لكل رئيس أو حاكم إنجازات وأخطاء، مؤيديون ومعارضون، إلا أن كل ذلك غالبا ما يصبح محض تاريخ بعد وفاة الرئيس، ولكن الأمر مع الزعيم الراحل جمال عبدالناصر يبدو مختلفا تماما، فحب مؤيدوه وأنصاره لم يمت يوما، كما أن صراع خصومه ومعارضي سياساته لم يتوقف حتى بعد مرور قرابة 50 عاما على وفاته، فلا يزال هناك من يسعى إلى محاربته حتى وهو تحت الأرض.

وكانت الشائعات، هي أشهر الأسلحة التي استخدمها خصوم عبد الناصر بعد وفاته للانتقام، ومن أغرب هذه الشائعات على الإطلاق، شائعة اختفاء جثمانه!

الشائعة ظهرت في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ولم تجد انتشارا بين عموم المصريين في ذلك الوقت، واقتصر ترديدها في أوساط جماعات وحركات بعينها كانت تكن عداء شديدا لعبد الناصر، إلا أن الشائعة عادت لتنتشر من جديد عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي مؤخرا، ويكفي أن تكتب على محرك البحث “جوجل” كلمتي “جثمان عبد الناصر” حتى تفاجأ بعشرات الصفحات على فيسبوك وتويتر التي تتناقل الشائعة وتحاول الترويج لها.

وينتشر عبر فيسبوك نص للشائعة منسوب إلى (لواء شرطة سابق) غير معروف الهوية، وإلى الشيخ “عبدالحميد كشك”، وكذلك إلى قصيدة مجهولة مكسورة الوزن ينسبونها إلى الشاعر عزيز أباظه مطلعها “لفظ الثرى جثمانه”، وعمد إلى نشر هذه الشائعة كل من الدكتور محمد الجوادي وآيات عرابي اللذين يعرفان بانتمائهما لجماعة الإخوان المسلمين، وخلال الأيام الماضية عادت تنتشر بشكل مكثف بالتزامن مع اقتراب ذكرى ثورة يوليو 1952.

تفاصيل الشائعة

وكان من الواضح أن من يروجون للشائعة يرغبون في إهانة عبد الناصر والنيل منه، حيث تقول أن جثمانه اختفى ولم يعد موجود في مكانه بضريحه الشهير بمنطقة حدائق القبة.

وينقلون عن “لواء سابق في الشرطة” لم يسمه أحد بالطبع، قوله إن الخدمة الشرفية على ضريح عبدالناصر فوجئت بعد وفاته بسنوات عديدة -وخلال حكم الرئيس أنور السادات- بصدور رائحة غريبة تخرج من القبر، فأبلغوا قائد الحرس الجمهوري في ذلك الوقت الليثي ناصف الذي أبلغ السادات بدوره، فأمرهم السادات بفتح الضريح ومعرفة سبب تلك الرائحة.

وتستكمل الشائعة بالقول أنه عقب فتح الضريح فوجئت الخدمة الشرفية بأن المياه تسربت إلى القبر، فقاموا على الفور بشفط المياه وتجفيف الضريح، ليفاجئوا بعدها أن الجثمان لم يعد موجود في مكانه.

رحلة الجثمان الأخيرة

توفي الرئيس عبدالناصر يوم 28 سبتمبر 1970 عقب انتهاء أعمال القمة العربية الطارئة، حيث وصل إلى منزله مرهقا لتسجل وفاته في السادسة مساء، وعقب إعلان الوفاة تم نقل الجثمان من منزله في منشية البكري إلى قصر القبة لتجهيزه لحين وصول الوفود التي ستشارك في مراسم الدفن والعزاء.

وفي صباح يوم 1 أكتوبر تم نقل الجثمان بعد غسله وتكفينه، بطائرة هليكوبتر من قصر القبة إلى مجلس قيادة الثورة بوسط القاهرة، ووسط حشود الملايين تحركت الجنازة بعد وضع الجثمان على عربة مدفع، ونتيجة الزحام الشديد وتكالب الجماهير على النعش، لم تستطع الجنازة الرسمية استكمال طريقها الذي كان مخططا له، حيث حمل الجثمان داخل مدرعة ونقل إلى الضريح الذي كان قد تم إعداده في منطقة حدائق القبة.

وخلال 40 دقيقة تقريبا تم نقل الجثمان من المدرعة والدخول به إلى المسجد ثم إلى الضريح، حيث ألقى أبناء الزعيم النظرة الأخيرة على والدهم، ثم أطلقت المدافع 21 طلقة تحية وداع لرئيس الجمهورية، ثم أدخل الجثمان إلى مثواه الأخير.

مسجد جمال عبد الناصر

يقع ضريح عبدالناصر حاليا على بعد أمتار قليلة من وزارة الدفاع، وعلى بعد مسافة قصيرة من المنزل الذي كان يقطنه هو وأسرته في منشية البكري، والضريح يحتل الطابق الأرضي من مسجد جمال عبدالناصر، فيما يخصص الطابق العلوي للصلاة.

بدأ العمل في بناء هذا المسجد عام 1962، وكان عبارة عن أرض أهدتها الدولة لجمعية “كوبري القبة الخيرية” بإيجار رمزي قدره جنيه واحد سنويا، ويبدو أن عملية بناء المسجد تعذرت في منتصفها، فأمر عبدالناصر في عام 1965 باستكمال المشروع على نفقة الدولة وبناء المسجد على الطراز العربي الحديث، بتكلفة بلغت 300 ألف جنيه.

