شاءت الظروف والصُدفة البحتة أن أجد النسخة الإلكترونية من مذكّرات نجيب الريحاني أمامي على الإنترنت, في الوقت الذي قمت فيه بشراء مجموعة من روائع سور الأزبكية في موسم معرض الكتاب، لكنّ القراءة تشبه المراهانات لا تدري أي فرس سيتقدم ويخترق الحواجز ويفوز.

في صباح اليوم التالي كان علىّ الذهاب إلي حيث يقضي المصريون أغلب أعمارهم حيث “الطوابير” وبالتحديد “فُرن العيش” وهنا لاحت المذكرات كفكرة صائبة لأقتل الوقت على طريقة قاتل محترف في أفلام هوليود أو حتي بمحاكاة البطل الأسطوري محمد علي كلاي”بالضربة القاضية”.

بدأت القراءة والإسترسال في طريق ممهد وشمس ساطعة منحها الريحاني لي خلال الرحلة مما ممكني من قطع أشواط طويلة من المذكرات في وقت قليل دون ملل وفي معزل عن ضجيج الأشخاص حولي، بل والتفكير في تدوين الملحوظات عنها.

شهادة بديع

1 – تم نشر مذكرات الريحاني عن طريق دار الهلال بعد وفاته بعشر سنوات وبتقديم من أعز أصدقاءه “بديع خيري”
يذكر بديع في تلك المقدمة الذكريات الطيبة التي جمعته بالريحاني وبالموهبة التي دفعته لهجر الوظيفة.

يكمل بديع: لقد عانى الريحاني في سبيل تحقيق حلمه التشريد والجوع والحرمان وكان يلجأ للوظيفة كلما أعيته الحيل، لقد كافح الريحاني وجاهد حتى انتصر.

يستطرد: لقد بلغ الريحاني من الحب والولع بالفن أنه رفض الإبتعاد عن المسرح لمدة ستة أشهر كما نصحه الأطباء عام 1942 وقال “خير لي أن أقضي نحبي فوق المسرح، من أن أموت على فراشي.

بداية الرحلة

2 – من المذكرات نجد أن الريحاني بدأ رحلته مع الفن والتمثيل في السادسة عشر بعد أن قضى سنوات كان يقوم خلالها بالتمثيل في المنزل وحفظ أشعار التمنبي ولزوميات أبي العلاء المعري بإتقان شديد.

3 – لعب الحظ دوره مع الريحاني حين ارتبط في مطلع شبابه بصداقة مع الأستاذ عزيز عيد الذي ترك وظيفته بالبنك بجواره ومضى يؤسس فرقته التمثيلية الأولي بمسرح إسكندر بشارع عبد العزيز وبالتبعيّة أصبح الصديق عضواً بالفريق وانطلق نحو عالمه الخاص في الفن.

4 – اللافت للنظر أن حياة الريحاني مليئة بالمطبات من شبابه حتى وفاته، ومن تألق لافت للنظر على المسرح للعودة لحياة البطالة للعودة مرة أخري للمسرح…وهكذا ظل في صراع دائم يشبه لعبة القط والفأر في مسلسل الكارتون المعروف، بيد أنه في بداياته عرّضته مغامراته العاطفيّة لمواقف بالغة الحرج أصعبها حين تم القبض عليه في منزل زميله عند زوجته قضى على اثرها يومين في قسم البوليس بدون طعام ولا شربة ماء فقرر أن يترك تلك المغامرات واللهو ويوجه تركيزه الحقيقي للعمل والفن.

عرافة فرنسية

5 – من الطرائف التي يذكرها الأقدار شاءت له الذهاب لعرافة فرنسيّة بالصعيد حين كان يعمل في الحسابات بشركة السكر بنجع حمادي فقرأت له الكفّ ويقسم أنها أخبرته بما حدث له في الماضي وما سيحدث في المستقبل علي وجه الدقه وقد كان، وظلت حكاية العرّافة ترواده طوال حياته بالتعجب والإستغراب كلما تحقق شيئاً مما ذكرت له تلك الليلة.

6 – يذكر الريحاني السر وراء أشهر شخصيّة قام بتمثيلها في حياته : نهضت في إحدى الليالي في لحظة بين النوم والإستيقاظ رأيت شبحاً يرتدي الجبة والقفطان وعلى رأسه عمامة ريفية كبيرة …….فانتفض من مكانه وقرر أن ذلك الشبح سيصبح بطلاً لروايته القادمة، وبالفعل رسم شخصية كشكش بيك كما حضرته في أحلام اليقظة ونجحت باكتساح وأصبحت نقطة فارقة في حياته الفنيّة وفي تاريخ الكوميديا.

