يمتاز حي المقطم بالقاهرة، بكونه يمتلك تاريخيا مميزا ومختلفا عن باقي أحياء العاصمة، تاريخا ربما لا يشاركه فيه أي مكان آخر بمصر.

فهذه الهضبة التي كانت عبارة عن قاع بحر قبل ملايين السنين، ظلت مهجورة وغير مأهولة بالسكان طوال فترة حكم المصريين القدماء، ولم يتوجه إليها المتصوفة والرهبان إلا في عصور متقدمة قبل الفتح الإسلامي وبعده، ثم تحولت بعدها بمئات السنين إلى حي سكني مكتظ بالسكان، حي يمكن أن نقول عليه قياسا على تاريخ أحياء القاهرة الأخرى، أنه ظهر فجأة، إلا أن المثير للقلق، أنه قد يختفي فجأة أيضا، بسبب المخاطر الكبيرة التي تهدد بانهياره في أي وقت.

التاريخ البعيد

كانت هضبة المقطم قبل ملايين السنين، عبارة عن قاع بحر، وبالتحديد في العصر الجيولوجي المعروف باسم عصر “الأيوسين”، وهو فترة امتدت من 56 إلى 34 مليون سنة مضت، ونتيجة ارتفاع درجة حرارة الأرض، جفت مياهها وتحولت إلى هضبة جافة كما نراها حاليا، لذا تجد أن معظم الصخور المكونة للهضبة من الحجر الجيري، كما يمكن أن تعثر بسهولة بين أحجارها على أصداف وكائنات بحرية متحجرة.

ولا توجد أثار تذكر للمصريين القدماء في هضبة المقطم، حيث تجنبوا السكنى فيها طوال تاريخهم، ولم يقيموا بالهضبة أي تجمعات سكنية أو مباني ذات قيمة تاريخية.

وفي مراحل متأخرة، قبل الفتح العربي لمصر وبعده، اعتبر المقطم بمثابة سور طبيعي يحمي حواضر مصر من الخطر الذي قد يداهمها من الشرق، لذا انتشرت فيه القواعد الحربية ونقاط الارتكاز العسكرية، وهو السبب ذاته الذي دفع صلاح الدين الأيوبي لاحقا إلى بناء القلعة فوق صخوره.

كما وجد الزهاد والمتصوفون والرهبان في هضبة المقطم ملاذا هادئا يعكفون فيه بعيدا عن صخب الحياة اليومية ويقطنون فيه داخل خلواتهم بحثا عن السلام الروحي.

ونتيجة لذلك، ظهرت في الهضبة بعض الأديرة مثل دير “سمعان الخراز” وبعض المساجد مثل مسجد الجيوشي ومسجد “الخلوتي” المبني على حافة الجبل بشكل لازال يثير حيرة علماء الآثار حتى الآن.

وبعدما زحفت المدن الإسلامية المتعاقبة، الفسطاط والعسكر والقطائع والقاهرة، حتى وصلت إلى سفح المقطم نتيجة الامتداد العمراني وارتفاع عدد السكان، تحولت بعض أطراف المقطم إلى مقابر ضمت عددا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عمرو بن العاص وعقبة بن عامر وعبدالله بن الحارث، وكثير من الأئمة والعلماء أمثال الليث بن سعد، والإمام الشافعي، بخلاف ذو النون المصري ودينار العابد وابن عطاء الله السكندري وعمر بن الفارض.

حكاية نقل المقطم

يعرف التراث الشعبي المسيحي في مصر، حكاية تتعلق بتكوين جبل المقطم، تقول إن الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، طلب من بطريرك الأقباط “إبرام السرياني” نقل هضبة المقطم لإثبات مدى إيمانه وقربه من الله، فطلب البطريرك من الخليفة مهلة ثلاثة أيام حتى يثبت له المعجزة، ثم جمع شعب الكنيسة وظل يصلي ثلاثة أيام متواصلة داخل كنيسته في منطقة مصر القديمة، حتى ظهرت له السيدة مريم وقالت له إن هناك شخصاً يدعى سمعان الخراز سينقل الجبل وليس أنت، فأحضره البطريرك وصليا لله وتم نقل الجبل.

بداية الزحف السكاني

في أوائل القرن العشرين، وقعت شركة إنشاءات إيطالية، عقد امتياز مع الحكومة المصرية، تقوم بموجبه بإنشاء مدينة سكنية داخل هضبة المقطم وتمهيد الطرق للوصول إليها، مقابل بيع الأراضي لصالح الشركة لمدة 99 سنة وإدارتها لمرافق المدينة.

