يحفل تاريخ الفتح العربي لمصر بالكثير من الأحداث والتطورات التي اختلف حولها المؤرخون، وكان من بين هذه القضايا التي حاول البعض استغلالها لاتهام المسلمين بالهمجية والعنف، هي الزعم بأن العرب هم من أحرقوا مكتبة الإسكندرية وقضوا على مؤلفاتها التي لا تقدر بثمن.

وأول من وجه هذا الاتهام ونسب الحريق إلى عمرو بن العاص، هو المؤرخ والرحالة عبداللطيف البغدادي الذي زار مصر في عام 595 هـ، حيث أورد الحديث عن حرق المكتبة بشكل عرضي في كتابه “الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر”، زاعما أن عمرو بن العاص أحرق “خزانة الكتب” بإذن من عمر بن الخطاب.

وجاء من بعد البغدادي مؤرخ آخر هو “ابن العبري” المتوفي سنة 685هـ، وسرد قصة طويلة حول حرق المكتبة، زاعما أن أنه في زمن الفتح، كان هناك رجل دين قبطي يسمى “يوحنا النحوي”، وبسبب علمه الغزير أكرمه عمرو بن العاص وكان يستمع إليه كثيرا، حتى طلب “النحوي” من عمرو أن يعطيه “كتب الحكمة التي في خزائن الملوكية”، فقال له عمرو: لا يمكنني أن آمر فيها إلا بعد استئذان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فكتب إلى عمر، الذي رد عليه بقوله “أما الكتب التي ذكرتها، فإن كان فيها ما يوافق كتاب الله، ففي كتاب الله عنه غنى، وإن كان فيها ما يخالف كتاب الله، فلا حاجة إليه فتقدم بإعدامها”.

ويضيف “ابن العبري” أن عمرو بعدما تلقى رد الخليفة، قام بتفريق الكتب على حمامات الإسكندرية البالغة 4 آلاف حمام، وأحرقها في مواقدها، وظلت مشتعلة فيها قرابة ستة أشهر متواصلة.

إلا أن هناك العديد من الأدلة، التي تكشف بطلان هذا الاتهام، وتؤكد براءة المسلمين من حرق المكتبة، التي كانت أهم منبر علمي وحضاري في العالم القديم برمته، ويقصدها العلماء والمفكرون من مختلف بقاع الأرض، وهي الأدلة التي نستعرضها في السطور التالية، والتي رجعنا في كثير منها إلى كتاب “تاريخ مصر الإسلامية” للدكتور عبدالهادي محمد حمدان:

1

القول بحرق المسلمين لمكتبة الإسكندرية، لم يظهر إلا بعد الفتح بأكثر من ستة قرون، ولم يذكر المؤرخون المعاصرون أو القريبين من زمن الفتح هذا الأمر، يستوي في ذلك المسلمون منهم وغير المسلمين.

وكان أول من ذكر واقعة الحرق، هو عبداللطيف البغدادي، الذي عاش في القرن السابع الهجري، كما أن كتابه كما يظهر من عنوانه، كتاب رحلات ومشاهدات، وليس كتابا متخصصا في التاريخ والأخبار، وبالتالي لا يعتد به في المساءل التاريخية خاصة الشائكة منها.

فلو قلنا بأن امتناع المؤرخين المسلمين الذين عاصروا الفتح عن ذكر هذه الحادثة له ما يبرره، وهو أن ذكرها مما يسيء إلى تاريخهم، فما الذي منع المؤرخين المسيحيين من ذكرها؟ وقد كان منهم من هو شديد التعصب ضد المسلمين مثل “يوحنا النقيوسي” الذي كان واحدا من أكثر المؤرخين قربا من زمن الفتح وأحداثه، وقد أفاض في الحديث عن الإسكندرية ولم يتحدث عن مكتبتها أبدا.