واعتاد عبدالناصر التوجه إلى هذا المسجد وأداء الصلاة فيه لقربه من منزله، بالرغم من أن عملية البناء لم تكن قد انتهت فيه بشكل كامل بعد، وكان يستعد الرئيس الراحل لافتتاح المسجد رسميا، إلا أن وفاته المفاجئة حالت دون ذلك.

وحتى الآن لايزال الزوار يتوافدون على مسجد “جمال عبدالناصر” لزيارة ضريح الزعيم الراحل بشكل يومي، ولكن هناك ثلاثة أيام في العام تكثر فيها وفود الزائرين بشكل كبير، هي أيام 15 يناير الذي يوافق ذكرى ميلاده، و23 يوليو ذكرى الثورة، و28 سبتمبر ذكرى وفاته.

تحليل الجثمان

في سبتمبر من عما 2010، فجر الكاتب الصحفي الراحل محمد حسنين هيكل، جدلا واسعا بعدما تحدث في أحد لقاءاته التلفزيونية عن وجود شبهة لتعرض عبدالناصر للقتل بالسم، ساردا قصة عن إصرار أنور السادات على تحضير فنجان قهوة بنفسه لعبدالناصر خلال القمة العربية في اليوم الذي توفى فيه.

ونتيجة لهذا الجدل، أجرت صحيفة الأهرام حوارا مع نجل الزعيم الراحل، عبدالحكيم عبدالناصر، وسألته عن مدى قبول الأسرة للدعوات التي تطالب بتحليل جثمان عبدالناصر لمعرفة سبب الوفاة وكشف الحقيقة.

وأكد عبدالحكيم حينها أنه من الصعب على الأسرة قبول أمر تحليل الجثمان، تراكا مسألة اكتشاف سبب وفاة والده للأجيال القادمة، ومؤكدا أن الحقائق ستظهر حتى ولو استغرق الأمر عشرات أو مئات السنين.

وعليه، فإن ضريح الرئيس الراحل جمال عبدالناصر لم يفتح منذ وفاته في عام 1970 وحتى الآن لأي سبب كان.

رفع الحراسة عن الضريح

وظل ضريح عبدالناصر تحت مسؤولية رئاسة الجمهورية لما يزيد عن 40 عاما،  إلا أنه في يناير 2013، إبان حكم الرئيس السابق محمد مرسي، قررت الرئاسة رفع الحراسة التابعة لها عن الضريح.

وأكد عبدالحكيم في تصريحات صحفية حينها، أن الرئاسة أبلغت أسرة عبدالناصر عدم مسؤوليتها عن الضريح وقامت بإخلاء المكتب الذي كان موجودا به، تم إسناد مهمة الإشراف على الضريح إلى القوات المسلحة ووزارة الدفاع.

وانتقد عبدالحكيم حينها قرار الرئاسة، معربا عن دهشته من أن تتجاهل مؤسسة الرئاسة الكثير من الأحداث الهامة التي كانت تشهدها مصر في ذلك الوقت وتهتم برفع الحماية والإشراف عن ضريح عبدالناصر.

أغبى شائعة

وفي مقال له بصحيفة “فيتو” انتقد الكاتب أحمد رفعت قبل أيام، استدعاء بعض الشخصيات مؤخرا لما وصفه بأنه “أغبى وأسوأ وأتفه” شائعة ظهرت ضد جمال عبدالناصر وأطلقت أواخر السبعينيات، ساردا تفاصيل شائعة اختفاء الجثمان.

ويقول رفعت ردا على مرددي تلك الشائعة، إنها “لم ترو على لسان أي مسؤول رسمي أو شبه رسمي لا من قريب ولا من بعيد ولا تلميحا ولا حتى على استحياء”، وأنه لم يتم تداولها إلا على ألسنة خصوم عبدالناصر.

كما رد على إقحام الليثي ناصف في الأمر، مؤكدا أنه ترك عمله في الحرس الجمهوري وذهب للعمل سفيرا لليونان عام 1973 أي قبل الوقت الذي تدعي فيه الشائعة حدوث واقعة الاختفاء.

وأشار رفعت إلى أن الشاعر عزيز أباظه رحل أيضا عن عالمنا في عام 1973 ولم يكن ليكتب قصيدة بهذا السوء، كما أنه ألف أغنية شهيرة عن السد العالي غنتها له أم كلثوم ما يكشف حبه وعلاقته بالعبد الناصر، فيما لم تنشر هذه القصيدة الركيكة في أي من دواوينه لا في حياته ولا بعد وفاته، كما نشرت له ابنته عفاف مؤخرا، صورا تجمعه بعبدالناصر، ضمن كتاب لها، بعدما شعرت بالحرج من الزج باسم أبيها في مثل هذه الشائعات.

واختتم مقاله بالقول إن ضريح عبدالناصر “سيظل الأكثر زيارة في مصر، والأكثر على الإطلاق في برامج السياحة العربية والأفريقية وكافة دول العالم والثالث تحديدا، والأكثر طلبا عند العديد من القادة والساسة الدوليين، وهو نفسه زاد حب الناس لسيرته كلما هاجموه”.