7 – بعد توالي النجاحات والروايات والشهرة وصل راتب الريحاني إلي سبعة وعشرين جنيها في الشهر ضارباً رقماً قياسيّاً لم تعهده المسارح من قبل.

سيد درويش

8 – سمع الريحاني عن ألحان شاباً إسكندرياً لامعاً بفرقة جورج أبيض وأعجب به إعجاباً شديداً وكان متردداً في البداية في مسألة ضمّه لكنه انتصر للفن بداخله وقرر الإتفاق معه براتب أكبر حيث كان يتقاضي مع جورج أبيض ثمانية عشر جنيهاً فقرر رفع راتبه إلي أربعين وبدأت رحلة نجاح عظيمة وأيقونة من أيقونات التلحين والفن باسم “سيّد درويش”.

ثمن الوطنية

9 – من الفن المصري للوطنية المصرية التي كان يلمع بسماءها الزعيم الخالد سعد زغلول والذي كان يحرص بشدة على مشاهدة مسرحيات الريحاني وفرقته وإظهار إعجابه البالغ بما يقدم للفن المصري بين الحين والآخر فزرع ذلك الأمر فخراً وحماساً داخل قلب الريحاني، الذي انتهز فرصة تأليف الزعيم للوفد المصري المسافر لعرض قضيّة استقلال مصر في مؤتمر فرساي ونداءه بضرورة الإتحاد ولم شمل الأمة فضرب على تلك الوتيرة في مسرحياته وخاصةً رواية “إش” وفيها جاء المقطع “لا تقول نصراني ولا يهودي ولاّ مسلم يا شيخ اتعلم، اللي أوطانهم تجمعهم، عمر الأديان ما تفرقهم”

10 – بعدها بسنوات كاد يدفع الريحاني فواتير الوطنية والشهرة والنجاح دُفعة واحدة ففي إحدي الليالي على المسرح في يافا كان الريحاني في قمة التأثر والإنفعال وهو يقوم بخنق بديعة مصابني بطلة الرواية “زوجته منذ 1924” وكانت الرواية عن ريّا وسكينة باسم “مرزوق” فجأة سمع صيحة مدوّية “دشرك ولاك….العمي بعينتينك” وأعقبها طلقة رصاص بإتجاهه يقول عنها:

كادت ترديني على خشبة المسرح… لولا أنني أخدتها من قصيره، وبرطعت إلى الخارج تاركًا الفريسة تعرف شغلها مع صاحب هذا الاحتجاج العملي الغريب في نوعه!

“فيفا” الريحاني

11 – استكمالاً لمسلسل القط والفار الذي عاشه الضاحك الباكي جاءت مرحلة أمريكا الجنوبية ، سنة كاملة كانت في البداية رحلة مجردة للترفيه انقلبت لفن ومسرح وجمهور وصيحات إعجاب “فيفا ريحاني” ومن البرازيل للأرورجواي للأرجنتين لم تحقق كثيراً من المكاسب المادية لكنها حققت كل المكاسب الأدبيّة والمعنويّة؟

12 – كان أول تجربة سينما حقيقية “سلامة في خير” 1937 بعد تجربتين لم يكتب لهم عوامل النجاح، وتوالت بعدها الأعمال السينمائية والنجاحات حتى وصل لذروة الإبداع في الفيلم الشهير “غزل البنات” 1949 بصحبة ليلي مراد وأنور وجدي، الفيلم الذي تم تصنفيه في المركز التاسع لأحسن مائة فيلم في تاريخ السينما المصريّة، لكن القدر أيضاً لم يمهله ليري ثمرة مجهوده في الفيلم ويلقي ربه في نفس العام وقيل أنه لم يكمل باقي المشاهد مما ترتب عليه تدخلاً من المخرج لإعادة صياغة المشاهد الأخيرة.

صديق وحيد

13 – في نهاية المذكرات يقول الريحاني خلاصة الرحلة والتجارب والحياة المليئة بالصخب:

والآن بعد أن تذوقت من الحياة حلوها ومُرها ، وبعد أن جرعتني كأسها حتّي الثمالة “كما يقولون” بعد ذلك كله أُقر وأعترف أنا الواضع اسمي بخطي أدناه نجيب الريحاني أنني خرجت من جميع التجارب التي مرت بي، خرجت منها بصديق واحد، صديق هو كل شئ، وهو المُحب المُغرم الذي أتبادل وإياه الوفاء الشديد والإخلاص الأكيد… ذلك الصديق هو عملي.