كان السلطان المؤيد أبو النصر شيخ المحمودي، واحدا من سلاطين دولة المماليك الجراكسة، الذين حكموا في القرن الثامن الهجري، ومن أبرز الآثار المعمارية التي تركها، واحدا من أجمل مساجد مصر المملوكية، وهو مسجد المؤيد شيخ، الملاصق لأسوار مدينة القاهرة الجنوبية عند باب زويلة.

وبعيدا عن مسجده الذي يعتبر تحفة معمارية نادرة، إلا أن قصة العام الأخير في حياة المؤيد شيخ، تكشف إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يفعل كل شيء في سبيل احتفاظه بالسلطة، حتى ولو كان على حساب التخلص من أقرب الناس إليه، وتكشف أيضا إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يندم على أفعاله وأطماعه، ندما قد يقوده إلى نهايته السريعة.

صعود سريع

وصل المؤيد شيخ إلى مصر وهو في 12 من عمره، حيث اشتراه السلطان فرج بن برقوق، وتدرج في سلك المملوكية، وبسبب ذكاءه وفطنته، استطاع أن يترقى في المناصب سريعا، حيث دخل الحرس السلطاني، ثم عين أميرا للحج، ثم نائبا للسلطان على الشام.

وبسبب هذه المناصب والمكانة التي حصل عليها لدى السلطان، سعى الغيورين من المؤيد شيخ، للوقيعة بينه وبين السلطان فرج بن برقوق، حيث ادعوا أنه يسعى للتخلص من السلطان والاستيلاء على حكم مصر، فما كان من السلطان إلا أن استدعاه إلى القاهرة ثم حبسه في سجن “شمائل” وهو سجن شهير كان يعرف بأهواله والقصص الرهيبة التي يتعرض لها السجناء داخله.

وداخل السجن، نذر المؤيد شيخ لله نذرا، إن خرج حيا من هذا المكان، وتمكن من الوصول إلى حكم مصر، لسوف يقوم بهدم هذا السجن الكئيب، ويحوله إلى مسجد تتحاكى به الناس عبر الأزمان، وهو ما قد كان.

فبعد مقتل السلطان فرج بن برقوق، أخرج المؤيد شيخ من السجن، حيث تولّى الخليفة العباسي المستعين بالله الحكم، لمدة ستة أشهر، قرر الخليفة تعيين الأمير شيخ المحمودي نائبا للملك، ثم عينه شريكا في المُلك ولقّبه بـ”الملك المؤيد”، وبعد فترة ليست بالطويلة، استطاع المؤيد شيخ أن ينفرد بالسلطة ويبعد الخليفة العباسي إلى الإسكندرية.

وشاية كاذبة

كان للمؤيد شيخ ولد يدعى “إبراهيم” لا يختلف عن والده كثيرا من حيث الذكاء والإقدام، لذلك وضعه المؤيد شيخ على رأس حملة عسكرية لاسترجاع ما احتله التركمان في شمال الشام عام 822هـ، واستطاع إبراهيم تحقيق نصرا كبيرا وعاد إلى أبيه بعد قرابة عامين وهو يسوق أمامه مئات الأسرى.

وبسبب هذا الانتصار، سعى أحد قادة المؤيد شيخ للوقيعة بينه وبين ابنه إبراهيم، حيث وشى هذا القائد للمؤيد شيخ، بأن بعض الأمراء يرغبون في الإطاحة به وتعيين ابنه إبراهيم بدلا منه على السلطنة، ونصحه بضرورة التخلص من إبراهيم في أقرب فرصة حتى لا يتسع نفوذه وهو في نشوة الانتصار.

وفي هذه اللحظات، عمت شهوة السلطة المؤيد شيخ، وصدق الوشاية، فدعا ابنه إبراهيم، وكان قد دس السم له في الحلوى، وعندما تناولها بدأ الألم يسري في أوصال الشاب الذي لم يكن تجاوز العشرين من عمره، وبدأ يصرخ من فرط الوجع أمام عيني أبيه، الذي لم يتحمل صرخات ابنه وندم سريعا، وقرر أن يتراجع عن فعلته النكراء ويبحث له عن ترياق ينقذه من الموت ويخلصه من عذاباته، إلا أن السهم كان قد نفذ، وكان السم قد استشرى في أوصال الشاب، ولم تفلح معه كل الأدوية والعلاجات.

لقاء في الآخرة

ومات إبراهيم بعدها بأيام، بعدما تعذب وعذب أبيه، وخرجت جنازته من القلعة، وسار فيها كل المصريون، رجال الدولة والبسطاء، حتى وصلت مسجد المؤيد شيخ عند باب زويلة، حيث قرر السلطان أن يدفن ابنه في مدخل جامعه، حتى يمر بجوار الضريح كلما دخل أو خرج من المسجد، وكأنما أراد أن يذكر نفسه في كل صلاة أنه السلطان قاتل ولده!

وبعد الدفن، خطب إمام مسجد المؤيد خطبة مؤثرة، ذاكرا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما مات ولده إبراهيم عليه السلام قائلا “إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإننا بفراقك يا إبراهيم لمحزنون”، ولما سمع المؤيد شيخ هذه الكلمات، انخرط في بكاء شديد، وربما كان يتساءل في نفسه: كيف أقدمت على قتل ولدي بيدي؟!

وكان موت إبراهيم هو بداية النهاية للمؤيد شيخ، ففي العام ذاته، ومن شدة الحزن والندم، تكالبت الأمراض على السلطان، وفي 9 محرم 824هـ، لحق المؤيد شيخ بولده إبراهيم، ودفن إلى جواره تحت قبة مسجده، بعدما حكم مصر قرابة 8 أعوام و5 أشهر، تاركا مسجدا من أجمل مساجد بلد الألف مئذنة وقصة حزينة لا تخلو من العبر.