تعد لوحة “العشاء الأخير” للفنان الإيطالي ليوناردو دافينشي، واحدة من أشهر الأعمال الفنية على مدار التاريخ، والتي تسجل واقعة شهيرة في التاريخ المسيحي، حيث التقى المسيح عليه السلام مع حوارييه للمرة الأخيرة.

وحتى يومنا هذا، لازالت لوحة دافنشي التي رسمها على أحد جدران كنيسة “سانتا ماريا” بمدينة ميلانو الإيطالية، تثير الكثير من الجدل، خاصة بسبب التقنيات التي استخدمها في الرسم، بالإضافة إلى وضعه عناصر اعتبرها البعض لا تنتمي إلى المفاهيم المسيحية التقليدية في ذلك الوقت.

ولكن المفاجأة أن هناك لوحة أخرى تسجل الواقعة ذاتها، ولكن بمنظور إسلامي، رسمها فنان مسلم، في العصر ذاته الذي عاش فيه دافنشي، ربما قبل رسم لوحة العشاء الأخير التي رسمت عام 1498م، وربما بعدها، فما قصة هذه اللوحة؟!

التصوير الإسلامي

يكشف الدكتور ثروت عكاشة في كتابه الكبير “موسوعة التصوير الإسلامي”، إن التصوير الإسلامي الديني ظهر في القرن الثالث عشر الميلادي، وبدأ يزدهر في القرن الرابع عشر، خاصة في الأراضي الخاضعة للمغول والدولة العثمانية وفي بلاد فارس، وكان يهدف إلى خدمة الإسلام وتوضيح النصوص الدينية وتسهيل فهمها.

ومع الوقت بدأ هذا الفن ينتشر، ويدخل إلى الكتب الدينية والتاريخية بألوان من الزخرفة، كما بدأ “التصوير الإسلامي” يتوسع ويتناول أحداث من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والأنبياء عليهم السلام، ومن بينهم نبي الله عيسى عليه السلام، الذي يرجح عكاشة أن يكون المصورين المسلمين احتفظوا أحيانا بصور مسيحية عن حياته، وربما احتفظوا بنسخ مصورة من الإنجيل.

وكان من بين اللوحات التي تناولت حياة الأنبياء والتي رسمت بأيدي فنانين مسلمين، هي لوحة تسجل “العشاء الأخير” بمنظور إسلامي، وجاءت هذه اللوحة ضمن مخطوطة كتاب “تاريخ خوندامير” المحفوظة حاليا بدار الكتب القومية بالعاصمة الفرنسية باريس.

العشاء الأخير

وترمز تلك اللوحة إلى نبي الله عيسى يجلس وسط أتباعه الحواريين وهم يجادلونه في رسالته ويسألونه برهانا على صدق دعوته، فسألوه أن يطلب من ربه أن ينزل عليهم مائدة من السماء فيها أصناف بعينها اختاروها.

وتبدو في المنمنمة هيئة السخرية على محيا بعض السائلين المتحدين، كما تظهر على هيئة الآخرين الدهشة والذهول، فيما تظهر على وجه المتحدث إلى عيسى الجالس أمامه نظرة المتحدي، حيث حاول الفنان تجسيد المشهد من وجهة النظر الإسلامي كما وردت في القرآن الكريم.

وقد أسدل الفنان الذي رسم المنمنمة خمارا ليغطي معالم وجه عيسى إلا أذنيه، كما وضع خلف رأسه شعلة من نور.

وبالرغم من أن واقعة “العشاء الأخير” وردت في الإنجيل والقرآن، إلا أن هناك اختلافا كبيرا بينهما، ففي الإنجيل، لم تكن الواقعة سوى دعوة دعا فيها عيسى إليه أصحابه في وداعه الأخير، وكانت تلك المأدبة التي وصفها الإنجيل والتي يتجلى فيها عيسى على أتباعه بروحانية عالية تجعل دمهم دمه ولحمهم من لحمه.

تاريخ خوندامير

ولا نعرف حتى الآن شخصية الفنان المسلم الذي قام برسوم لوحات ومنمنمات كتاب “تاريخ خوندامير”، ولا نعرف حتى إن كان من رسم لوحات الكتاب شخص واحد أو أكثر من شخص.

وخوندامير، هو عالم يدعى غياث الدين بن همام الدين الحسيني، ولد في منطقة هيرات بشمال أفغانستان الحالية عام 1475م، وكانت له العديد من الكتابات والمؤلفات التي أصدرها في عصر الدولة التيمورية، وتوفي عام 1535م، بمدينة ماند بالهند ودفن في دلهي.

ويظهر من ذلك أن خوندامير عاش تقريبا في نفس الفترة التي عاش فيها دافنشي الذي عاش بين عامي 1452 و1519، ما يرجح أن كتابه الذي صدرت معه هذه اللوحات والمنمنمات، كان تقريبا في الفترة ذاتها التي رسمت فيها لوحة “العشاء الأخير” لدافنشي، ربما قبلها أو بعدها بسنوات.

اختلافات وتشابهات

وفي الوقت الذي تضمنت فيه لوحة دافنشي شخصية المسيح وحوارييه جميعا البالغ عددهم 12 شخصا، لم تتضمن اللوحة الإسلامية سوى المسيح و6 أشخاص آخرين.

كما رسم الفنان المسلم لوحته معتمدا على بعدين فقط في التصوير، حيث كان الغرض هو توضيح المعنى أكثر من تصوير المشهد بشكل واقعي وبكل تفاصيله، كما أنه يظهر اللقاء بين المسيح وأتباعه في هذا العشاء في مكان طلق وليس داخل مبنى، حيث تظهر خلفهم الأشجار.

فيما اعتمد دافنشي على أبعاد ثلاثة للوحة التي تظهر بوضوح عمق المكان واتساعه، كما صور المشهد داخل منزل تظهر جدرانه بوضوح وحرص على رسم أبعاده بدقة.

كما تظهر المنمنمة الإسلامية شابا صغير السن في أسفل يمين اللوحة، يرجح أن يكون المقصود به هو “يوحنا” حيث يظهر بدون لحية ويافع، وهو الشخصية التي أثارت الكثير من الجدل في لوحة دافنشي والتي يعتقد البعض أن دافنشي قصد منها “مريم المجدلية”.