شهدت مصر اهتماما واسعا بالطب منذ عهد المصريين القدماء، وكانت قبلة للراغبين في الاستشفاء الذين يأتون إليها من مختلف بلدان العالم القديم، حيث كانت هناك مؤسسات توفر العلاج في المعابد الفرعونية.

إلا أنه بعد اندثار الحضارة المصرية، أهمل الاهتمام بالطب بشكل كبير في العصور التالية، وعقب الفتح العربي، ظهرت بعض التجارب الطبية محدودة النشاط، التي كانت تمارس أنواعا معينة من الطب تتمثل في علاج الأمراض الشائعة التي يسهل مواجهتها ويقوم عليها بعض الأطباء بمجهود فردي دون رعاية من قبل الدولة.

إلا أنه في عهد أحمد بن طولون، شهدت مصر ظهور أول منشأة طبية، يمكن أن نقول عليها إنها كانت نواة المستشفيات التي عرفتها لاحقا في العصر الحديث، وهي المنشأة التي أطلق عليها اسم “البيمارستان الطولوني” أو “البيمارستان العتيق”.

و”البيمارستان” هي كلمة فارسية، معناها “مكان إقامة المريض”، وهي منشآت ظهرت في العصور الوسطى كانت تقوم بدورين متوازيين، علاج المرضى وتدريس الطب للراغبين في ممارسة هذا المجال، ولاحقا تم تحوير الكلمة لتصبح “مورستان” حيث أطلقت على المستشفيات المخصصة لعلاج الأمراض العقلية.

بني البيمارستان الطولوني في عام 259هـ تقريبا، أي قبل قرابة 1180 عاما من الآن، وتكلف 60 ألف دينار، وكان موضعه بالقرب من مسجد أحمد بن طولون الشهير، وقد أوقف عليه ابن طولون عدة أوقاف للصرف عليه من بينها سوق الرقيق، وكان يمنع أن يعالج فيه جندي أو مملوك، وإنما يخصص فقط لعلاج العامة من المصريين بالمجان.

ويقول أبو العباس أحمد القلقشندي، إن ابن طولون ألحق حمامين بالمارستان أحدهما للرجال والآخر للنساء، ومنع استخدامهما إلا من قبل المرضى، ووفر للبيمارستان الأطباء والصيادلة والخدم من مختلف الأديان والأجناس.

كما اشتمل البيمارستان على خزانة كتب، ضمت ما يزيد على 100 ألف مجلد في سائر العلوم، لمساعدة الأطباء على الاطلاع والبحث لتقديم أفضل خدمة طبية ممكنة للمرضى.

واشترط ابن طولوه أنه إذا جيء بمريض إلى البيمارستان تنزع عنه ثيابه وما معه من أموال وتحفظ عند أمين المارستان ثم يلبس ثيابا نظيفة وتقدم له الأدوية والأغذية حتى يتماثل للشفاء.

وكانت علامة شفاء المريض بعد علاجه في البيمارستان، أن يتمكن من تناول فرخة كاملة ورغيف خبز، فإن استطاع ذلك سمح له بالانصراف بعد استعادة ماله وثيابه، وإن لم يستطع، اعتبر أنه لازال مريضا، واستمر احتجازه لحين شفائه التام.

ويضيف أن ابن طولون كان يتوجه في كل يوم جمعة إلى البيمارستان للإشراف عليه ويتفقد خزائنه وما فيها ويتابع الأطباء وحالة المرضى.

ويبدو أن الاهتمام بالطب والعلاجات كان يستهوي ابن طولون بشكل كبير ويقدر قيمته، فبالإضافة إلى البيمارستان، خصص ابن طولون مكانا للوضوء وخزانة للشراب في نهاية جامعه، وضع فيها كمية كبيرة من الأدوية والعلاجات وأوقف عليها طبيب كان يتواجد بشكل دائم فيها، فيما يشبه وحدة إسعاف، لإنقاذ أي شخص من المصلين يقد يفاجأ بمرض عارض أو ألم.

ومن أشهر الأطباء الذين عملوا في البيمارستان الطولوني، الطبيب سعيد بن نوفل، وكان قبطيا يعمل في خدمة أحمد بن طولون، بالإضافة إلى الطبيب شمس الدين المصري الذي كان يدرس الطب بجامع ابن طولون.

وعندما زالت الدولة الطولونية، وعاد العباسيون لحكم مصر، قاموا بتدمير مدينة القطائع التي بناها أحمد بن طولون وإحراقها، وكان من جملة ما تضرر من عملية التدمير تلك، البيمارستان، وهو ما دفع عددا من الشعراء للتحسر على حال تلك المنشئة الطبية الفريدة من نوعها، وكتبوا أبياتا يصفون فيها كيف كانت متسعة ومجهزة ونظيفة، وكيف كان يلقى المرضى فيها رعاية خاصة لا يجدون مثلها في مكان آخر، ومن يتوفى منهم يتم تكفينه ودفنه بالشكل اللائق مهما كانت منزلته.

وبالرغم من ذلك، عاد البيمارستان الطولوني إلى مزاولة نشاطه الطبي خلال عهد الدولة الفاطمية في مصر وكذا الدولة الأيوبية، إلا أنه لم يكن بذات القوة والتأثير الذي كان عليهما أيام أحمد بن طولون، ومع الوقت توقف نشاط البيمارستان تماما وأهمل، وتهدم وزال كل أثر له.

ويظل البيمارستان الطولوني ذي أهمية خاصة في تاريخ مصر الإسلامية، كونه أول منشأة طبية متكاملة تظهر في ذلك العصر، والتي تم الاستعانة بتجربتها في كل المنشآت الطبية والبيمارستانات التي أنشئت لاحقا في العصور التالية، كما أنها وبالرغم من إنشائها مبكرا، إلا أن الخدمات الطبية التي كانت تقدم بها ظلت متميزة ومتفوقة على ما تلاها من منشآت لاحقة، بل ربما تفوقت على بعض المنشآت الطبية الموجودة في عصرنا الراهن.