تعتبر محطة قطارات مصر في ميدان رمسيس، واحدة من أزحم البقاع في مصر حاليا، ويمر عليها مئات الآلاف يوميا من مختلف المحافظات، ومن يشاهد هذا الزحام اليوم وكم القطارات التي تمر على المحطة، يصعب عليه تصور كيف كان شكل المحطة قبل عشرات السنين، عندما كانت الصحافة تتفاخر بأن هناك 17 ألف مسافر يمرون على المحطة يوميا ذهابا وإيابا!

فقد نشرت مجلة “الاثنين والدنيا” في عددها الصادر يوم 12 مايو عام 1952، قبل شهرين تقريبا من اندلاع ثورة يوليو، تقريرا تتحدث فيه عما وصلت إليه محطة (باب الحديد) التي كان قد مر عليها وقتها 93 عاما، وكيف باتت شريان للحياة في القاهرة الكبرى ونقطة التقاء جميع المحافظات.

ويحكي الصحفي “محمد رفعت” الذي أعد التقرير، تاريخ المحطة قائلا، إنه في يوم 12 يوليو 1851 وقع مندوب والي مصر عباس باشا ومندوب “استيفنسن” مخترع القاطرة البخارية، عقد الاتفاق الخاص بإنشاء الخط الحديد الأول بين القاهرة والإسكندرية، نظير 56 ألف جنيه يتقاضاها الأخير.

وفي سنة 1856 بنيت محطة مصر، وكان ميدان المحطة أرضا فسيحة خالية يملؤها النخيل والأشجار، ولما نشبت الثورة العرابية في سنة 1881 تعرض مبنى المحطة للحرق، إلا أنها بنيت مجددا في العام التالي، وبقي الميدان على حاله حتى اعتمد المندوب السامي البريطاني اللورد “كتشنر” في سنة 1914 مبلغ 350 ألف جنيه لإنشاء ميدان باب الحديد، وقد أخذها من مال وزارة الأوقاف نظير منحها أرضا حكومية.

ويشيد التقرير بساعة المحطة العملاقة، مؤكدا أنها لم تخطئ منذ وضعت في برجها العالي من 67 عاما حينها! ذاكرا أن رئيس وزراء مصر النقراشي باشا كان يمر بها كل صباح وهو في طريقه إلى مجلس الوزراء فيأمر السائق بالتمهل حتى يستطيع ضبط ساعته عليها، ومع الوقت أصبحت الساعة أشهر عناصر المحطة، وبات برجها موضع التقاء المتظاهرين في صدر الحركة الوطنية، لتخرج منه مواكب زاخرة تتدفق في أنحاء المدينة هاتفة بالحرية والاستقلال.

ويتحدث التقرير عن الزحام الشديد بالمحطة معتبرا أنه وصل الذروة، وأنا الطوابير الطويلة أمام الشبابيك باتت مظهر معتاد ليل نهار، وأن المحطة تستقبل وتودع 17 ألف مسافر يوميا، يأتون إليها عبر 68 قطار يمرون على المحطة يوميا في الأيام العادية، تصل إلى 80 قطار في الأعياد والمواسم، وهو ما كان يدر على خزينة المحطة يوميا 4166 جنيها، أي نحو مليون وصف في السنة، أما رسوم نقل البضائع والحيوانات فتصل إلى 5 ملايين جنيه كل عام، ويبدو أن معد التقرير لم يكن يعلم أنه سيأتي يوم على المحطة، يصبح هذا الرقم من المسافرين أقل مما قد يحمله قطار واحد من القطارات الكثيرة التي تمر عليها يوميا!

أما عمن يعملون في المحطة، فيقول إنه إن لها رئيسا مركزيا يعاونه ثلاثة نظار ومساعد، وأربعون معاونا، و1600 موظف وعامل، بينهم 280 حمالا يخضعون لنظم التوظيف وتوقع عليهم عقوبات مثلهم مثل الموظفين بالضبط، وكان الحمالون يقسمون الأرصفة بينهم ويقسمون القطارات وكل فريق منهم يختص بركاب درجة معينة وبعربة من عرباتها.

ويذكر التقارير قصة الحمال الذي ألقيت على كتفيه حقائب سيدة سويدية عائدة من القاهرة إلى بلادها، فبعد أن ألقى الحقائب في عربة “البولمان”، جذبته من ذراعه القوية، ومضت به إلى حيث صار زوجا لها في أجمل وأغنى بلاد العالم، مؤكدا أن المرأة السويدية أعجبت بشباب الحمال ووجدت فيه فتى أحلامها “الشاطر حسن”.

كما تحدث عن الأرصفة الأحد عشر للمحطة، خاصة الرصيف الأخير الذي لم يكن العمل قد بدأ به بعد وكان سيخصص لقطارات الوجه القبلي، مؤكدا أنه لن يبدأ العمل في الرصيف قبل أن يتم نزع ملكية المباني القائمة حوله لينشأ مكانها ميدان فسيح يكون امتداد لميدان باب الحديد إلى مدخل شبرا (يقصد ميدان أحمد حلمي حاليا).

فسبحان مغير الأحوال!