عام 1898، عندما قامت عائلة “سافوا” المالكة للكفن لأكثر من 400 عام، بتوظيف مصور ليلتقط الصور الأولى للكفن، لكنه اكتشف أمرا غير متوقع بالكامل، صادف لغزا، فقد كانت الصورة السلبية للكفن تظهر بها صورة السيد المسيح بوضوح ومفصلة لرجل مصاب بجرح بليغ، واعتبر الكثيرون أن ذلك أكبر دليل على أن الكفن يعود للمسيح فعلا.
وفي عام 1978، أعطت العائلة الإذن لفحص الكفن، فقام أكثر من 24 عالم بتحليل صورة الكفن الغامض، وكان الهدف من المشروع البحث في كيفية تشكل هذه الصورة، فقاموا بتحليله بالأشعة السينية وتحت الحمراء والبنفسجية، وكانوا كلما أجروا اختبارات بدت الصورة أكثر غموضا وأكثر حيرة.
في البداية اعتقدوا أنها ستكون لوحة مرسومة، ولكنهم لم يجدوا أي ضربات للفرشاة وألوان، ولأن الصورة كانت موجودة على السطح فقط، اعتقدوا أنها ربما تكون قد تشكلت عن طريق “الشيط”، وعندما صوروا الكفن بالأشعة فوق البنفسجية، ظهرت العلامات المشيطة ولمعت إلا أن صورة الرجل نفسها لم تشع، ما يعني أنها لم تصنع بالحرارة.
وفي عام 1988، أعطى الفاتيكان إذنا لأخذ قطعة لا تزيد عن 10 سم من الزاوية اليسرى من القماش، وإرسالها إلى ثلاثة مختبرات مستقلة للتأريخ بالكربون، وبعد ستة أشهر تم الإعلان عن النتائج، وسببت النتائج جلبة عالمية، حيث توصلت المختبرات الثلاثة إلى الاستنتاج نفسه، كانوا متأكدين بنسبة 95% بأن قماش الكفن صنع بعدما يزيد على الألف عام من ميلاد المسيح، أي في الفترة ما بين 1260-1390، ما يعني أن الكفن كان نسخة مزيفة صنعت في القرون الوسطى.
ويقول الوثائقي، أن هذا الاكتشاف أكد أن الكفن مزيف، ولكن أيا كان الرجل الذي زيف هذا الأثر الثمين، إلا أنه كان أستاذا متمرسا في فنه، وكان عالما واختصاصي تشريح ومبتكرا، حتى يستطيع صناعة مثل هذه الصورة المحيرة والعجيبة.
نظرية دافنشي
ويتساءل الوثائقي: من كان يمتلك تلك المهارة لرسم صورة كهذه في العصور الوسطى، بالتأكيد كان رجلا يرفض العيش متقيدا بقوانين الكنيسة، ولا يوجد من هو أجدر من الفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي ليقوم بهذا العمل.
ولكن لماذا خاطر دافنشي باللعنة الأبدية لتزييف أثرا دينيا كهذا؟ الجواب بحسب الوثائقي أن دافنشي لم يكن رجلا مسيحيا متدينا، كان رجل علم وليس رجل دين، رفض العيش حسب ضوابط الكنيسة الصارمة وكان يعمل السبت وكان نباتيا وكان يشتغل بالكيمياء، وهو ما جعله مهرطقا في عيون الكنيسة.
وعن دافعه، تقول إحدى النظريات أن دافنشي بادر إلى تزييف هذا الأثر بتفويض من زبائن أثرياء، لأنه سيعطي العائلة التي ستملكه مكانة سياسية ودينية كبيرة وستزودهم بالدخل في كنيستهم من المتوافدين لرؤيته.
خاصة وأنه لم تكن المرة الأولى التي يحاول فيها أحدهم تزوير كفن المسيح، فالسجل الأول لتزوير كفن المسيح يعود إلى فرنسا عام 1353، وكان ذلك الكفن الأول ملكا لعائلة “دو شارنيه” المتحدرين من فرسان الهيكل، كما أن العائلة من أقدم العائلات النبيلة في فرنسا، وكان يتوجه حشود هائلة من الناس لرؤية هذا الأثر، وهو ما زود عائلة “دو شارنيه” بثروة طائلة حتى القرن الرابع عشر حتى تم الإعلان عن أن ذلك الكفن من الواضح أنه مجرد “لوحة سيئة”.
