لعب كلٌ من النجمين شون كونري وروجر مور دور الجاسوس البريطاني وهمي الإمكانيات چيمس بوند، في 7 أفلام. لكن بينما جسّد كونرى الشخصية كعميل مخابراتي محنك، وقاتل لا يرحم، ارتاح مور للعبها كمحاكاة هزلية لجاسوس يعرفه العالم كله، مبتعداً به عن جادة العنف، ومقترباً به من أحضان الكوميديا.

سنة (1983) شهدت فيلمين لبوند؛ Octopussy والمقصود الأخطبوط، بطولة مور من إنتاج شركة “إيون” المتخصصة في سلسلة أفلام بوند، وNever Say Never Again أو لا تقل لا أبداً، بطولة كونري وهو فيلم غير رسمي في السلسلة ينتمي لشركة إنتاج أخرى، وفي الوقت الذي حقق فيه فيلم مور نجاحاً في أمريكا أقوى من نجاح فيلم كونري، غلب فيلم كونري فيلم مور في الإيراد العالمي.

نعم، كونري هو بوند الجاد، الصارم، العنيف، إنما مور أقرب لروح الشخصية؛ مجرد كاريكاتير مُبَالغ فيه للترفيه. لكن يبدو أن أغلب الجمهور لم يعجب بذلك، ولا يريد الاعتراف به من الأساس.

المؤكد أن مور اكتشف مبكراً كون بوند شخصية كالقمر؛ لامع، مبهر، يتغزل الجميع فيه، لكنه في الواقع ليس إلا قطعة هائلة من الحجر الأصم، لا حياة فيها ولا يحزنون، لهذا – مثلاً – طالب مؤلفي السلسلة بكتابة العديد من الجمل الضاحكة على لسانه، وتقليل قتله لخصومه في أفلامه كبوند، ربما لرؤيته أن الوسيلة الصحيحة للتعامل مع حجر هى بمحاولة تخفيف وزنه، وتقليل حدته.

لذلك فى فيلم The Man with the Golden Gun أو الرجل ذو المسدس الذهبي (1974)، نرى المأمور الأمريكي يتعرّف على مور / بوند حين يراه بالمصادفة: “أنت هذا العميل السري من إنجلترا!” بينما الجواسيس “أناس بلا وجوه”؛ كما ردد مور نفسه في لقاءات تلفزيونية عديدة متهكماً على بوند الذي لا يكل ولا يمل من تقديم شخصيته، لكل الناس، في جميع مهامه، باسمه الحقيقي: “اسمى بوند، جيمس بوند”!

كذلك ستجد أن مور أحب ظهور الممثل ريتشارد كييل أمامه في شخصية “الفك المفترس” ضمن فيلمين لبوند، The Spy Who Loved Me أو الجاسوس الذي أحبني (1977)، وMoonraker أو مكتسح القمر (1979)، رغم أنه أطول وأضخم منه، ورغم أنه لا يُهزم أمام بوند، بل يظهره طوال الوقت ضعيفاً، بائساً. لدرجة أن بوند لم يستطع هزيمته في الفيلمين، وإنما غاية ما استطاعه هو مصادقته في الفيلم الثاني!

بل إن فكرة السخرية في أفلام مور امتدت من بوند كشخصية إلى أفلام المرحلة أيضاً، لنرى محاكاة كوميدية لأفلام أخرى داخل السلسلة البوندية؛ مثل أفلام فنون القتال أو الكاراتيه، في عز فورانها مع بروس لي ببداية السبعينيات، ضمن فيلم The Man with the Golden Gun، لكن عبر مشهد قتالي تتفوق فيه فتاتين مراهقتين على مور / بوند ! أو فيلم مثل Raiders of the Lost Ark أو غزاة التابوت المفقود (1981)، من سلسلة أفلام المستكشف المغامر إنديانا جونز، حين نتابع مطاردة لبوند عبر الأدغال ضمن فيلم Octopussy تحاكى مطاردات جونز في أدغال مشابهة بفيلمه المذكور، بفارق أن مور / بوند هذه المرة حينما يواجه نمراً يأمره مازحاً : “إجـلـس!” كأنه كلب بيت أليف، وهى –بالمناسبة– كلمة أضافها مور للحوار، وغيرها من الأمثلة التي تجعلنا نشعر بأننا نتابع سلسلة محاكاة كوميدية لأفلام، وليست سلسلة أكشن / جاسوسية / خيال علمى!

ولك أن تتخيل أن الأمر تعدى أفلام مور خارج سلسلة بوند ذاتها، فعند ظهوره في الفيلم الأمريكى الكوميدي The Cannonball Run أو سباق كرة المدفع (1981) في شخصية تسخر من چيمس بوند، سرت شائعة تقول بأن منتج أفلام بوند، ألبرت بروكولى، ضم بند “عدم السخرية من بوند خارج أفلام بوند” لعقد مور مع شركته، ليسيطر على هذا الذي يمسخر الشخصية خارج أفلامها، ويقيده بالمسخرة داخل أفلامها فقط!

 

..باختصار، مور كان الأكثر صدقاً في الاعتراف بتفاهة، وعبط الشخصية (عَبط فى اللغة العربية معناها: الكذب المختلق)، بارعاً في عرض جلدتها الحقيقية هذه. وفي رأيي، لا أدل على ذلك من تنكره في ملابس وماكياچ “مهرج سيرك” في فيلمه كبوند Octopussy ! المشكلة أن من سبقوه، ولحقوه، مصممون على التعامل مع بوند بجدية، تطورت للقتامة المغرقة مؤخراً، وهو ما يضاعف المفارقة بين أصل مسطح، مثير للتهكم، غايته التسلية وحسب، وصورة مزعومة العمق، خادعة الوقار، مفرطة الجهامة على نحو يناسب دراما لها معنى لم نرها حتى الآن!

**

أحمد عبدالرحيم – سيناريست وناقد مصري