“كان الطلاب الأقباط يدرسون في الأزهر قديما، حتى أنه كان لهم رواقا داخل المسجد اسمه (رواق الأقباط)”.

جملة رددها البعض خلال السنوات القليلة الماضية، وقدموا عليها أدلة وحجج مفادها أن المسيحيين كان في مقدورهم الدراسة في الأزهر الشريف في الماضي البعيد، إلا أن هذه المعلومة يشوبها الكثير من الغموض وتثير العديد من الأسئلة.

وبعيدا عن أي اعتبارات فكرية أو دينية، فإن ما يهمنا هنا هو التوثيق التاريخي.. فهل كان هناك “رواق للأقباط” بالفعل داخل الأزهر الشريف؟ وهل كان الطلاب المسيحيين يتلقون العلم داخل المسجد بالفعل؟ ومن كان شيخ “رواق الأقباط”؟ ومن هم الطلاب الذين درسوا في هذا الرواق؟ وما موقعه بالضبط بين الأروقة العديدة داخل المسجد الأزهر؟ ومتى ظهر؟

أروقة المسجد الأزهر

يقول الكاتب “حلمي النمنم” في كتابه “الأزهر.. الشيخ والمشيخة”، إن فكرة الأروقة بالمعنى العلمي لها ظهرت في العصر العثماني وليس قبل ذلك، وكان الرواق أقرب إلى المدينة الجامعية اليوم، فقد كان بعض الطلاب الذين يدرسون بالأزهر يقيمون داخل المسجد بشكل دائم، حيث كان يخصص مكان لأبناء كل منطقة، ويطلق على هذا المكان اسم “رواق”، ويحمل الرواق اسم المنطقة التي قدم منها الطلاب المقمين فيه، فقد كان هناك رواق “الصعايدة”، ورواق “الشراقوة” ورواق “الشوام” ورواق “اليمنية”، وهكذا.

وكان لكل رواق ناظر خاص يتولى تسجيل أسماء المجاورين المقيمين به ويصرف لهم الجراية، ولكل رواق شيخ مسؤول عنه، وهو أحد فقهاء وعلماء الأزهر، ويكون الشيخ مسؤولا أمام الجهات الإدارية عن طلاب كل رواق.

ومؤخرا، ظهر من قال إنه كان هناك “رواق للأقباط” في الأزهر، كان الطلاب المسيحيين يقيمون فيه بشكل دائم داخل المسجد ويتلقون العلوم مثلمهم مثل المسلمين، دون أن يوضحوا أي نوع من العلوم كان يتلقاه الأقباط في المسجد؟!

وردد من قال بفكرة “رواق الأقباط”، إن ميخائيل شاروبيم وهو مؤرخ قبطي عاش في القرن التاسع عشر، تعلم في الأزهر ودرس في رواق الأقباط، كما قالوا إن يعقوب نخلة صاحب كتاب “تاريخ الأمة القبطية” درس في ذلك الرواق بتوصية من رفاعة الطهطاوي.

سكوت المصادر التاريخية

فيما يؤكد “النمنم” في كتابه، إنه لم يتوصل إلى أي مصدر تاريخي موثوق يتحدث عن وجود رواق مخصص للأقباط في المسجد الأزهر في أي مرحلة من مراحل المسجد التاريخية منذ إنشائه قبل ما يزيد على ألف عام بعد دخول الفاطميين إلى مصر وبناء مدينة القاهرة، وحتى الآن.

ويقول إن المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي، أفرد فصلا مطولا في كتابه “الخطط” للحديث عن الجامع الأزهر وتحدث فيه باستفاضة عن الغرباء من التجار وغيرهم الذين يبيتون بالأزهر وكذلك الفقراء الذين لا يجدون سكنا، إلا أنه لم يذكر أي وجود للأقباط بين طلاب الأزهر.

ويستشهد كذلك بعميد الأدب العربي طه حسين، قائلا إنه إن طه حسين خصص الجزء الثاني من كتابه “الأيام” للحديث عن تجربته في الأزهر، ولو أن هناك رواقا للأقباط ما فات الدكتور طه حسين أن يتحدث عنه أو يذكر أي شيء حوله، بالرغم عن حديثه عن طلاب الشرقية وطلاب الصعيد والرواق العباسي والمناوشات التي كانت تجري بينهم، دون أن يذكر سيرة أي طالب قبطي.