إلا أن عقد الامتياز لم يكتمل، حيث سحبت الحكومة المصرية حق الامتياز من الشركة الإيطالية في عهد الرئيس جمال عبدالناصر، الذي أصدر قرارا جمهوريا بإنشاء شركة “المنتزه والمقطم” وعهد إليها بإدارة المدينة ومرافقها.

حينها، أعلنت شركة “المقطم” عن مشروع عملاق لإنشاء سلسلة من الفنادق والشاليهات فوق الهضبة، وأيضاً مشروع لعمل “تليفريك” لينقل السياح والسكان من ميدان الأوبرا بوسط القاهرة إلى أعلى المقطم، إلا أن كثير من هذه المشروعات لم تنفذ على أرض الواقع، حتى تم سحب الامتياز من شركة “المقطم” في عام 1984 وإعطائه لإحدى شركات قطاع الأعمال وهي شركة النصر.

ما بين “زلزال” و”إعمار”

ورغم كل هذه المحاولات، إلا أن منطقة المقطم ظلت غير جاذبة للسكان بسبب صعوبة الصعود إليها حتى بدايات تسعينيات القرن الماضي، حيث وقع زلزال عام 1992 الشهير، حينها لم تجد الدولة مكانا يمكن أن تقيم فيه مساكن بديلة لأولئك الذين تضرروا من الزلزال سوى منطقة المقطم، فخصصت لهم مساحة 50 فدانا بنهاية شارع 9، وأنشئت لهم مساكن بها، وكان من بين من انتقلوا للمقطم للسكنى في مساكن الزلزال، الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم.

ومع مرور الوقت، بدأ الكثيرون يتنبهون للمقطم كامتداد عمراني منسي للقاهرة وضواحيها، ومع تمهيد الطرق الصاعدة إلى الهضبة، زحف الكثير من السكان وشركات البناء إلى المنطقة، وبات هناك ميدان رئيسي للحي هو “ميدان النافورة” وشارع حيوي يربط بين جميع جوانب الهضبة هو “شارع 9”.

ثم بات المقطم قبلة الكثير من المشاهير للسكنى فيه، أمثال الأديب الراحل يوسف السباعي، والفنانة الراحلة سناء جميل وزوجها الكاتب الصحفي لويس جريس، والفنان عادل إمام والمطرب علي الحجار، وكان من أشهر السكان أيضا المشير عبد الحليم أبو غزالة، وامتلأت المدينة حاليا بالمشاهير ورجال الأعمال وعدد كبير من الأسر من مختلف الطبقات، بعد أن تم توسعة الطريق المؤدي إلى قمة الجبل وإنشاء طرق أخرى من اتجاهات مختلفة.

ومن أشهر مناطق المقطم حاليا، حي الأسمرات، الواقع في نهاية الهضبة على الطريق بين مدينة نصر والطريق الدائري، وكذلك مدينة “أب تاون كايرو”، وهي عبارة عن مجمع سكني متكامل ومغلق تقوم بتطويره وبناءه شركة “إعمار” الإماراتية، حيث يقع على سطح الجبل ويضم فيلات وعمارات سكنية ومباني إدارية وملاعب جولف وفنادق، ليصبح بذلك واحدا من أرقى المدن السكنية في القاهرة بشكل عام.

مصير مهدد

وكما ظهر هذا الحي فجأة، فإنه بات مهددا أن يختفي فجأة أيضا، بسبب المخاطر الكبيرة التي تحيط بالهضبة وتنذر بانهيارها في أي وقت.

ففي ستينات القرن الماضي، بدأ بعض العلماء يحذرون من التوسع في الإنشاءات على المقطم، نظرا لضعف صخوره الجيرية وتأثرها بعوامل التعرية.

إلا أن هذه التحذيرات لم توقف الزحف العمراني تجاه الهضبة، ونتيجة لذلك، بدأ المقطم يشهد تشققات ملحوظة وانهيارات بين وقت وآخر، بعدما شكلت تلك المباني الضخمة ضغطا إضافيا على أساسات الهضبة وحملا ثقيلا لا تصمد أمامه الأحجار الجيرية، فضلا عن تسرب مياه الصرف الصحي عبر صخور الهضبة، وهو ما حول طبقاته إلى “طفلة” هشة تهدد بكارثة شبيهة بكارثة “الدويقة” التي راح ضحيتها العشرات.