2

زعم من اتهم المسلمين بحرق مكتبة الإسكندرية، أن المسلمين اعتادوا حرق الكتب عند فتحهم للبلدان، واستندوا في ذلك إلى رواية أوردها المؤرخ “حاجي خليفة” قال فيها إن المسلمين أحرقوا الكتب التي وجدوها في بلاد فارس، وكان ذلك أيضا في عهد عمر بن الخطاب.

وهي رواية مكذوبة لم يذكرها إلا “حاجي خليفة”، وهو مؤرخ متأخر كثيرا عن زمن الفتح لا يؤخذ بكلامه، ولا يعول عليه في المسائل التاريخية المتقدمة، لأنه توفي بعد ما يزيد على ألف عام من فتح المسلمين لبلاد فارس، ولو أن المسلمين أحرقوا هذه الكتب لذكر ذلك المؤرخون المعاصرون لزمن الفتح.

3

لو تأملنا رواية “ابن العبري” لوجدناها أشبه بالخرافة، فقد ذكر فيها أن كتب المكتبة وزعت على أربعة آلاف حمام، وأنها ظلت تستخدم وقودا لتسخين المياه لمدة ستة أشهر، وهذا غير معقول، فالمخطوطات التي ادعى أنها أحرقت تبلغ 700 ألف كتاب، ولو وزعنا هذا العدد على عدد الحمامات، لبلغ نصيب كل حمام 175 كتابا، وهذا العدد لا يكفي لإيقاد حمام عدة أيام لا ستة أشهر كاملة، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن كثيرا من الكتب كانت مكتوبة على الجلد وهو لا يصلح للوقود أصلا.

4

لو أن عمرا قصد تدمير المكتبة، لأحرقها في الحال وفي مكانها، ولم يتكلف مشقة نقلها، ثم إن نقلها إلى الحمامات يجعلها تحت رحمة أصحاب الحمامات لمدة ستة أشهر، وهذه المدة كافية لمن يريد الحصول على شيء منها، وخاصة يوحنا النحوي، أن يأخذ منها ما يشاء بمقابل أو بدون مقابل، ثم كيف يأبى عمرو أن يعطي هذه الكتب صديقه يوحنا النحوي ثم يعطيها لأصحاب الحمامات في المدينة؟!

5

لم يكن للمكتبة وجود في زمن الفتح الإسلامي للإسكندرية، لأن الكتب التي كانت بها أتلفتها النيران في عام 48 ق.م، عندما هاجم يوليوس قيصر الإسكندرية.

فقد روى المؤرخ “إليانوس مارسيلينوس” أن مكتبة الإسكندرية قد أصابها التلف التام عندما حاصر يوليوس قيصر المدينة، وتصدى له المصريون، فأعطى أوامره بإحراق جانب كبير من سفن أسطوله خشية أن يقع في أيدي المصريين، إلا أن الرياح جعلت النيران تمتد إلى قلب مدينة الإسكندرية، فالتهمت النيران جزءا كبيرا من كتب المكتبة.

وأيد هذه الرواية الرحالة الروماني “أورازيوس” الذي زار الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي وشاهد رفوف المكتبة خاوية، كما ذكر “بلوتارك” حرق قيصر للمكتبة صراحة بقوله: “ولما رأى أسطوله يقع في يد عدوه اضطر أن يدفع الخطر بالحريق فامتدت النار من المراسي في الميناء فأحرقت المكتبة”.

ثم زاد من خراب المكتبة وقضى على البقية الباقية منها قبل الفتح الإسلامي للإسكندرية، العداء الذي نشب بين المسيحيين والوثنيين في تلك المدينة سنة 391م، إذ قامت في ذلك الوقت موجة من العداء للوثنية، وتم القضاء على كتب مكتبة الإسكندرية لاعتبارها من مخلفات الوثنية، بحسب ما ذكر “سجريد هونكا” في كتابه “شمس العرب تسطع على الغرب”.

