إن التاريخ مليء بشخصيات وزعامات، تحولت مع مرور الزمن إلى رموز وأيقونات، بفضل إنجازها حينا، وبفضل محبوها ومريدوها حينا آخر، الذين كانوا يرون في هذه الزعامات شخصيات غير اعتيادية لا يمكن مقارنتها بغيرها من البشر، وتناسوا أنه مهما كان إنجاز هذه الشخصيات، إلا أنها تظل في النهاية كغيرها، تصيب وتخطئ، وتواجه لحظات ضعف قد تصمد أمامها وقد تخفق.

وتعتبر مذكرات الزعيم المصري سعد زغلول، واحدة من أصدق المذكرات السياسية التي كتبت في تاريخ مصر الحديث، وكانت تتمتع بنبرة من الأمانة تثير الدهشة، فقد كان يكتبها لنفسه، وكأنها جدل مع الذات أو محاولات للتقويم النفسي، حيث لم يخجل سعد خلالها ذكر أي شيء مهما كان صغيرا أو كبيرا، مهما كان مدعاة للفخر أو سببا لتأنيب الضمير، وهو ما أظهره كشخصية حية، لا مجرد رمز أسطوري.

وفي فيلم وثائقي بعنوان “سعد زغلول.. رموز من الذاكرة”، يكشف الجوانب الإنسانية ولحظات الضعف النادرة التي سجلها سعد في مذكراته، بشكل مذهل، لم يقدم عليه غيره من السياسيين ولا حتى غير السياسيين، وكان بها أشياء شديدة الخصوصية، حتى أن البعض اعتقد أن سعد زغلول عندما كتبها لم يكن يعتقد أن هناك من سيضطلع عليها.

بدأ سعد زغلول كتابه يومياته في عام 1897 وظل يحافظ عليها قدر استطاعته وحتى سنواته الأخيرة، وأوصى بأن تكون تلك المذكرات في حوزة خليفته في زعامة الوفد، حيث انتقلت بعد وفاته إلى خزانة مصطفى النحاس الخاصة ببنك مصر، وفي عام 1963 قرر النحاس إعطاء الدكتور بهي الدين بركات حق الحراسة على هذه المذكرات، إلا أن الحكومة المصرية في العام ذاته، قررت إنشاء لجنة لإعادة كتابة التاريخ، فحصلت الحكومة على تلك المذكرات وأودعتها دار الوثائق القومية الموجودة بها إلى الآن.

ومن المواقف الصعبة التي واجهها سعد وأسرته والتي دونها في المذكرات، أزمة حياء قانون المطبوعات الذي كان يقصد من ورائه تقييد حرية الصحافة في ذلك الوقت لمواجهة الأصوات الثورية التي كانت تناهض الاحتلال، وكان سعد بوصفه وزيرا للمعارف، عضوا في لجنة دراسة القانون.

ويحكي في مذكراته أيام الخوف التي عاشها وزوجته بسبب ما كان يتلقاه من تهديدات بالقتل من المواطنين، حتى أن أحدهم ألقى إليه خطاب عبر النافذة ذات مرة كتب فيه “قد خنت أمتك ولابد من قتلك ولو بعد حين”.

وفي مرحلة لاحقة، وعندما يتولى وزارة الحقانية، تقدم سعد زغلول باستقالته، اعتراضا على اعتقال الزعيم محمد فريد دون إذن منه كوزير للحقانية، وهو ما كان سببا في بقائه في المنزل لسنوات، وكأنه “عاطل” لا يجد ما يفعله، وكانت تشكل الوزارات الواحدة تلو الأخرى دون أن يأتيه هاتف من أي مسؤول في الحكومة يطلب منه أن يشارك في الوزارة.

ويروي سعد حالته النفسية في تلك الفترة بكل أمانة، كاشفا أنه ونتيجة ظروفه المالية، وصل به الأمر للتفكير في وسيلة للتقرب إلى الخديوي أو المندوب السامي البريطاني حتى يجد عملا، إلا أنه كان ينفر دائما من هذه الخطوة وكانت يتراجع عنها في الوقت المناسب.

