بالرغم من أن العلاقة بين العملاقين سيد درويش ومحمد عبدالوهاب، لم تدم فترة طويلة، نظرا للوفاة المفاجأة لدرويش التي أنهت مسيرته الفنية سريعا، إلا أن التأثير الذي تركه سيد درويش في نفس وألحان وموهبة عبدالوهاب كان واضحا ومؤثرا باعتراف عبدالوهاب نفسه.

فقد كان عبدالوهاب يرى أن ظهور سيد درويش في الحياة الفنية المصرية في مطلع القرن الماضي، كان له تأثير في حياة مصر والموسيقى الشرقية بوجه عام، حيث أعطى للثورة المصرية دما جديدا حارا سرى في عروقها.

ويصف عبدالوهاب، سيد درويش في كتاب “محمد عبدالوهاب.. سيرة ذاتية” للطفي رضوان، بأنه كان فنان صاحب رسالة جديدة، رجل ضخم الجسم، عريض المنكبين، أشبه بالمصارعين في صورته، ولكن في داخل نفسه روح الملائكة، وفي وجهه ملامح الموسيقار الشهير “بيتهوفن”، وتتميز ملابسه بالروح الفنية الخالصة التي كانت تدل عليها موسيقاه.

وعن ألحان درويش يقول عبدالوهاب: “كانت تنطوي على شيء لم تعتده أذناي أو تعهده روحي من قبل.. كانت فيها ثروة القديم، وجمال الجديد، ومع هذا وذاك دقة الانسجام”، مؤكدا أنه وجد في ألحان سيد درويش الشيء الذي لم يكن يستطيع أن يكتشفه أحد قبل سيد درويش، معتبرا أنه كان بمثابة “كولومبس جديد” اكتشف دنيا جديدة من الأنغام.

كان أول لقاء بين سيد درويش وعبدالوهاب، في مسرح ماجستيك، حيث كان يعمل عبدالوهاب مع فرقة الكسار، وجاء درويش لزيارة بعض أصدقائه هناك، كان عبدالوهاب لايزال صغيرا، وكان درويش سمع عنه قبل رؤيته بعدما شاعت أخبار ذلك المطرب الصغير، وعندما رأى سيد درويش عبدالوهاب في المسرح وتعرف عليه، احتضنه وقبله، وأخذ يبث في نفسه عبارات إعجابه وتشجيعه ويحثه على الاهتمام بموهبته.

إلا أنه حتى ذلك الوقت، لم يكن عبدالوهاب قد شاهد سيد درويش وهو يغني أبدا، وكان حبه له وتأثره به مقتصرا على سماع صوته في الاسطوانات، إلى أن جاءت اللحظة التي يعتبرها عبدالوهاب لحظة فارقة في حياته.

وعن ذلك اليوم يقوم عبدالوهاب، إنه توجه برفقة أحد أصدقائه إلى مسرح “برنتانيا” (مكان سينما كايرو بالاس الآن) لمشاهدة بروفات أوبريت “شهرزاد” لسيد درويش، حيث جلس في صالة المسرح يستمع إلى الألحان في إنصات.

ويضيف أنه في هذه اللحظة كان يجلس في خشوع وإنصات كما لو كان في مكان طاهر يصلي فيه صلاة روحية، وكانت الأنغام تصل إلى أذنيه كأنها أنسام رقيقة تتسلل إلى القلب في دعة ونعومة، ووجد نفسه في النهاية أسيرة موسيقى هذا الفنان الذي حرك في أعماقه كل هذا الفن الجميل.

وأثناء استماعه لألحان سيد درويش، وقع له حادث لم يستطع عبدالوهاب تفسيره مؤكدا أن “مثل هذا الحادث ربما لن يحدث مثله إلا في دنيا المجاذيب!”.

فقد بدأت الفرقة تؤدي بروفة لحن في رواية شهر زاد مطلعه “أنا المصري كريم العنصرين”، وجلس عبدالوهاب يستمع إلى اللحن ذاهلا عن كل ما حوله، ويقول موسيقار الأجيال “وما أن انتهى اللحن حتى رأيت نفسي أعدو بكل ما أملك من قوة، وظللت أعدو حتى وصلت إلى ميدان باب الحديد، ثم جلست على أحد الأرصفة التقطت أنفاسي وأمعن الفكر في السبب الذي دفعني إلى هذا التصرف الغريب! لم يكن ثمة سبب واحد أراه معقولا لتفسير ما فعلت، كل ما استطعت أن أصل إليه هو أنني سمعت لحنا خارقا لم أتعود سماعه، وأنني جريت بكل قوتي كما لو كان شيء مخيف يطاردني.. أما ما عدا ذلك فلا شيء!”.

وأخذ عبدالوهاب يتساءل عن سبب جريه بهذا الشكل وكأنه من المجاذيب: “هل هو إعجاب شديد كان مكبوتا في نفسي ثم انطلق مرة واحدة يعبر عن نفسه ويجعلني أطلق لساقي العناني بغير سبب ولغير وجهة؟! هل هي لحظة من لحظات الجنون التي تعتري العقل إزاء مصادفة خارقة أو صدمة نفسية تتفاعل في داخل المرء فتدفعه إلى مثل هذا التصرف الشاذ؟! هل هو مجرد مرح تولده السعادة الغامرة في قلب صبي صغير، فتجعله يعدو فحسب؟!”.

وفي النهاية لم يجد إجابة شافية، ولم يعرف سوى حقيقة واحدة، هي أنه قطع المسافة من التياترو حتى باب الحديد عدوا دون توقف، بعد أن سمعت ذلك اللحن!