كان اليهود المصريون يعيشون في مصر بشكل عادي قبل نكبة 1948، أي قبل أن يهاجروا ويتركوا أرضهم ليعيشوا في فلسطين المحتلة، إلى جوار يهود العالم الذين أتوا من كل فج عميق بعد الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، تنفيذا لوعد بلفور، وبغض النظر عما تم، سواء فضل البعض تسميته هجرةً أم تهجيرًا، فإن حارة اليهود في منطقة الجمالية، ستظل شاهدًا حيًا يحكي قصة اليهود في مصر.

في تحقيق مهم أجراه الأستاذ عبدالوهاب مرسي عن حارة اليهود، سنة 1971، لصحيفة أخبار اليوم، رصد خلاله التغير الذي طرأ على الحارة، فيقول إن اليهود في مصر ليست مجرد حارة، ولكنها عبارة عن حي بأكمله، يضم شياختين وشوارع وحارات وأزقة، مؤكدا أن ما يسكن حارة اليهود وقت إجراء التحقيق نحو 25 ألف مواطن، جميعهم من المصريين، 18 منهم فقط من يدينون الديانة اليهودية.

ويزيد مرسي إن اليهود الذين لم يبيعوا أملاكهم وقت الهجرة، لم يسمحوا قط للآخرين أن يقيموا في منازلهم التي تركوها. ويتحدث الكاتب الصحفي عن معابد الحارة فيقول إن هناك معبد يسمى “راب إسماعيل”، وهو موجود في 13 شارع السقالية، وكذلك معبد موسى بن ميمون ويطلق عليه اسم معبد “هرمبان” في 15 درب محمود، وقد انهار هذا المعبد فجأة في أول أيام رمضان 1970، وكذلك يوجد معبد تركية والأستاذ وراب حايين كابوس ومعبد راب زمرا وكذلك معبد اليعود الفدائية.

أحد المتحدثين باسم الطائفة اليهودية في مصر أكد أن أغلب المعابد الموجودة صار قديما ومهدما، وهي تدخل في عداد المعابد الأثرية القديمة، ولكن نظرا لقلة عدد اليهود في مصر الآن (يقصد سنة 1971)، فقد أغلقت هذه المعابد أبوابها، لكنها تظل أماكن عبادة وتقديس بالنسبة لهم.

18 يهوديا من العجزة والأرامل فقط من كانوا يسكنوا الحارة في أول السبعينيات، بعد أن كان عددهم خمسة آلاف تقريبا في سنة 1939. هذا هو الواقع الذي أكد عليه الكاتب، مشيرا إلى أنهم يعيشون داخل ملجأ اسمه العبري الأودش، وهو قريب الشبه في تصميمه من منازل الفلاحين في الريف المصري.

ويصف موسى الملجأ فيقول إنه مكون من طابقين و20 غرفة، وعلى باب كل غرفة أنبوبة معدنية صغيرة مثبتة بمسامير وبه فتحة صغيرة وداخلها آية من التوراة، يتبركون بتقبيلها كل صباح ومساء.

ويعيش من اليهود في الأودش عدد كبير من الأسر المسلمة بأبنائهم وبناتهم ودجاجهم وبطهم، وقد ربطت الجيرة الطويلة بينهم جميعا وأصبحوا يعيشون في هدوء وسلام.

ويشير موسى إلى أن من الشخصيات المعروفة في الأودش، الأستاذ موريس ليفي، الذي قال لصاحب التحقيق إنه ولد في مصر في مايو 1914، وحصل على الشعادة الابتدائية من مدرسة الأليونز التي انتقلت من جامع البنات إلى درب الجماميز ومنه إلى العباسية.

ويقول ليفي إنه أمضى حياته كلها وحيدا باستثناء عشرة أشهر أمضاها مع زوجته جوديث شتريث، فقد تزوجها في نوفمبر 1945 وماتت في سبتمبر 1946، وهي تضع أول مولود لهما، الذي مات أيضا، ومن يومها حدثت له صدمة فلم يتزوج.

ويختتم موريس ليفي كلامه فيؤكد أن الطائفة اليهودية تدفع إعانات شهرية للعجزة من اليهود تتراوح بين 3 جنيها و15 جنيها حسب المركز الاجتماعي السابق وعدد أفراد الأسرة، هذا بخلاف المسكن والعلاج المجاني، حيث يقول أنه يتقاضى 8 جنيهات شهريا من الطائفة.