وعقب اندلاع الحرب العالمية الأولى، تعطلت حياته السياسية تماما، وكان يشعر بفراغ قاتل في يومه، حتى أنه كتب قائلا “لقد اقتربت الساعة وقامت العلامات على القرب من النهاية فلابد من الرجوع إلى الله، والتوبة إليه عما لا يرضاه”.

بل وصل به الأمر إلى التفكير في الزواج سرا، وهو ما صرح عنه بالفعل حيث كتب “أتمنى الآن لو يكون لي ولد، وأن أتزوج بواحدة من الفلاحات أو غيرهن، ويشغل هذا الفكر بالي، ولكن تحقيق هذه الأمنيات صعب، لأني أريد أن يكون ذلك سرا، وذلك من المستحيل تقريبا، فالأفضل ترك هذا الفكر من أصله”.

وكان من أخطر الجوانب التي ذكرها سعد في يومياته، والتي كانت سببا في الكثير من النقاشات بين الوفديين والعديد من المؤرخين والكتاب، هو اعتراف الزعيم المصري بإدمانه على لعب القمار، ومحاولاته الفاشلة في الإقلاع عنه.

فقد كتب يقول “ذهبت أمس إلى نادي محمد علي، ووجدت نفسي متشوقة إلى لعب الورق… فلعبت برتيته صغيرة… كنت قبل 12 سنة، أكره القمار واحتقر المقامرين وأرى أن اللعب من سفه الأحلام واللاعبين من المجانين، ثم رأيت نفسي لعبت وتهورت في اللعب وأتى علي زمان لم اشتغل إلا به ولم افتكر إلا فيه ولم أعمل إلا له، ولم تكن ساعة ونصف حتى خسرت 120 جنيها، فقمت مملوء غضبا على نفسي ولعنا لنفسي، ورجعت ملآن بالندم والهموم ولا أدري ألوم نفسي أم أذوب كمدا”.

ومن فرط صدقه وأمانته، كتب سعد يخاطب من سيقرأ هذه المذكرات بعده، طالبا منه ألا يمشي في جنازته إن مات وهو على تلك الرذيلة: “توجهت أمس إلى النادي، وبقيت فيه إلى الساعة 2 بعد نصف الليل، وخسرت مبلغ 310 جنيهات، وإني أوصي كل من يعيش بعدي، ممن لهم شأن في شأني، أني إذا مت من غير أن أترك اللعب ألا يحتفوا بجنازتي ولا يحنوا علي ويجلسوا لقبول تعزية ويدفنوني بين أهلي وأقاربي وأصهاري”.

ونتيجة فشلة في التوقف عن القمار، نشبت خلافات زوجية بينه وبين صفية زغلول، بسبب سهره طويلا في النادي، وهي الخلافات التي سجلها في يومياته، حتى وصل الأمر بزوجته أن هددته بالفراق إن لم يتب عما هو فيه.

فما كان من سعد إلا أن فكر في الانتحار أكثر من مرة فكتب يقول “أيها الأحمق إن كنت تريد أن تسلي نفسك فوسائل التسلية كثيرة من غير أن تعرض نفسك لأذى في الصحة ولا في الشرف… لابد أن أقلع عن هذه العادة الذميمة أو أنتحر”، وهو ما أكده في موضع آخر بقوله “إن لم أرتدع بعد هذا، فإن من اللازم أن أستعد للانتحار”.

وفي كل الأحوال، فإن لحظات الضعف تلك، كانت جانب لا يمكن إغفاله في شخصية سعد زغلول، الذي تكونت مع مرور الوقت، وأفضت في النهاية إلى الزعيم الذي التفت حوله الأمة، واعتبرته ملاذها ومخلصها والمعبر الحقيقي عن طموحاتها في مواجهة الاحتلال الإنجليزي.
وربما كان صدق سعد وأمانته المفرطة في حياته والتي تجلت في تلك اليوميات، هي السبب في أن أصبح الشخص الأقرب إلى قلوب المصريين، الذين شعروا أنه واحد منهم، فلاح بسيط، له شموخ الفراعنة وضعف البسطاء، وآمال الزعماء.