فور تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر في عام 1863، قرر أن يبدأ خططه وأحلامه الضخمة التي كان يسعى من خلالها إلى تحويل مصر إلى قطعة من أوروبا، وبجانب العديد من الإصلاحات الزراعية والإدارية، كان له اهتمام خاص بالجانب العمراني والإنشائي.

وكانت من أهم ملامح هذا الاهتمام، هو إقامة مدينة جديدة على النسق الأوروبي، تكون عاصفة حديثة للبلاد، فبدأ في التخطيط لإنشاء القاهرة الخديوية على الضفة الشرقية لنهر النيل، وكان من لوازم المدينة الجديدة أن يتم نقل مقر الحكم إليها من القلعة، فقرر إقامة مقر جديد للعائلة المالكة في وسط المدينة الجديدة بحيث يصبح قصرا مركزيا رئيسيا للأعمال الملكية ومقرا لإقامة الحاشية.

ووقع اختيار الخديوي على منطقة عابدين لبناء قصره، وكانت في ذلك الوقت منطقة غير مطورة مليئة بالبرك ولا يوجد بها سوى القليل من المقابر والمنشآت والمنازل بالإضافة إلى قصر متواضع ملكا لـ”عابدين بيك” أحد قادة المماليك الذين انضوا تحت لواء محمد علي باشا.

وعلى الفور، سارع الخديوي إلى شراء المنازل والمنشآت، وأمر بنقل رفات المقابر إلى مكان آخر، كما استطاع أن يقنع أرملة عابدين بك بشراء القصر القديم، إلا أنها اشترطت على الخديوي قبل البيع أن يظل اسم زوجها مرتبطا بالسرايا الجديدة والمنطقة برمتها، وهو ما وافق عليه الخديوي ونفذه بالفعل.

وخلال أيام بدأ العمال في هدم المنازل المشتراه، كما بدأوا في نقل رفاة الموتى المدفونين بالمنطقة، إلا أنهم صادفوا شيئا غريبا، فقد كانوا كلما حاولوا إزالة ضريح ولي يدعى “سيدي بدران” والحفر لنقل رفاته، تعرض أحدهم لإصابة أو ألم به مرض مفاجئ، حتى اعتقدوا أن هذا الولي يرفض أن ينقل من مكانه وأنه سيؤذي كل من يصر على نقل رفاته، فأخذوا في التراجع وأخبروا المهندسين بالواقعة.

حاول المهندسون إقناع العمال بالحفر مجددا إلا أنهم فشلوا في ذلك بعدما وجدوا رفضا قاطعا من العمال الذين خشوا التعرض للأذى، فما كان منهم إلا نقل الخبر إلى الخديوي إسماعيل ليفصل في الأمر.

عندما علم الخديوي بالواقعة، انتابته الحيرة، ومما زاد من حيرته أكثر أن هذا الولي مجهول ولا يعرف الناس عنه الكثير، لا يعرفون سوى أنه كان رجلا صالحا يدعى “بدران” وأن الناس تزور ضريحه وتتبرك به، فما كان من الخديوي إلا أن اتخذ قرارا بعدم نقل الضريح وإدخاله ضمن تصميمات القصر الجديد حفاظا على حرمة رفات سيدي بدران وتجنبا لأي متاعب مستقبلية قد تواجهها عملية البناء.

وبالفعل، تم الحفاظ على الضريح وتجديده وبناء غرفة خاصة به مزخرفة ومنقوشة، ثم استكمل بناء القصر الذي شارك في تصميمه مجموعة من المهندسين المعماريين المصريين والأجانب تحت إشراف “ليو روسو” رئيس المهندسين المعماريين في القصور الملكية آنذاك.

ووفقا لصك وقف القصر المؤرخ في عام 1873، فقد بلغت مساحة السرايا 90 ألف متر مربع، بينما قدرت التكلفة الكلية للبناء بمبلغ مئة ألف جنيه مصري ذهبي، ليبقى تحفة معمارية من الزمن الماضي باقية حتى الآن.

أما ضريح سيدي بدران، فقد ظل قائما، وظلت العناية به مستمرة، حتى أن الملك فؤاد الأول قام بتجديد الضريح بزخارف نباتية ملونة وكتابات قرآنية مشابهة لتلك الموجودة في المسجد الواقع داخل القصر بجوار باب باريس، كما أعيد ترميم الضريح مرة أخرى في الوقت الحاضر، ضمن خطة عامة لترميم قصر عابدين.