تظل فترة حكم الوالي عباس حلمي الأول لمصر، واحدة من أكثر الفترات المثيرة للجدل في تاريخ مصر الحديث، في ظل الأحداث الكثيرة التي شهدتها والتي كانت سببا في توقف عجلة بناء الدولة التي كان قد بدأت على يدي محمد علي.

وفي واحدة من الوقائع الغريبة التي صاحبت حياة هذا الوالي، واقعة قيامه بشراء حقه في التصديق على أحكام الإعدام دون الرجوع إلى الباب العالي في اسطنبول من أموال المصريين وإرهاقه لخزينة الدولة التي أغرقها في الديون، وهي الواقعة التي سجلها كتاب “مصر في عهدي عباس وسعيد” للمؤلف زين العابدين شمس الدين.

ويحكي زين العابدين، إن العلاقة بين عباس الأول والسلطان العثماني كانت مضطربة في بداية حكمه، نتيجة الخلافات الكثيرة التي وقعت بين عباس وبين مختلف أعضاء الأسرة العلوية، ما دفع كثير من الأمراء لترك مصر والإقامة في اسطنبول طوال فترة حكمه، حتى أن مجلس الوزراء العثماني فكر في استبعاد عباس في أول فرصة متاحة، إلا أن السلطان لم يكن يميل إلى هذه الخطوة.

القوانين العثمانية

وكان من أقوى مظاهر اضطراب العلاقة بين مصر والدولة العثمانية هو رفض عباس الأول طلب السلطان العثماني بتطبيق “التنظيمات -القوانين- العثمانية” في مصر، حيث رد عباس على هذا الطلب بأن مصر لديها قانون خاص وهو ما كان يعرف بـ”القانون العمومي” الذي أصدره محمد علي في مطلع عام 1844 وكان بمثابة تلخيص للقوانين الخاصة بالعقوبات إلا أنه لم يطبع وينشر إلا في مايو 1849، ومن ثم فقد عرف بين الأوربيين باسم قانون عباس وكان يحتوي على 26 مادة فقط.

وكان من أبرز أسباب رفض عباس لتطبيق القوانين العثمانية، أنها تلزمه بالحصول على إذن من السلطان العثماني قبل تنفيذ أحكام الإعدام، وقال عباس حينها، إن جده محمد علي كان يقوم بتنفيذ أحكام الإعدام في الذين ارتكبوا جريمة القتل مع سبق الإصرار دون الرجوع إلى السلطان العثماني في هذا الشأن.

واعتبر عباس أن حرمانه من هذا الحق -إصدار أحكام الإعدام- سيؤثر سلبا على صورته أمام المصريين الذين سينظرون إليه على أنه شخص غير مرضي عنه من جانب السلطان ولا محل ثقة يمكن ائتمانه على أرواح الناس.

تدخل بريطانيا

ولأن عباس كان يكره الفرنسيين، فقد لجأ إلى النقصل البريطاني في مصر “مري” وطلب مساندة إنجلترا له في هذا الشأن بأن تتدخل لدى السلطان العثماني للحفاظ على حق عباس في الإعدام، وهو ما وافقت عليه إنجلترا بالفعل، حيث رأت أن تطبيق التنظيمات العثمانية في مصر، سيكون متناقضا مع فرمان 1481 الذي حد من سلطات محمد علي بسبب توسعاته الشهيرة، واعتبرت أن مجرد انتشار الشائعات حول تطبيق القوانين العثمانية في مصر، سوف يؤدي إلى تهديد الأمن العام للبلاد.

وبرغم إرسال عباس لـ”أرتين بك” إلى الباب العالي في اسطنبول حتى يقنعه بوجه نظره بمساعدة إنجلترا، إلا أن أرتين فشل في ذلك، نتيجة تدخلات المصريين الموجودين في اسطنبول والذين كانوا حريصين على بقاء الخلاف بين السلطان وعباس.

وهو ما دفع عباس لتوطين علاقته بإنجلترا بشكل أكبر وتقديم العديد من الوعود لها بتوسيع نفوذها في مصر، شريطة أن تتدخل لتحسين العلاقات بين السلطان وعباس.

ثمن الإعدام

وقد أسفرت الضغوط التي مارسها وزير الخارجية البريطاني على الباب العالي وبمساعدة الدول الكبرى عن تحقيق مطلب عباس، فقد قدم السلطان العثماني تنازلا بسيطا؛ حيث أرسل فؤاد باشا عام 1852 إلى مصر. وقد تم التوصل إلى اتفاق مع عباس وتم التصديق عليه من الباب العالي.

ونص ذلك الاتفاق على منح عباس حق التصديق على أحكام الإعدام دون الحصول على إذن السلطان لمدة سبع سنوات فقط وفي حالات معينة، وذلك مقابل زيادة الجزية السنوية التي تدفعها مصر للدولة العثمانية إلى 400 ألف جنيه، وهو ما كان سببا في إرهاق خزينة الدولة نتيجة زيادة الأعباء المالية الإضافية التي تذهب للخزينة السلطانية.

وبالرغم من أن بعض المؤرخين كانوا يعتبرون ذلك صراعا من أجل الحصول على وجه من أوجه استقلال مصر عن الدولة العثمانية، إلا أن المثير للدهشة فعلا، هو أن عباس لم يركز على أي من بنود القوانين العثمانية سوى على حقه في التصديق على أحكام الإعدام، للحفاظ على هيبته أمام المصريين.