6

أثبتت الأبحاث التي قام بها عدد من المؤرخين ومن بينهم “بتلر” صاحب كتاب “فتح العرب لمصر” أن يوحنا النحوي الذي نسب إليه ابن العبري أنه قابل عمرو بن العاص وكلمه في شأن الكتب، مات قبل الفتح الإسلامي لمصر بثلاثين أو أربعين سنة، وهذا يهدم رواية ابن العبري من أساسها.

7

إذا فرضنا جدلا أن هذه المكتبة كانت موجودة عندما عقد المقوقس مع المسلمين صلح الإسكندرية، لقام الروم بنقلها إلى القسطنطينية، ولم يتركوها تقع في يد المسلمين، فقد نص في عقد الصلح على هدنة مدتها أحد عشر شهرا، يباح للروم فيها أن ينقلوا إلى بلادهم ما شاءوا من المتاع والأموال، ومن المستبعد أن يترك الروم هذه الكتب القيمة ولا يقومون بنقلها، إن لم يكن لقيمتها العلمية فلقيمتها المادية، لاسيما وأنهم كان لديهم من الوقت ما يمكنهم من نقل مكتبات لا مكتبة واحدة.

8

كثير من المستشرقين المنصفين الذين التزموا الحياد والتجرد، ورفضوا هذه المزاعم وردوا عليها، أمثال جوستاف لوبون في كتابه “حضارة العرب” فقد نفى هذه التهمة وقال بأنها مجرد خرافة، ويقول في هذا الصدد: “وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم، فمن الأعمال الهمجية التي تأباها عادات العرب والمسلمين، والتي تجعل المرء يتساءل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمنا طويلا؟ وهذه القصة دحضت في زماننا فلا نرى أن نعود إلى البحث فيها، ولا شيء أسهل من أن نثبت بما لدينا من الأدلة الواضحة، أن المسيحيين هم الذين أحرقوا الكتب التي كانوا يعتبرونها شركية في مكتبة الإسكندرية قبل الفتح العربي مثلما هدموا التماثيل ولم يبق منها ما يحرق”.

9

قال “ستانلي لين بول” في كتابه الهام “تاريخ مصر في العصور الوسطى”، إن عملية فتح المسلمين للإسكندرية، لم تشهد أي دمار أو نهب من قبل العرب، وليس هناك أية إشارة على ذلك في أي من المراجع المبكرة، فمنذ استسلام المدينة المشروط لم يكن من المسموح السلب أو أخذ الغنائم، ويسجل يوحنا النقيوسي أن عمرو لم يأخذ شيئا من الكنائس ولم ينزل بها أي أذى من أعمال سلب أو غنيمة، بل على العكس قام بحمايتها في كل مكان.

مؤكدا أن قصة تدمير مكتبة الإسكندرية وتوزيع الكتب على الحمامات، لم يتم العثور عليها في أي من المصادر المبكرة، فضلا عن أنها ليست مذكورة من قبل أي كاتب يوناني، كما أنها متناقضة مع رواية يوحنا النقيوسي عن سياسة الحماية التي اتبعها عمرو.

10

تشهد الوقائع التاريخية في القرون الأولى للإسلام، أن المسلمين كانوا بناة حضارة وحافظوا على تراث الحضارات القديمة، وأقبلوا على نقل كتبها في شتى الميادين إلى اللغة العربية، فلولاهم لضاع الكثير من فلسفة اليونان وعلومهم، كما أنهم درسوا ثقافة الفرس والهنود، ونشطت لديهم حركة الترجمة والتأليف، وشجع حكامهم عليها، هذا إلى جانب إقامتهم للجامعات والمعاهد العلمية والمكتبات في بغداد والقاهرة وقرطبة وغيرها من مدن العالم الإسلامي، وأمة بهذه المثابة من حب العلم والشغف، لا يمكن أن تقدم على حرق مكتبة وتدميرها.