لا يعرف ليفي تحديدا عدد اليهود الموجودين في مصر إلا من خلال الفطير الذي يوزع على الطائفة في عيد الفصح، فيقول “إنهم يعطون كل فرد 2 كيلو من الفطير وهم يصنعون 4 آلاف كيلو، ولكن تتبقى منه بعد التوزيع كمية كبيرة”، ولذلك فإن ليفي يقدر عدد اليهود في مصر بنحو 1000 أو 1500 على أكثر تقدير.

أما عن معاملة المصريين المسلمين لليهود فيقول إنها الأفضل في من بين يهود العالم، فيروي أن شقيقته كانت تعيش مع زوجها الفرنسي في مصر، ثم هاجرت معه هي وأولادها إلى فرنسا، وهناك حاولت إسرائيل إغراءهم بالسفر إليها، ولكنهم رفضوا وفضلوا البقاء في فرنسا، والسبب أن الأفواج الأولى التي هاجرت من مصر إلى إسرائيل أصيبت بخيبة أمل كبرى، لأنهم عاملوا اليهود الشرقيين معاملة سيئة، وميزوا عليهم اليهود الغربيين، ولهذا فإن ليفي يرى أن باقي الأفواج التي هاجرت إلى أوروبا رفضت الذهاب إلى إسرائيل وواصلت الرحلة إلى أمريكا أو كندا أو البرازيل.

وعلى الرغم مما تداوله المصريون عن المعاملة الحسنة بين اليهود والمسلمين عبر التاريخ، إلا أن الحاج عبد اللطيف فوزي أمين مساعد وحدة جوهرة القائد يرى عكس ذلك تماما، فيقول إنه دخل الحارة وهو في العاشرة من عمره، فكان من نصيبه طوبة أصابت عينه، حيث كان اليهود يمنعون أي إنسان من خارج الحارة من دخولها، باستثناء قلة من المصريين كانت تعمل معهم في الورش ومحلات الأقمشة، فكان الشبان منهم يرابطون عند المداخل المؤدية إليها للمراقبة، وعندما دخل إلى الحارة سمع من يقول “جوي .. جوي” أي شخص غير يهودي، ولم يفهم المقصود بالكلمة، ولكنه فوجيء بمجموعة من الشبان يندفعون نحوه وينهالون عليه ضربا، ويضيف “بعد عام 1948 بدأت الأمور تتغير تدريجيا في الحارة مع بدء هجرتهم إلى إسرائيل وتمكن من استئجار داكن لعمل المحافظ الجلد”.

ويروي الكاتب عبدالوهاب مرسي أن اليهود الأغنياء كانوا يحتكرون فروعا معينة في التجارة، ومنهم موسى دوبك وماركو عنتيبي وجلابج، فهؤلاء كانوا يتاجرون في الخردوات ولعب الأطفال، أما مزراحي وموزاكي فكانوا ينظمون مزادات بواقي الأقمشة في المحلة الكبرى.

أما عن الشخصيات المعروفة في الحارة، فهو وكيل الطائفة والحانوتي الوحيد لليهود في القاهرة وقتها، فؤاد أمين، وهو مسلم كان يحفر القبور الرخام في مقابر اليهود في البساتين ومصر القديمة وبجوار جامع عمرو. تعلم فؤاد أمين كيفية دفن الموتى اليهود من حانوتي يهودي كان يسمى يوسف حامي، ولكنه أكد أن طريقة دفن اليهود تشبه كثيرا طريقة دفن المسلمين.

اليهود الذين ظلوا في الحارة كانوا يطلقون على فؤاد لقب “العمدة”، فيقول إنه كان “يقوم بدفن 3 أو 4 من اليهود كل أسبوع قبل هجرتهم.. أما الآن (وقت كتابة التحقيق) فقد يمر شهر بأكمله دون أن تحدث حالة وفاة واحدة.. ويتكلف دفن اليهودي المعدم 30 جنيها تدفعها الطائفة، ويزيد هذا المبلغ حسب الحالة المالية للمتوفي”.

يعاون فؤاد في عمله أحد يهود الحارة، ويدعى مايز يعقوب ماكس، من مواليد طنطا، حيث يقول عن مراسم الجنازة، فإنهم كانوا في الماضي يضعون الجثة في نعش يجره الخيول، أما الآن فينقل في سيارة دفن عادية.

وحكاية أبناء ماكس طريفة للغاية، فهو متزوج وله من البنات أربعة، الأولى جوهرة، وقد أسلمت وتزوجت من مشرف اجتماعي في سقارة، أما ابنته الثانية فاسمها إيدا، وقد دخلت الدين المسيحي وتزوجت مدرب كرة في أندية القاهرة.

أما ابنته الثالثة جميلة فأسلمت أيضا وتزوجت من موظف حكومي، إلا أن الرابعة لازالت تدين باليهودية، وتدعى فيكتوريا.