حتى أن أحد الأساقفة اشتكى من هذا كفن عائلة “دو شارنيه” المزيف للبابا وقال إنها مهزلة واحتيال، في عام 1453 جلب رئيس عائلة “سافوا” هذا الكفن المشين من عائلة “دو شارنيه” وأخفاه لمدة 50 عاما إلا نادرا.
وفي مرحلة ما خضع الكفن لتحول أشبه بالمعجزة حين ظهر للمرة الثانية، حيث لم يكن تلك اللوحة السيئة الرسم، بل أصبح بالشكل الذي يظهر عليه “كفن تورينو” المحير حاليا، وأصبح هناك اعتقاد واسع بين المسيحيين أنه الكفن الحقيقي، حتى البابا نفسه أعلن صحته، وأشار بعض المؤرخين إلى أن سبب ذلك الاعتراف ظهور نسخة جديدة من الكفن محسنة وأكثر إقناعا.
ويرجح الوثائقي أن عائلة “سافوا” توجهت إلى الفنان الأشهر في العالم –ليوناردو دافنشي -لصنع نسخة جديدة من الكفن، خاصة وأنه كان يملك كل الأدوات والمهارات لصناعة هذا العمل، خاصة وأن هناك صلات تاريخية كانت تربط بين دافنشي وعائلة “سافوا”، بالإضافة إلى أن مهنة تزييف الآثار المقدسة كانت منتشرة في العصور الوسطى حيث كانت تجذب تلك الآثار النساك والحشود والأموال.
ويرجح كذلك أنه من المؤكد أن دافنشي أجبر على العمل في سرية تامة، حتى لا يتم التشكيك في صحة الكفن، حيث استعان الفنان الإيطالي بقطعة قماش قديمة حتى يضفي مزيد من المصداقية على عمله، وهو ما يفسر لماذا أن عمر القماش كما حدده الكربون سابق على ميلاد دافنشي بقرابة ستين عاما.
ولكن كيف صنعه الكفن؟
ويشير الوثائقي إلى اكتشاف صارخ يعزز نظرية أن دافنشي هو الذي رسم الكفن، حيث يعتقد أحد العلماء أن ثوب الدفن هو الصورة الفوتوغرافية الأولى التي التقطت في التاريخ، حيث يعتبر بمثابة صورة فوتوغرافية سلبية، وهذا دليل على أن الكفن صنع تصويريا.
وبالرغم من أن الكاميرات الفوتوغرافية لم تكن اخترعت حتى القرن التاسع عشر، فإن الأداة البصرية كانت سابقة لها، وهي كاميرا أوبكسيورا (صندوق الظلام) وكانت موجودة منذ عام 400 قبل الميلاد.
وقام هذا العالم بإجراء تجربة في صنع صورة على قطعة قماش من الكتان، عبر بناء غرفة تصوير مظلمة، حيث استطاع أن يصنع صورة شبيه تصويريا مستخدما أدوات وخامات كانت كلها موجودة في إيطاليا في الفترة التي عاش فيها دافنشي.
ولكن وجه من الذي استخدمه دافنشي ليطبع صورته على الكفن ويجعله الصورة الأبدية للمسيح؟
الإجابة جاءت عام 2009، عندما اكتشفت مصورة وفنانة بالرسم الحاسوبي أدلة في الصورة كشفت عن هوية هذا الرجل، تؤكد تورط دافنشي في عملية الاحتيال.
حيث توصلت تلك المصورة إلى أن دافنشي اتخذ صورته أنموذجا لصنع وجه الرجل الموجود على الكفن، واستعانت في ذلك بصور دافنشي التي رسمها لنفسه بالإضافة إلى لوحة “لسفادور موندي” التي يعتقد بعض مؤرخي الفن أنها صورة شخصية لدافنشي حينما كان شابا.