قضى 40 عاما من عمره جالسا على مقعد خشبي، محتضنا عوده، مكتفيا بأن يصبح واحدا من العازفين خلف “الست”، ليصبح أحد العلامات البارزة في حفلات أم كلثوم طوال سنوات.

قصة الملحن الكبير محمد القصبجي مع الفن ومع كوكب الشرق تحديدا، يعرفها الجميع ويعرف تفاصيلها، ونوادرهما معا، ولكن ما لا يعرفه الكثيرون، هو أن شيخ الملحنين عانى في سنواته الأخيرة من الفقر وضيق ذات اليد، بعدما أدار له الفن ظهره وتجاهله الجميع، ما اضطره إلى بيع منزله حتى يصرف منه على نفسه وأسرته التي يعولها.

مأساة حقيقية سجلتها صفحات مجلة “الاثنين والدنيا” في عددها الصادر في 21 فبراير 1960، بعدما نشرت خطابا مرسل إليها من القصبجي، الذي اختار للخطاب عنوانا اقتبسه من اسم أحد أشهر أغاني الست، أغنية “أروح لمين”، ليزيد جراح القراء ويعمق شعورهم بالحزن على ماضيه وفنه، ويوضح لهم حجم المعاناة التي بات يكابدها في سنواته الأخيرة.

“أنا في محنة.. إنني أدفع 15 جنيها إيجارا للبيت الذي أسكنه بينما دخلي لا يتجاوز عشرة جنيهات!”، بهذه الكلمات الصادمة، بدأ القصبجي خطابه الذي وجهه للجميع، وجهه لأهل الفن والإذاعة والمجلس الأعلى لرعاية الفنون، وقبلهم جميعا، إلى رفيقة الدرب، “ثومة” التي كان يلحن لها دائما “مجانا” ولا يطلب منها أي مقابل مادي على ألحانه، فقد كان أجره فقط، أن يراها وهي تردد ألحانه حتى يشعر أنه ملك الدنيا وما فيها.

يكشف شيخ الملحنين في ذلك الخطاب النادر، أوضاعه المادية المتردية، وكيف أنه بات غير قادر على إعالة أفراد أسرته وهو في الرابعة والستين من عمره، مؤكدا أنه لا يطلب إحسانا من أحد، بل حقا “حقي في الحياة وحقي على الفن الذي أنفقت كل سنى شبابي في خدمته.. وحقي على الفنانيين الذين يرددون حتى يومنا هذا ألحاني التي صنعتها لهم بالمجان!”.

ويسرد القصبجي مأساته بالأرقام، ليوضح حقيقة وضعه فيقول: “إن العمل الوحيد الذي يدر دخلا علي الآن هو عملي كعازف للعود في تخت أم كلثوم.. وأتقاضى منه عشرين جنيها في الليلة! ولكن أم كلثوم لا تغني كل ليلة.. إنها تغني كل شهر، بل سبعة شهور كل عام! ومعنى هذا أن دخلي يتوقف لمدة خمسة شهور في العام، وبحسبة صغيرة يمكن أن تعرف أن دخلي يبلغ 140 جنيها في العام، تخصم منها الضريبة والتمغة، وإذا وزع هذا المبلغ على السنة كلها لكان دخلي عشرة جنيهات في الشهر الواحد!”.

ولم يفت الملحن الكبير، أن يعبر عن ندمه لأنه لم يستمع لنصيحة أبيه، الذي كان يريد له أن يصبح من علماء الأزهر، حيث رفض التدريس واستقال واتجه للفن الذي أحبه وعاش من أجله، مختتما كلماته التي تقطر ألما بقوله “يا ليتني طاوعت أبي، ولم أجر وراء الخيالات والأوهام وأضيع عمري في خدمة الذين يتجاهلونني الآن!”.

صعوبة الحالة التي وصلها القصبجي، دفعت محرر المجلة، إلى تذييل خطابه، بنداء للجميع كي يتحركوا من أجل هذا الملحن الذي كان في مقدمة فناني الرعيل الأول، مطالبا أم كلثوم بأن تلتفت لأجر الرجل الذي لازمها وكان رفيقا لها وهي تصعد سلم المجد.

وأنهى المحرر نداءه قائلا “لقد بلغ القصبجي من العمر 64 عاما، ولم تعد به قدرة على الكفاح، فكرموه وأكرموه في شيخوخته، كما كرمكم وأشجاكم في شبابه!”.