ويضيف “وقبل طه حسين هناك تجربة الإمام محمد عبده في الأزهر، مجاورا ومعلما وداعيا إلى الإصلاح وفي كل ما كتبه الإمام حول الأزهر لا نلمس أي تواجد لرواق الأقباط”.

كما أن هناك دراسة إحصائية تتعلق بالدراسة في الأزهر الشريف، نشرت بمجلة “روضة المدارس” عام 1876م، رصدت أعداد الطلاب في الأروقة وتقسيماتهم المذهبية وعدد المدرسين وإحصاء عدد الأروقة وتصنيفها الجغرافي، ولا نجد في هذا الإحصاء أي ذكر لما يسمى برواق الأقباط.

وفي نوفمبر 1954م صدر قرار جمهوري بإلغاء الأروقة وأنشئ بدلا منها مدينة البعوث الإسلامية، التي كان اسمها في البداية “مدينة ناصر للبعوث”، ونقل إليها المجاورون أو طلاب الأروقة ولم يكن بينهم طالب واحد قبطي.

تصور خاطئ

ويؤكد مؤلف كتاب “الأزهر.. الشيخ والمشيخة”، إن فترة الحكم العثماني التي ظهرت فيها الأروقة، كان الأزهر مؤسسة إسلامية سنية ومن ثم لم يكن ممكنا لغير المسلمين، سواء مسيحي أو يهودي أن ينخرطوا في هذه الجامعة، كما لم يكن ممكنا حتى للمسلم الشيعي أن يدرس به.

لافتا إلى أن من قالوا إن ميخائيل شاروبيم ويعقوب نخلة درسوا بالجامعة الأزهر في “رواق الأقباط”، لم يقدموا أدلة تاريخية على هذه الأقاويل، خاصة وأن الثابت أن ميخائيل شاروبيم، وهو جد الدكتور بطرس بطرس غالي لأمه، تلقى تعليمه بمدرسة حارة السقايين التي أسسها الأنبا كيرلس الرابع ثم التحق بعدها بالمدرسة البطريركية وتلقى فيها تعليمه الأعلى.

ويرى الكاتب حلمي النمنم، أنه ربما تصور البعض أنه كان هناك “رواق للأقباط” داخل الأزهر، بسبب أن بعض كتاب الأقباط كانوا يكتبون بلغة عربية سليمة وبالأسلوب الكلاسيكي، بمعنى أنهم كانوا يبدؤون الكتابة بالطريقة التقليدية أي البسلمة، ثم الحمد لله والصلاة والسلام على النبي الكريم وأصحابه التابعين، معتقدين أن من يكتب بهذه الطريقة لابد وأنه تلقى تعليمه في الأزهر، متناسين أن تلك كانت طريقة عامة في السرد بين الكتاب المصريين في العقود الماضية.

ويرى النمنم أن ذلك لا يمنع من أن يكون بعض الكتاب الأقباط أو غير المسلمين عموما استفادوا من بعض علماء الأزهر، فقد استفاد وتعلم أديب إسحق -وهو مسيحي سوري- من جمال الدين الأفغاني، لكن عبر مقهى “متاتيا” بالعتبة وليس داخل الأزهر، كما أن قليني فهمي باشا الذي ولد سنة 1860م، درس العربية على يد الشيخ محمد القنائي النحوي الشهير في عصره، وأنه حفظ ألفية ابن مالك وكذلك شرح ابن عقيل، لكن هذا في مجال التعلم والدرس الخاص.

ويشير الكاتب إلى أنه وبعض النظر عن وجود الرواق القبطي في الأزهر من عدمه، إلا أن الثابت أن بعض طلاب الدراسات العليا من المصريين الأقباط يترددون على مكتبة جامعة الأزهر حتى وقتنا الحاضر ويدرسون مع بعض أساتذتها في تخصصات مثل الدراسات المقارنة بين الفلسفة الإسلامية والفلسفة المسيحية أو من يدرسون التاريخ وغير ذلك من جوانب البحث العلمي والمعرفي، أي أن الفكرة في حد ذاتها تحدث بشكل أو بآخر في الوقت الحاضر، ولكن تاريخيا هي غير موجودة بالمرة.